السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود درويش “السينمائي”.. شاهد يبحث عن “هوية الروح”

محمود درويش “السينمائي”.. شاهد يبحث عن “هوية الروح”
28 أكتوبر 2009 21:57
إذا كانت ثقافة الكلمة هي صنو الحضارة الشرقية، وثقافة الصورة هي صنو حضارة الغرب، فإن امتزاج هاتين الثقافتين وتداخل هاتين الهويتين في شريط سينمائي واحد، لابد وأن يفصح عن تراكيب مدهشة وخلاقة، يتحاور فيها اللون مع الكلمة، والتشكيل مع القصيدة والرؤية مع الرؤيا. على خمس شاشات متجاورة ومنفصلة في ذات الوقت، وبمحاذاة الملحمة التي تضيئها العبارة وتتوهج في أعطافها الصورة، يأتي فيلم المخرج النرويجي توماس هوج: “هوية الروح” الذي عرضته دائرة الثقافة والإعلام بعجمان مؤخرا، كي يكتشف أرض القصيدة المترامية أطرافها بين غرب بعيد وناء وبين شرق غامض ومقصي، فما قد يفرق بين نقيضين في الخيال الأدبي والجغرافي، يمكن له أيضا أن يجمعهما في قضية متشابكة يخلقها “الاحتلال” كغريزة متوحشة يغذيها الجشع والتعسف والغلظة الإنسانية. رسائل روحية فبين الاحتلال الانجليزي لسواحل النرويج في بدايات القرن التاسع عشر، وبين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في راهن الأزمنة الدموية المتواصلة، ثمة أرض بكر ومنسية تقع وسط قطبي الانتقام والتسامح، وعلى هذه الأرض المهجورة بالذات يقف فيلم: “هوية الروح” كي يروي للمشاهد في جزئه الأول مأساة البحار “تيري فيجن” التي دوّنها الكاتب النرويجي الراحل هنريك إبسن في العام 1861 كوثيقة شعرية تدين الظلم الإنساني أينما كان، وفي جزئه الثاني يوغل الفيلم بصريا ومشهديا في مناخات قصيدة الراحل الكبير محمود درويش: “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” التي كتبها بعد حرب العام 1967، وذلك من خلال حوار عميق وممتد بين المصائر المعذبة والذاكرات المهدورة التي أمعن الاحتلال في طمسها وتغييبها. وكان لحضور درويش كراو رئيسي في الفيلم وقبل شهور قليلة من رحيله، أثر ملحوظ في تحليق هذا البساط الروحاني الذي نسميه مجازاً “سحر السينما”، الذي يجسد خلود الشعر وديمومة الشاعر، كما يمكن لهذا السحر المرئي واقتراناً بواقعية الألم، أن يحيل البحث عن جذور المأساة إلى ما يشبه المغامرة المحفوفة بالأمل والخلاص، حتى لو كان هذا الخلاص مجرد هاجس فني معبّراً عنه بوسائط تجريبية لا تقدم خطابا مباشرا بقدر ما تهب الحياة المضاعفة لحلم تاه طويلا وسط الحروب الصارخة والهويات المتناحرة. يبدأ فيلم: “هوية الروح” ـ الأشبه بالعمل التركيبي installation الذي تعتمده الأساليب الفنية والتشكيلية المعاصرة ـ بمشهد بانورامي واسع تحتضنه الشاشات الخمس ونرى فيه صورة البحر الذي يقع بين ضفتين أو ميناءين وفي كل ميناء قلعة بيضاء تطل على غموض منتظر أو هدير مخبأ في الأعماق. يلمح المشهد ربما لسواحل النرويج في مقابل سواحل فلسطين، وما يجمعهما من قصص مشتركة حول الظلم والفقد والحطام الكبير للروح. سيرة العذابات تتفتح جماليات المشهد التأسيسي للفيلم على صورة الرداء الأحمر المتطوح في الهواء، ترافقها صورة ملتقطة تحت الماء لقارب صغير يتهادى وحيدا وسط الأمواج ، بينما يحوم العقاب بجناحين هائلين فوق مرثية البحر وأصداء الخراب البعيد، وبمرافقة اللقطات الأرشيفية القديمة للبحارة النرويجيين يدخل صوت محمود درويش وصورته التي جاوزت التعب كي يقرأ سيرة العذابات التي واجهها البحار النرويجي الفقير: “تيري فيجن” الراحل بقاربه الصغير إلى الدانمارك كي يجلب ثلاثة أكياس من الشعير لزوجته وطفلته اللتين حاصرهما الجوع، ولكنه وفي طريق عودته يفاجأ بالبحارة الإنجليز الذين احتلوا سواحل النرويج وهم يطاردونه ويحطمون قاربه ويودعونه السجن دون ذنب، وكانت قسوة القبطان الإنجليزي الذي قاد حملة المطاردة سببا في بقائه مدة خمس سنوات وراء القضبان، كما أن تعنت هذا القائد كان سببا في سقوط أكياس الشعير واختفائها في أعماق البحر، وعند عودته للمنزل بعد انقضاء مدة العقوبة يفاجأ تيري بمنزله الصغير وقد سكنه الأغراب، أما زوجته وطفلته فقد خطفهما الموت بعد صراع طويل مع الجوع والخوف والمرض. تتحول الشاشات الخمس أثناء رواية درويش للقصة إلى لوحات تجريدية ومشاهد غرائبية للطبيعة وللبحر، تتناوب خلالها الفصول المعبرة عن التحولات والانقلابات التي تعصف بحياة البشر وتقودهم إلى مصائر سوداء لا قرار لها، بينما تأخذ الموسيقى مسارات متنوعة يتمازج فيها العزف الشرقي بالغناء الشعبي النرويجي، ويجوس صوت العود والكمان والدفء في أجواء الرواية المحزنة والتنويعات البصرية الارتجالية، كي يثري مجددا هذا الحوار المتواصل في الفيلم بين الشعر والموسيقى والتشكيل. تتناوب صورة محمود درويش برشاقة وتوازن وسط الشاشات الخمس وهو يكمل حكاية تيري الذي تحول إلى: “عقاب هرم، يبحر في ضوء الشمس”، وإلى شيخ غريب الأطوار يقيم في جزيرة جرداء، لا يسبب الأذى لأحد، ومع ذلك كانوا يرمونه بالجنون،على الرغم من أنه وقبل سنوات ليست بالبعيدة كان قد أنقذ القبطان الإنجليزي ذاته الذي كان سببا في تعاسته، وأنقذ معه زوجته وابنته بعد غرق اليخت الذي جرفهم إلى سواحل النرويج ذاتها بعد زوال الاحتلال، ورغم سيطرة هاجس الانتقام عليه إلا أن تيري فضل أن يسامح القبطان، كي لا يكرر المأساة التي جرفته إلى دمارات شخصية عاشها بصمت، وخبر جرحها الأبدي من دون أن يشعر به أحد. الصورة والرمز في الجزء الثاني والأخير من الفيلم يبدأ درويش في التعامل مع جرحه الشخصي الذي يتقاطع مع جروح تيري فيجن، ويلقي قصيدته الأثيرة “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”، وهنا تتحول الشاشات الخمس إلى تلال رملية وأطياف صحراوية، بعد أن كانت في الجزء الأول مشغولة بضفاف الماء والملامح الغابوية. ورغم طغيان الصورة بكل شحناتها الرمزية والتأويلية على الشاشة، إلا أن قصيدة درويش كانت هي الأخرى تقول عذاباتها وحيرتها في دواخل الجندي الذي يكره الحرب ويحلم بالعودة إلى أمه وحبيبته وإلى زنابقه البيضاء التي سودتها الكراهية والرغبات الداكنة. وكانت الموسيقى التصويرية في هذه الضفة البصرية الجديدة أقرب لموسيقى “التكنو” المعبرة عن فوضى وخرائب الحروب، وفي المشاهد التأملية التي فرضتها القصيدة كان الغناء الساحر والغريب هو الذي يلون الشاشة بخيالات صوفية ودفق روحي يأتي من الغامض ويذوب في المجهول، حيث يعبر الغرباء بملابسهم السوداء وسط الصحراء، وكأنهم منقادون إلى أرض التيه، وإلى سراب قاحل ينخر قلوبهم ويقيم فيهم بحثا عن معابر جديدة وهدايات مستقبلية تنبذ العصبيات والأحقاد وتقيم جسرا متينا ودربا لامعا لثقافة التسامح. فيلم “هوية الروح” ليس مجرد توثيق للوجع الإنساني، إنه يغوص أيضا في محيط فني يخصه ويستجلب التأملات، كي يحاور الرموز الشعرية والموسيقية فيه دون إلحاح على تفسيرها، بل الدخول معها في لعبة اللذائذ البصرية والأشواق الروحية المنتصرة على الجانب المظلم في الإنسان. كنت أحاول النجاة من الكراهية ومن التعصب القومي» محمود درويش يروي قصة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» جهاد هديب، روى محمود درويش مرة هذه الحكاية ولم يكن يخطر ببالي يوما أنني سأعيد سردها ثانية، وبالتأكيد قد قالها لسواي وربما يستطيع إعادة سردها على نحو أفضل، حدث هذا في شقته في عمّان، وأغلب الظن صيف العام 2003 أو 2004 حيث، وبأكبر قدر ممكن من التركيز واستعادة الحدث من الذاكرة الشخصية، قال: حدث ذلك مطلع العام 1967، عندما كنت أسكن في حيفا، محكوما عليّ بالإقامة الجبرية، أي أنني لم أكن استطيع مغادرة مكاني من مغرب الشمس إلى مطلعها، ثمّ إنّ عليّ الحضور إلى مركز الشرطة الأقرب إلى وادي النسناس في الرابعة يوميا وإثبات أنني ما أزال حاضرا هناك، كان النهار لهم والليل لي. وكنت سعيدا بذلك. في البناية ذاتها القريبة إلى مبنى جريدة «الاتحاد» التي أعمل فيها، كان يسكن جندي إسرائيلي، ويوما ما طرق بابي. قال إنه يعلم بأني الشاعر محمود درويش كما يعلم بأمر الإقامة الجبرية المفروضة عليّ من قِبَل السلطات العسكرية الإسرائيلية. ونحن ما نزال واقفين بالباب. آنذاك، كانت السماء ملبدة بغيوم حرب وشيكة، لكنْ لا أحد يستطيع التكهن بموعدها، وكان جيش الاحتلال مستنفرا باستمرار. لقد سألني سؤالا غريبا جعلني أدعوه للدخول: إنْ انتصرت العرب في الحرب، فهل تأويني؟ هل تجيرني؟. بلا سابق معرفة، هكذا استضفته وقدمت له ثلاثة أو أربعة كؤوس. تحدث طويلا كما لو كان في حاجة إلى أحد ما كي يصغي إليه، غير أنّ عبريته لم تكن صافية تماما، بل فيها لكنة أوروبية شرقية. تحدث عن أمه الوحيدة في مكان بعيد، وعن غرامه الأول ثم تحدث عن الحرب ولم يكن يشعر بأي خجل أو إحساس بالذنب عندما تحدث عن ممارسته القتل في العرب، لكن مع الكأس الأخيرة كان الرجل قد وضع قلبه كلّه أمامي، باختصار. ولا شكّ في أنني قد اصطنعْتُ حيادا ما كي أسمع منه كل ما يودّ البوح به، حتى عندما كان يثير غضبا في داخلي، وتحديدا عند ممارسة القتل ببرودة كما لو أنه يذهب في نزهة. من هذا اللقاء العابر خُلِقت قصيدة «جندي بحلم بالزنابق البيضاء»، بعد حرب أعادت قتلي مرارا، لكنني، في حقيقة الأمر والآن، أتباهى بإنسانيتي، فلقد كنت أول شاعر عربي يتعرض للجوهر الإنساني لجندي إسرائيلي حتى بعد الحرب وليس قبلها، كنت قد تحدثت عن خيبته وعن رغباته الصغيرة في العودة إلى المكان الذي ترك أمه فيه، أما حلمه بخبز أمه وفنجان قهوتها فهو حلمي أنا بالتأكيد؛ أنا المحكوم عليّ بالإقامة الجبرية حينها والمطلوب مني الحصول على تصريح من الحاكم العسكري للقاء عائلتي التي كانت آنذاك تقيم في دير الأسد بعد عودة العائلة من لبنان تهريبا كما لجأت إلى هناك، هذه هي قصة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» التي هوجمت من أجلها وأنصفني رجاء النقّاش في كتاب عنّي أواخر الستينيات، حين تعرض لجوهر الأمر، فكتب أن الصراع ليس مع اليهود إنما مع الصهيونية، تحديدا. وعدائي للصهيونية صرّحْتُ به أكثر من مرة، وهي التي تتحمل كل ما جرى للشعب الفلسطيني، وهذا موقفي المعلن غربا قبله شرقا. أنا لا أريد تضليل الرأي العام العربي أو العالمي عما يمارسه ويفعله الجندي الإسرائيلي، فهذا مكشوف ومفضوح على الفضائيات، لكنني كنت بذلك أدافع عن تلك المساحة الخضراء التي تبقّتْ من إنسانيتي، وكنت أحاول رغم عذاباتي وآلامي أن أنجو من الكراهية ومن التعصب القومي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©