الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أنسي الحاج.. شاعر الأيام الآتية

أنسي الحاج.. شاعر الأيام الآتية
28 يوليو 2016 23:28
أحمد فرحات (بيروت) ولمّا مرت ذكرى ميلاد الشاعر الراحل أنسي الحاج الـ 79 (ولد في 27 يوليو 1937)، زيّن محرك البحث الأشهر «جوجل» شعاره برسمة للشاعر «الأنقى»، مانحاً إياه حضوراً مغايراً، وهو الذي لم يتوقف عن الحضور حياً وميتاً، علي العكس من سطره الشعري الخالد «كلما أحببتهم سقطوا من القطار»، إذ أن أنسي الحاج يبقي عصياً على السقوط من ذاكرة محبيه، ذاكرة القصيدة، وذاكرة المستقبل الشعري الآتي. منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي وأنا على تماهٍ كليّ بشعرية أنسي الحاج (1937 – 2014)، والتي لا أراها متجسِّدة في دواوينه الشعرية فقط، وإنما في مختلف أحاديثه ومحاوراته، وحتى في الأغلب الأعم من النصوص التي دوّنها الشاعر الكبير، بما فيها تلك التي حملت عناوين محض فكرية وسياسية واجتماعية ونقدية وثقافية عامة، ممن عرفناها في غير وسيلة إعلامية احتلّ فيها أنسي موقع رئيس التحرير، أو الموجّه المهني المركزي العام، وواضع العناوين أو المانشيتات... إلخ، فضلاً عن مرجعيته كقوة مفجّرة للأفكار الصحافية الجاذبة على اختلافها، والمستفزّ الدؤوب لترجمتها. فهو ينظر إلى كل شيء من حوله بعيون شعرية، وبخصوبة انهمار تلكم الرؤى الشعرية لديه في أكبر عملية طوباوية ثورية فردية قاطعة عرفت كيف تتلبّث القوة المطلقة والسحرية للكلمات. أنسي الحاج هو البوابة الحقيقية للشعر العربي الحديث. يؤكد ذلك نسق لغته الشعرية الجديدة المغايرة والمفارقة للغة أقرانه من شعراء الحداثة العرب. ففي حين ظلّ زملاؤه يقدمون لغة شعرية مخضرمة، تتناوبها صراعات القديم مع الجديد على مستوى، حتى اللفظة الواحدة، ومن ثمَّ البنية العامة للقصيدة، جاء هو باللغة الحيية الضاربة، العارية، القاطعة والمفجرة للخيال والحدس، وهما يتلاقيان غالباً عنده. سريالي عربي مستقل بوجيز العبارة، كان الشاعر أنسي الحاج يطرح نفسه بصورة إجراء منفصل عن مشهد الشعراء الآخرين. لم يكن يتوخى إلا فتح الحدود لغير المقول، أو المقول، ولكن بصيغ جديدة تفرضها متواليات الحياة نفسها، كما يفرضها، وبالتأكيد، حجر كيمياء الشعر فيه، حين يتصل بالأشياء من حواليه، فيبدّل جواهرها، ويمازجها على أشكالها، ويلج إلى خلاياها السرية. كان أنسي وحتى آخر يوم من حياته، رهان تجربته الشعرية الخصوصية، بل والمسرفة في خصوصيتها. صحيح أنه انطلق من الأجواء الدادائية والسوريالية الفرنسية، لكنه سرعان ما اهتضمها، وقلّب احتمالاتها، وكسّر أسئلتها المُتكسّرة أصلاً، مُختطّاً لذاته «نهجاً هُوويّاً شعرياً» بالغ الفذاذة، هكذا كأول سريالي عربي مستقل، يُدوّر شعريته على هواه، وبصورة من صور المبادهة والفطرة اللبنانية المشرقية، وبلغة ذات إشراق عالٍ، تتسع لاتساعه، وتتعدّد لتعدّده، حتى صارت له الأهبة الإبداعية التي تُخضع رؤية الآخرين النقدية لها، داخل الدنيا الثقافية العربية وخارجها، وبخاصة على مستوى المعنيين بالشعر في فرنسا وسويسرا وبلجيكا وألمانيا. حدثني الناقد التونسي الصديق الراحل عبد الوهاب المؤدب ذات مساء في باريس، «أن شعرية أنسي الحاج تستطيع أن تفرض نفسها على مستوى نقدي عالمي، وتستطيع أيضاً أن تنافس كل المتنافسين على جائزة نوبل، شريطة أن يتولّى أنسي نفسه ترجمة شعره إلى الفرنسية. إن لأنسي الحاج رصيده العميق، حتى بين من لا يجيدون اللغة العربية في أوروبا. إن له مكانة إبداعية ثابتة، فاعلة ومتفاعلة داخل الفضاء الشعري والنقدي الفرنكوفوني». ولما أجبته بأن أنسي لا يأبه بالفعل للجوائز الأدبية، مهما بلغ شأوها وكعبها المادي والمعنوي، لا لشيء إلاّ لأنه يرفض (وكما قال لي أنسي بنفسه أكثر من مرة) أن «يبتذل نفسه في أسواق النخاسات الأدبية الدولية المشوّهة للشعر والشعراء، حيث يحبو معظمهم على سطوح الأشياء وانبساطها العقيم». مطّ الصديق التونسي بشفتيه مستغرباً متعجباً على الطريقة الفرنسية المعهودة، وقَلَبنا الحديث معاً إلى موضوع آخر. وأستدرك فأقول: إن غريزة أنسي الشعرية مركوزة في طباعه أولاً وأخيراً، ثم في ما بعد بثقافته الشعرية والنقدية الواسعة. باختصار، كان صاحب «لن» ينتجع تجربته بكامل كيمياء غوايتها فيه انتجاعاً، غير هيّاب إلاّ لمسألة اللغة كحامل لشعريته، فاللغة كما يقول في مقدمة «لن» «في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها. لغة الشاعر تجهل الاستقرار، لأن عالمه كتلة طليعية. أجل في كل شاعر مخترع لغة، وقصيدة النثر هي اللغة الأخيرة في سلّم طموحي». تبعاً لهذا جاءت قصيدته لها قابلية التفتّح الدائم، وقدمت نفسها بنفسها على أنها قصيدة الانفجار والمصير، وحتى ما بعد الانفجار والمصير. شاعر ما بعد الحداثة ليس من التمادي في شيء القول: إن أنسي الحاج هو شاعر ما بعد الحداثة أيضاً، أي أنه على الضدّ من سائر الكتل الزمنية المحدّدة للسؤال الشعري فيه، ولذلك كنا نراه يدمج العصور والأزمنة بعضها ببعض، ويعيد تفكيكها وبعثرتها، والانطلاق خلالها من زمن الكهوف الأولى إلى زمن الناطحات الزجاجية.. طرداً وعكساً، عكساً وطرداً. وهو شاعر ما بعد حداثي، لأنه يضرب العلاقة بين الدال والمدلول، والمحدود واللامحدود، والنسبي والمطلق، والنشط والسكوني، والمرئي والمغيب وأعماق الأرض بأعماق السماء، هكذا فهو يعيش متجولاً في الأزمنة والأمكنة على هواه، يعطي الصيرورة حدوداً واتجاهات، ويرسم «للواقع» و«التاريخ» معانٍ حرّة غير مسبوقة، هكذا في كل ما يفصّله فيها ويعلله ويقدمه ويؤخره. وإذا كان الناقد والمؤرخ الأدبي ريتشارد غراي، أحد المنظّرين الكبار لـ«ما بعد الحداثة» يرى بأن أهم ما يمتاز به شاعر ما بعد الحداثة، هو رفضه لأية قواعد أو مرجعيات مستقرّة لشعره، وأن عليه، بالتالي، أن يعمل بلا نظام، وأن يُحوّل شكل الكتابة إلى مسألة تُكتشف في أثناء العمل الشعري، لا قبله، فضلاً عن مقاومته للسرديات الكبرى المهيمنة، والخواتيم، والاكتمال، والفصل بين ثقافة عليا وثقافة دنيا، فإن أنسي الحاج كان يعمل وفاقاً لهذا الاعتبار، قبل «غراي» بسنوات طويلة. جاء في مقدمة«لن»: «القصيدة لا الشعر هي الشاعر. القصيدة لا الشعر هي العالم الذي يسعى إليه الشاعر.. لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهّز قوالب أخرى، ولا ننعي التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه.. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي.. الشاعر لا ينام على لغة». لكن اللغة الخاصة التي سعى أنسي إلى تطلّبها دوماً، ليست لغة لازمة، أو ذاتية الغائية وفاقاً للمعيار الحداثي الشائع وغير الشائع، بل هي بحد ذاتها لغة قوة جماعية أيضاً، تنشق عنها بالضرورة قصيدة الجنس البشري برمته، وهو يتخبّط (أي هذا الجنس البشري) في عالم متآكل مرذول ولا حقيقة فيه.. عالم هبائيّته باتت هي وجوده الفعلي. لكأنما أنسي يتحدث عن «لاهوت» آخر للحداثة، فردي، متحرّر من أحواض القصد في القصد، ناسج لحكايات جديدة متوالية للعالم، بدءاً من حاضره الرثّ، قادرة على تمثّل الحضور بلا افتراض ولا توهّم، وبقوة يقينه النفساني شاعراً حسيّاً ينمّ عن وحدة متنامية ومتكاملة، لها ابتداء وذروة تظل تسمو إليها، على الرغم من النكوص اللاحق: «ما عدت أحتمل الأرض/‏‏ فالأكبر من الأرض لا يحتملها/‏‏ ما عدت أحتمل الأجيال/‏‏ فالأعرف من الأجيال يضيق بها/‏‏ ما عدت أحتمل الجالسين/‏‏ فالجالسون دفنوا/‏‏ ريشة صغيرة تهبط من عصفور/‏‏ في اللطيف من الربيع/‏‏ تقطع رأسي/‏‏ متعب ومليء، متعب وجميل، متعب تحت غضب الحطب/‏‏ وإني بلغت المختار/‏‏ لأن امرأة ربّتني على تراب شفاف/‏‏ لأني عثرت على الحدود/‏‏ فتحت الحدود/‏‏ لأني وجدتها وألغيت الحدود/‏‏ لم يعد لي صبر على من ورائي/‏‏ ولا على الأحياء السابقين/‏‏ عندما حصلت على الأكثر من أحلامي، حصلت على الأكثر من الصحراء/‏‏ وبعدما صعدت العرش والشجر الخالية منه الدنيا/‏‏ حواني شجر البرد/‏‏ ولم أتحكم، لكني تعبت/‏‏ ولم يبكيني أحد/‏‏ حقاً/‏‏ ولن يرتعشوا لغيابي/‏‏ حقاً كما كنت حاضراً/‏‏ ولن يستوحشوا مثل برج/‏‏ ولن يموتوا عليّ موتاً يضاهي حياتي». مفرط التكثيف و«الغموض» ببديله الشعري الداخلي أنسي الحاج. ملكة المحاكمة الشعرية الداخلية لديه قد تكون «مقلوبة»، وقد تكون «سديدة» أكثر مما ينبغي، لكنه يظل، وعلى الدوام، متقناً فن التلاعب بالتشويق الكلامي والرقص على الحافّات. أما لماذا؟ فلأن ثمة ذرة من «الحقيقة» محجوبة في كل وهم لديه، يظل يلاحقها، ويلاحقها.. ويلاحقها، حتى يفجّرها أو يزنّرها ببروتوكول الكبت من جديد لتتحوّل إلى مشروع للحرية والتحرر، يفرش بالضرورة هلوساته النرجسية المسترقة، أو فتوحاته الحاكمة الغاضبة لمحاصرتها وتفكيكها من جديد. مؤسسة القصيدة نعم، أنسي الحاج له ماهيّة شعرية منفصلة عما قبله وما بعده من شعراء. لم يخرج من مداره، البتة، منجذباً إلى مدار غيره. ومؤسسة القصيدة لديه لها صلاحية دائمة.. صلاحية أبدية لا تبور أو تبهت. وما نسمّيه التجربة عنده، تظل تقتضي منّا مجالاً أرحب للتحليل والتعليل. فنصّه الشعري ما تكاد تفرغ من قراءة أولى أو ثانية.. أو حتى عاشرة له، حتى يراودك، من داخلك، مهماز يلحّ عليك بقراءة أخرى، قراءة تفرض عليك جِدّتها وتجاوزها لكل ما سبق من قراءات. موضوعه الشعري ملتحم بذاته دوماً، ومن انصهارهما واهتصارهما تتولد ما نسميه التجربة الكتابية «الأنس حجية» المدفوعة بسببية داخلية ذات مظان شعرية لا يمكن حصرها، أو حتى تعيينها: «أخاف/‏‏ الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظّارتاي/‏‏ أتبسّم/‏‏ أركع، لكن مواعيد السر تلتقي والخطوات تُشعُّ..../‏‏ أناديك أيها الشبح الأجرد، بصوت الحليف، والعبد، والدليل/‏‏ فأنا أعرف، أنت هو الثأر العائد صلباً، فاحشاً، أخرس، وخططي بلا مجاديف/‏‏ أسدل رأسي على جبيني/‏‏ فتحدجني عينُك الوحيدة من أسفل/‏‏ النهار يتركني، الليل يحميك/‏‏ النهار يدفعني، لك الليل!/‏‏ فأركض، الليل رجل! أهرب أين وأنا الأفق؟/‏‏... ما سعر رجل حزين؟ التغضّن علامة، الغضب إبحار/‏‏ دُرْفُ الصّرْع تذيع الربيع/‏‏ وعند الصباح تتعانق المذبحة والظفر/‏‏ وحسداً أخلع وجنتيّ/‏‏ لكن الخوفّ ! ما الخوف؟/‏‏ لا تبدأ، سأضؤل وأصمت. جناحك. عينك الأفقية/‏‏ مولاي: لا! خذْ قبلي الآخرين». ثورة على معنى الفعل الشعري في اختصار، جعل أنسي الحاج الشعر العربي الجديد «يستقر» في عالمه المنفجر المتحوّل، هكذا بلا ردّات أسلوبية أو اصطلاحية إلى وراء.. بلا معانٍ مستنفدة، مستذلّة ومنهوكة. جعل الشعر خلال تجربته، خصوصاً في «لن» و«الرأس المقطوع» و«ماضي الأيام الآتية»، يصنع بريقه في استمرار، بعيداً من ضفاف شعراء الحداثة الآخرين، خصوصاً في مجلة «شعر»، أولئك الذين ظلوا، ولأجل ذلك، يخشونه شاعراً مجدّداً في الصميم. وهذه «الخشية»، هي التي جعلتهم جميعاً تقريباً، يكيلون له المديح أيضاً، ذلك المديح الذي بلّور حوله مادة للجدل والنقاش والإخراج والاستخراج، وكل ذلك بالمعنى الاحتفائي الإيجابي طبعاً. ولعل أهم من التقط مفهوم التجديد عند أنسي الحاج وتحدّث عنه في العمق، الناقدة الكبيرة د. خالدة سعيد. قالت: «التجديد عند أنسي كان يتجاوز مسألة الكتابة المختلفة، وتطوير الأشكال الشعرية، وتحرير الشعر من الخطابية. كان يصبو عبر حركة«شعر»إلى ملاقاة الحلم، والتماس الأفق الإبداعي الأروع، وإلى تجديد الصوت الإنساني، والرسالة اللغوية. فالثورة الشعرية، بالنسبة إليه كانت أكثر من ثورة على القيود اللغوية. كانت ثورة على معنى الفعل الشعري ذاته، لأن الثورة الشعرية، إما أن تكون كشفاً وتجديداً للصوت الإنساني ولرسالة الكلمة أولاً، ومن ثمّ نهوضاً لإعلاء معنى الوجود، أو لا تكون». أنسي في «جوجل» احتفل محرك البحث الأشهر «جوجل» بذكرى ميلاد أنسي الحاج في السابع والعشرين من يوليو الجاري، إذ تصدرت رسمة للشاعر الراحل موقع المحرك ويبدو فيها أنسي الحاج واقفاً في منتصف شعار «جوجل»، ممسكاً بكتاب في يد، فيما ترتفع يد الأخرى باتجاه فراشة ملونة تستعد للهبوط على كفه الحانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©