الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا بدَّ من روما وإن طال السفر

لا بدَّ من روما وإن طال السفر
27 أكتوبر 2009 23:55
ها أنت الآن تقف مرة أخرى على مشارف أوروبا.. القارة العجوز، من هنا من اسطنبول ستنطلق فاتحاً غازياً، أو هكذا تحسب نفسك، لكنك لا تحمل سوى خريطة المدن الأوروبية عليها خطوط حمراء تدلك على الطرق وعلى خطوط السكك الحديدية، وتلك الحقيبة المهترئة التي وضعت فيها نصف أسمالك، ولبست البقية لتحتمي من صقيع أوروبا الذي لم تحتمله كل الجيوش الغازية.. من تحسب نفسك؟ وما الذي جعلك تحسب نفسك فاتحاً؟ يا عزيزي كفاك حلماً، لابد أن تدرك تماماً أنَّ من هم على شاكلتك ليسوا إلا صعاليك مغامرين يعتقدون أنفسهم رحالة مستكشفين..! ربما كنت احلم، ولكنني أفقت على صوت نسائي وأنا أجلس أمام جدار زجاجي محدقاً في الطائرات الجاثمة في الخارج على أرض مطار اسطنبول، منتظرا الطائرة التي ستقلني إلى روما، الصوت النسائي كان ينادي عبر مكبر الصوت بالإنجليزية: “النداء الأخير، الطائرة المتجهة إلى روما على وشك الإقلاع، يرجى التوجه إلى البوابة رقم 9 حالاً”.. تساءلت أليست هذه طائرتي..! وفجأة أفقت وقد أدركت الأمر ووجدتني أهرع راكضاً باتجاه بوابة الطائرة مثيراً شيئاً من الرعب بين المسافرين في المطار، ووصلت الطائرة في اللحظة الأخيرة.. غريب فقط في مطار روما التي وصلتها مساء، اختارني رجال أمن المطار من بين مئات المسافرين لاستجوابي قبل التوجه إلى مكاتب الجوازات، وعندما سألت عن السبب قيل لي إن ذلك إجراء روتيني عشوائي.. فتحسرت على حظي العاثر دائماً، وعلى هيئتي المثيرة للريبة والشك، فهي ليست المرة الأولى التي يتم اختياري عشوائيا أيضاً للتفتيش الذاتي، لقد صادفت ذلك مراراً وتكراراً، بل كان الأمر ظريفاً في مطارات الولايات المتحدة فقد وصل بي الأمر أنني صرت اشك في نفسي إن لم يتم تفتيشي بشكل دقيق. وصار مظهري، وأنا احمل فردتي حذائي تحت إبطي وأنا ادخل بوابات المطارات منظراً مثيراً للسخرية والضحك.. خرجت من المطار ليلفحني البرد القارس، فعدت أدراجي إلى داخل دفء المطار، ولم أرغب في مفارقته، لكن هذه الرحلة تلح علي بشدة لإكمالها.. تدثرت ببقية ملابسي وخرجت مسرعاً نحو سيارة تاكسي توقفت أمام البوابة التي أقف خلف زجاجها السميك، طلبت من سائقها أن يوصلني لأي فندق معقول، فميزانيتي مخرومة كالعادة، وبالكاد قد تكفيني لبقية الرحلة الطويلة، ولذلك كنت أحاول ضغط المصاريف كلما تمكنت.. سائق التاكسي عجوز ألباني ليست لديه رغبة في الحديث، فانشغلت بأضواء المدينة وسرحت بفكري في هذه المدينة وفي كل المدن الأوروبية التي انوي زيارتها، وانتابتني الهواجس والمخاوف من هذه الرحلة التي أقدمت عليها بدون خطط ولا استعدادات، لكنني سرعان ما تغلبت على مخاوفي وتحليت بروح المغامرة، ووجدتني ابتسم عندما تذكرت والدي وهو يوصيني قائلا: “يا غريب كن ذيب”، وردت عليه والدتي توصيني قائلة والدتي: “يا غريب كن أديب”.. بقية من الحضارة ها أنا إذا رحَّالة غريب لست ذئباً ولا أديباً، لا اعرف أحداً في هذه المدينة الغريبة، التي كانت في يوم ما عاصمة أعظم حضارة على وجه الأرض، عرفت انتصارات وانكسارات وحكمت أكثر من نصف العالم.. ووجدتني أغرق في بحر التاريخ، فأنت في مدينة من تلك المدن المفعمة برائحة الماضي، فيذهلك أن ترى وتلمس بقايا التاريخ وآثار حضارة كان لها دور في تكوين الحضارة البشرية بشكل عام.. إنَّ مثل هذه المدن تبقى شاهداً على عظمة الإنسان وقدراته وشجاعته وحبه للبقاء حتى لو كان من خلال أطلال يذكرها التاريخ، انه حب الإنسان للخلود، وفي هذا يشترك كل البشر بالرغم من كل الخلافات والحروب واختلاف العقائد، تبقى هناك أشياء كثيرة تجمعنا من بينها حبنا للحياة وحبنا للبقاء.. لم أشعر بالمسافة من المطار إلى هذا المكان الذي توقفت أمامه سيارة الأجرة، ووجدت نفسي فجأة أمام نزل يقع في نهاية زقاق مرصوف بصخور سوداء بين أبنية حجرية قديمة.. المظهر العام للمكان يبشر بالنظافة، فراق لي حتى لو كان في هذا الزقاق الذي بالكاد يتسع لمرور سيارة واحدة، والذي قد يبعث على هواجس الخوف من قطاع الطرق واللصوص.. كما انه قريب من كل شيء ويطل من الجهة الخلفية على حديقة عامة واسعة وخضراء حتى في هذا الوقت من فصل الشتاء، فرد من العائلة شكرت سائق سيارة الأجرة الألباني العجوز، واستقبلني شاب في مدخل النزل يريد أن يحمل حقيبتي، فتبسمت وأعطيتها له وقد شعرت بالحرج لأنها قديمة ومهترئة واعتدت حملها بنفسي، لكنني تبعته إلى أن توقف أمام المصعد وسألني بانجليزية ركيكة، إن كنت أرغب في الصعود عبر السلم لكنني فضلت ركوب المصعد الضيق جداً الذي يفضي إلى الدور العلوي، حيث تجلس فتاة عادية في كل شيء خلف منضدة خشبية قديمة أمرتني بالجلوس أمامها لتسجل بياناتي وتستلم مني أجرة المبيت، ثم نهضت وسارت أمامي إلى غرفة في نفس الطابق خصصتها لي.. رميت حقيبتي ما أن فتح الباب وارتميت بجسدي المنهك على السرير، تجولت بعيني في الغرفة قبل أن أغمضهما، الغرفة صغيرة لكنها مرتبة ونظيفة وتؤدي الغرض، توجد بها طاولة صغيرة وكرسي وخزانة ملابس، أما الحمام فهو مشترك ويقع في زاوية في نهاية الممر كما قالت لي الفتاة العادية في كل شيء.. النزل تملكه وتديره السيدة “كونلي”، وهي أرملة تبدو في العقد السادس من عمرها، ممتلئة الجسم طيبة القلب.. بعد أيام من النزول ضيفاً عليها صارت تعاملني بلطف شديد.. صرت كواحد من أفراد عائلتها كما تقول، وتدعوني لأجلس معهم في غرفة المعيشة لنشاهد التلفزيون، فلا يوجد تلفزيون في غرف النزلاء القلة.. هذه المعاملة الطيبة صرت أحصل عليها من كل العاملين هنا في هذا النزل وهم قلة أيضا، فلم أر سوى شاب ربما يكون ابنها، وفتاة تسجل دخول النزلاء وتعطيني المفتاح كلما عدت من الخارج، لكن كانت هناك فتاة أخرى جميلة في الفترة الصباحية لم أتحدث معها، فهي دائما تتحدث في الهاتف بصوت هامس، ربما تكون عاشقة أو تعيش قصة حب.. معالم موحية لا يقدم الطعام هنا في هذا النزل، فإذا شعرت بالجوع ما عليك سوى أن تنزل وتسير بضع خطوات لتجد نفسك في وسط ساحة عامة يتوفر بها كل شيء فتشتري ما تشاء من الطعام من المطاعم الكثيرة المنتشرة في ثنايا الساحة وحولها.. إنها ساحة نافونا التي كانت في قديم الزمان ملعب “دوميتسيانو” الذي كان يتسع لحوالي 30 ألف متفرج، لكن مع مرور السنين تهدم الملعب، وبنيت فوق أطلاله هذه الساحة أو الميدان كما يسميه البعض.. توجد ثلاث نافورات رائعة في هذه الساحة، أشهرها النافورة الوسطي التي أبدعها النحات والفنان “برنيني” والتي تعتبر من أهم أعماله الفنية على الإطلاق، كما أنها من أروع النوافير التي تنتشر في العاصمة الإيطالية روما، وتشتهر هذه النافورة باسم نافورة الأنهر، وبها أربع تماثيل رائعة يمثل كل تمثال منها نهرا تشكل جميعها أهم الأنهار في العالم مثل نهر النيل، ونهر الدانوب، ونهر الجانج ونهر ريو ديللا بلاتا. يومها قررت أن ازور كل تلك الأنهر.. وتطل على ساحة نافونا كنيسة “سانتا أنييزي إن أكوني” التي بدأ في بنائها سنة 1652 ميلادية “كارلو و جيرولامو راينلدي” وأنهي بناؤها “بروميني” في سنة 1657 للميلاد. الفن أيضاً هناك تعتبر هذه الساحة اليوم من أهم الساحات التي تقام فيها المهرجانات والاحتفالات، وهي ملتقى للفنانين والرسامين الإيطاليين والأجانب الجائلين والذين يعرضون أعمالهم هنا في الهواء الطلق، ويمكنك الوقوف أمام رسام كاريكاتير ليرسمك مقابل مبلغ زهيد. صارت هذه الساحة مكاني المفضل اقضي فيه بضع ساعات يوميا جالسا على المدرج أراقب الناس والعشاق وهم يجلسون على بقايا المدرج أو عند بائعة الورد التي اتخذت كشكاً في زاوية ما، وباعة آسيويين يشوون الكستناء على موقد وضع فوق برميل يلتف حوله الناس طلبا للدفء.. كنت من بين زبائنهم أما طلبا للدفء والاستمتاع بطعم الكستناء المشوية الحارة وأما من أجل الدردشة والشعور بالألفة.. تشعر وأنت في ايطاليا وفي أوروبا بشكل عام انك تعيش وسط متحف مفتوح في الهواء الطلق، فالمباني أثرية والتماثيل في كل زاوية والشوارع كلها تعود إلى مئات السنين.. غموض الزمن ربما تكون روما من أقدم المدن في تاريخ البشرية ولذلك تشعر بشيء من الغموض في كل زاوية من زوايا مبانيها الحجرية القديمة وتختلط القصص بالأساطير في تاريخ المدينة القديمة، وتقول بعض الروايات إن جماعة صغيرة من الرعاة استوطنت هذا المكان في وسط ايطاليا، أصبحت فيما بعد واحدة من الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ ثم انهارت. تأسست روما حسب القصص الرومانية سنة 753 قبل الميلاد، وفي نحو سنة 275 قبل الميلاد سيطرت على معظم شبه الجزيرة الإيطالية. وشملت الإمبراطورية، وهي في أوجها، في القرن الثاني الميلادي، نحو نصف أوروبا والقسم الأكبر من الشرق الأوسط والساحل الشمالي لإفريقيا. ثم بدأت في التفتت وأطاحت القبائل الجرمانية، المولعة بالحرب، بآخر إمبراطور روماني سنة 476 ميلادية. وكان الناس الذين عاشوا في الإمبراطورية الرومانية، يتكلمون لغات متعددة، ويتبعون تقاليد وأديانا مختلفة. ولكن الإمبراطورية الرومانية ربطتهم جميعا بنظام قانوني وحكم مشترك. وقد أثار هذا الإنجاز البارز الاهتمام والإعجاب منذ الأزمنة القديمة وحتى الوقت الحاضر. وتروي الأسطورة أن رومولوس هو من أسس مدينة روما عام 753 قبل الميلاد، وإن كانت الحفريات والآثار تدل على أثار سابقة للبشر في هذه المدينة، ويرجّح إن الاستقرار الفعلي للإنسان يعود تقريبا إلى هذه الحقبة. وتم اكتشاف بقايا قرية ترقى إلى العصر الحديدي أي إلى القرن الثامن قبل الميلاد على جبل بالاتان.. رحلة في التاريخ قاد ملوك من اتروريا روما من القرن السابع وحتى نهاية القرن السادس قبل الميلاد، وكان الانقلاب على الملك الأخير حوالي عام 510 قبل الميلاد نهاية المملكة الرومانية وقيام الجمهورية. وفي أوائل القرن الرابع قبل الميلاد بدأ الرومان بناء سور سيرفيان حول المدينة على اثر اجتياح للغال، ومن ثم بتنفيذ أول قناة للمياه (عام 312 قبل الميلاد) وفي نفس الوقت، بدأ شق طريق أبيا التي وصلت بين روما وجنوب ايطاليا. واستمرت المدينة بالتطور خلال الحروب القرطاجية وبعدها (264 - 146 قبل الميلاد). وشهدت المدينة مرحلة من عدم الاستقرار، لاسيما خلال الحروب الأهلية التي وقعت في القرن الأول قبل الميلاد والتي آلت إلى استلام يوليوس قيصر للسلطة بصفته ديكتاتورا للجمهورية. وكان الديكتاتور في روما يتمتع مؤقتا بكل السلطات السياسية والعسكرية. في روما لا يمكنك تجاهل التاريخ أو الفنون بأنواعها، فالمتاحف في كل ركن من المدينة والتماثيل التي يعود تاريخ إنشائها إلى مئات السنين توجد في كل شارع وزاوية.. وفي مساء يوم أحد بعد عدة أيام ودعت السيدة “كونلي” وحملت حقيبتي ومررت في الطريق على بائعة الورد فودعتها، فسألتني إن كنت وجدت ما أبحث عنه وان كنت وجدت الحبيبة التي أبحث عنها؟ فأجبتها إنني ما زلت أبحث وسأكمل بحثي في مدينة أخرى..
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©