الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر بلغ النبع وعاد ظمآنا

شاعر بلغ النبع وعاد ظمآنا
28 أكتوبر 2009 21:56
“إن شئت أن تكتب شيئاً فاتبع الساحر نحو كهفه في الضفة الأخرى من القصيدة: اذهب إلى النبع وغادره وأنت ميت من الظمأ”. هذا القول الشعري مراوغ. غامض وواضح معاً، ويكاد لا يستقر على وجه واحد للتأويل، وكما لو أنه يخبئ المعنى في غابة أو في مغارة أو حتى يدفنه تحت الرمل، لكنه يبقى مثل كمأة وقد انفجرت للتو، يكاد يبين.. هذا القول ربما، لم يأت على ألسنة الشعراء من قبل، ولا لهجت به ألسنة أولياء، هم الذين يتحدثون إلى الطير بلغتها، في صوامعهم في الأمكنة العالية. إنه ببساطة لسركون بولص. ذلك الشاعر العراقي الذي اختار المنفى مبكرا، منذ شبابه الأول دون الحاجة إلى دفع من مكر السياسة وألاعيبها؛ بل هي الهجرة تماما إنما ليس إلى الذات بل الهجرة بحثا عنها: “مهما ابتعدتَ إلى أية بلاد بعيدة ستصل إلى قلبك في النهاية حيث يتدلّى الجرحى من النوافذ حيث الجرح يحتقر الرصاصة. والآخرون وطن دائم التنقل لا تنقصه الحجة ليصفعك في كل مكان بتجلياته الألف”. الصعلوك نشأ في كركوك، تلك المدينة العراقية ذات المسحة الزراعية، وظلّ أبرز الشعراء في جماعتها الشعرية إلى جوار الراحل جان دمّو، هذا الشاعر “الصعلوك” الآخر الذي عاش الشعر أكثر مما أنه كتبه بوفاء شديد الإدهاش لفكرة الشعر في حد ذاته؛ في حدّ عينه، لا للشعر بوصفه ممارسة يومية في الكتابة. في نهاية الستينات من القرن الماضي مشى سركون بولص في رحلة على الأقدام من بغداد إلى بيروت.. رحلة رائعة، عجيبة وغرائبية تكاد لا تصدَّق لكنها وقعت بالفعل، حمل معه فيها مخطوطا لأحد أعمال جبرا إبراهيم جبرا دون أن يخبر أحدا أنه يذهب ماشيا على قدميه ليس على طريقة المغامرين بل إن المرء، إذ يتخيل تلك الحادثة الآن، فإن بولص لم يكن سوى ذلك “التروبادور” الشاعر الرحال الذي إن لم يجد أناسا يغني لهم قصائده فإنه يقولها للوادي والجبل أو الغابة أو حتى لسحابة طائشة تمضي على رسلها أو في عجلة من أمرها. ظل الرحالة في قدره، لا تطمئن قدماه إلى درب ولا تستقر عيناه في جهة. من بيروت إلى العواصم الأوروبية فأميركا مرورا بكل مكان وعودة إلى لا مكان، هذي البيروت ـ بيروته، المدينة التي ظلّ يحن إليها ويكتب إليها قصائد أشبه ما تكون بالرسائل التي يتبادلها عاشقان قد عرفا بعضهما جيدا في ما مضي من الأيام. العجائبي إن قارئ كتابه ذو العنوان “العجائبي” حقا ولا يزال: “الوصول إلى مدينة أين” وكذلك “الحياة قرب الاكروبول” وسواهما يشعر أن القول الشعري لا يجيء من مشيئة قول الشعر بل هو التذكر.. التذكر الذي يعني إعادة إنتاج الماضي بوصفه حدثا مرويا إنما بدمع صاحبه ومقولا بدلالة الحاضر: “كنتُ قبل أن أغادر البيت أصغي إلى جسدها النائم قربي كأنه نهرٌ يجري في ألفة واديه، وأسمع النشيج”. الحاضر، غالبا، ما جاء ذريعة لماض سوف ينعقد عليه الكلام أو يجري فيه كأنه خيط الذهب في الصخر.. معتق ومصفى. ولا تنتظر من سركون بولص شيئا. لن يتحدث عن أمر آخر سوى ذلك الاشتباك الداخلي. سركون بولص، بوصفه شاعرا فردا، يرى العالم في مرآته ولا يرى ذاته في مرآة العالم. يكاد يقصّ. بل إنه أحيانا يقول الحكاية كلها كما لو يقول شيئا عاديا. لا تصدق سركون بولص. وتذكّر زمن الأغارقة. كأنه قد عاصر هوميروس في قصائد “الحياة قرب الاكروبول” هذا “الحامل الفانوس في ليل الذئاب” بل أقرب إلى زمن الحواريين والمبشرين الأوائل التائهين في سهوب سوريا القديمة. كأنه، في تلك القصائد، يقول رؤى لم تنكشف لأحد من قبل إذ فيها من التوصيف ما هو غير متوقع في قولٍ شبه عاديٍ. لا بل عادي تماما. إنما يجيء الكلام في إناء الأسطورة أو الطالع من رحمها أو من رحم حكاية غابرة.. يجيء الكلام في الإلمام والإشارة وبما يذكّر أو يكاد: “لم تكن العظمة ولا الغراب، كان أبي في حراسة الأيام يشرب فنجان شايه الأول قبل الفجر، يلُّف سيجارته الأولى بظفر إبهامه المتشظي كرأس ثومة تحت نور الفجر المتدفق من النافذة، كان حذاؤه الضخم ينعس مثل سلحفاة زنجية. كان يدخّن، يحدق في الجدار ويعرف أن جدرانا أخرى بانتظاره عندما يترك البيت ويقاتل وحوش النهار، وأنيابها الحادّة. لا العظمة، تلك التي تسبح في حساء أيامه كإصبع القدر لا، ولا الحمامة التي عادت إليه بأخبار الطوفان”. جرأة إنها جرأة القول إذ تجاور جرأة السرد، فكما لو أن الشعر، شعره، قد قيل للتو. شعر حارّ ونابض وغير آبه بإعادة القول بل هي مغامرة أن يتركه الشاعر كما هو بلا تشذيب أو محو. إنها مهارة الصانع الذي لديه شيء آخر كي يقوله، فيضيف: “أيها الجلاد عد إلى قريتك الصغيرة لقد طردناك اليوم، وألغينا هذه الوظيفة”. أهو الأكثر غريزية في علاقته بالشعر؟ أهو الأكثر قربا إلى الأسافل والعاديات والمشاعر المهملة؟ ربما. غير أنه شاعر كأنما يكتب لنفسه وكأنما لا أحد يراه ولن يراه هو الذي يرى العالم من عين “متسكع” غير آبِهٍ بأفكار كبرى أو صغرى أو أخرى حبلى بسواها.. هي الحياة في مجدها العادي وشقائها العادي وفي سيرها المتباطئ الجدير بالتأمل وبقليل من الغناء أو العناء، فلا فرق، لكن بكثير من الحزن، غالبا. هكذا يظل الشاعر يصل أبدا إلى مدينة “أين”.. مدينة الأسافل والتبطل والتجوال والتناسي لكل ما هو ماض غير شخصي .. مدينة الحيرة التي من الممكن أن يتنفس فيها المرء بملء أنفاسه والتي تبلغها أقدام الذين يجدر بهم التساؤل والقلق والتأمل والاشتباك الجواني إذ “ينبش” الواحد منهم في خراب العالم وخراب المدن بل وقبل ذلك في خراب الذات. سركون بولص هذا الشاعر الذي عاش ثم مات في الحادي عشر من تشرين الثاني العام 2007، والذي ما زال يمشي في الثلج وما زالت آثار قدميه فيه، سوف لن ينتهي في شعره عند كل الذين أحبوه، إنما سيبقى يحترق في اللهيب. الاقتباسات الشعرية مأخوذة من الدواوين: “عظمة أخرى لكلب القبيلة”، و”حاملا لفانوس في ليل الذئاب”، و”الحياة قرب الأكروبول”، و”الوصول إلى مدينة أين”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©