الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود: رحيلك قصيدتك الأخيرة

محمود: رحيلك قصيدتك الأخيرة
20 أغسطس 2008 22:34
لم أصدق الخبر·· أو لكأنني كنت أرفض أن أصدّقه· حين فتحت بريدي الالكتروني وجدت رسائل تعزية انهالت عليّ مروّعة· خالد المعمري أحد طلابي في سلطنة عُمان كتب لي في رسالته: ''أستاذي الفاضل بأي لغة أعزّيك وأعزي أنفسنا بهذا المصاب الجلل، رحل درويش، وترك الحصان وحيدا، وترك الشعر وحيدا، رحل دون أن يخجل من دمع أمّه هذه المرة''· وليد الذهلي طالب ثان من طلاب الماجستير كتب: ''كيف الحال أستاذ لطفي المحترم؟ أرسل لك تعازي الحارة في وفاة الشاعر محمود درويش الذي كنت أراك وأسمعك تستشهد بأبياته مرات عديدة· لقد كان محبا للمتنبي وأنت أيضا· للعلم لم أحب محمود إلا من خلالك شكرا لك دوما وأبدا''· ثم كان أن لم يكفّ الهاتف عن الرنين· هي ذي وحشية الموت· هي ذي فجائيته الكاسرة··· فجأة رحل الذي ملأ الدنيا· سكن مناطق لا يمكن أن تطالها غير الذاكرة· أنا على يقين من أن الشعر بيت العرب إن ضاع هلكوا· وأنا على يقين أيضا من أن محمود درويش هو أحد أعمدته التي ستظلّ تحمي هذا البيت من الانهيار· فلقد جدّد للشعر ناره ولهبه· لم يفصل لحظة واحدة بين الشعر وصخب الحياة· وفي الوقت الذي توغّلت فيه القصيدة العربية في عزلة مهلكة وكاد المتلقي العربي يشيح بوجهه عن الأشعار التي تكرّس حداثة منتحلة كالفضيحة، ظلّ محمود وفيا للشعر العربي ولوجدان الناس في كل ديار العرب· لم يكن شعره حدث قطيعة مع الشعر العربي القديم، كان حدث تنامٍ له وتغاير معه في الآن نفسه، وكان المتنبي رفيق دربه الأجمل· أنا على يقين من أن للذاكرة سلطانا على سطوة الموت· فحالما بلغني الخبر جللا مدوّيا مروّعا توالت عليّ الذكريات في بيته في عمان، وفي بيتي في تونس، وفي الرباط والقاهرة· وفي باريس حين خابرته وهو في المستشفى قد هزم الموت· وفي رام الله والبيرة في فلسطين القابعة في ظلمة الأسر· لحظة استشهد محمد الدرّة كنت في عمّان متوجّها إلى فلسطين مدعوا من بيت الشعر الفلسطيني، وفي اليوم الثاني بعد استشهاد هذا الطفل الرمز وصلت إلى فندق الـ سش ءسشزخ بمدينة البيرة بالضفة، كانت الانتفاضة الثانية تخطّ بالدم والدموع والشهادة سطورا أخرى من أمجاد شعب دوّخ الدنيا· هناك أمام الفندق التقاني محمود درويش مرحّبا وقال محاكيا اللهجة التونسية: ''سي لطفي مرحبا بك في فلسطين''· كان مبتهجا جدّا· أجبته: ''تقصد في الأشبار المحرّرة''· فاكتأبت روحه وقال لي: ''الطريق إلى البيت أجمل من البيت''· أيْ محمود، أخي وصديقي، كنت دائما تحدّث عن حورية أمّك، كتبتَ تعاليمها· وقهوتُها دارت في كل بلاد العرب ولمستُها وخبزها· الموت لم يخجل منها حين اختطف· كم كان رائعا لو أنك واصلت خجلك من دمعها ولم ترحل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©