السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد الله صقر.. أصالة المطالع وسوء الطالع

عبد الله صقر.. أصالة المطالع وسوء الطالع
13 ابريل 2011 20:45
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. “الخشبة” عنوان لافت لمجموعة قصصية أصدرها الكاتب عبد الله صقر المرّي في نوفمبر 1974 في دبي، فحققت له الريادة والسبق الزمني، ووضعته بسبب موضوعاتها وجمالياتها التقنية والطاقة السردية العالية والكثافة اللغوية في الصف المتميز من كتّاب القصة في الإمارات في مرحلة السبعينات. ومن تحت عباءة “الخشبة”، نلمح أكثر من اسم ومعنى ودلالة، فقد لجأ إلى تسمية مجموعته القصصية بما يتفق وجوهر الحالة النفسية للشخصيات التي تسكن داخل قصصه، فجميع شخصياته “مأزومة” وبخاصة في قصصه “الزوبعة” و”السقوط” و”الأمية” فيما ينفرد الكاتب في هذه المجموعة بتقنيتين، الأولى يحافظ من خلالها على (العمود السردي)، مما يخلق في العادة صراعاً بين طرفين متقاطبين، والثانية (البنية الدائرية) في القص، على نحو ما فعله في “السقوط”، حينما بدأها من لحظة التنوير، مستخدما في طريقة سرده تقنية الحدث الاسترجاعي (الفلاش باك)، إلى الافتتاحية السردية، ولاحق بعد ذلك تنامي الحبكة التقليدي، وانتهى إلى الخاتمة السردية التي جعلها بداية لقصته، حيث ربط أول السرد بآخره عن طريق إعادة بنية لغوية أو حدثية، وقد برع في هذا النوع من البناء الكاتب الروسي أنطون تشيكوف وبخاصة في قصته الشهيرة “الجلف”. إن قصص عبد الله صقر في مجموعته الوحيدة، محمّلة برؤية مميزة ومختلفة وتشكّل إضافة قوية وجديدة في المدونة السردية القصصية للقاص الإماراتي، لأن قلمه الذي يكتب بحبر المرارة الموجعة يحمل الكثير من التجريب والحس الفني العالي، فعالم صقر هو عالم الشخصيات المنسحبة من سياقها الاجتماعي الضاغط، الباحثة عن الحرية والخلاص الوجودي. وما يلفت النظر في هذه المجموعة هو نهايات القصص اللافتة والتي كانت في أغلبها تقود القارئ إلى مفارقات ومواقف صادمة وغير متوقعة وبما يثير ويستفز ذاكرته، من خلال جنوح القاص إلى (التورية) في نهايات الكثير من قصص هذا العمل الذي يؤشر لتجربة غنية تكشف عن وعي في رؤية الواقع. لكن مما يجدر ذكره قبل الدخول في التفاصيل أن مجموعة “الخشبة” تحيط بها إشكالية كبيرة تناولها العديد من النقاد معظمهم أشاد بها، لمساهمة كاتبها إسهاماً كبيراً في تأصيل نوع جديد من السرد في الأدب الإماراتي، وتصدير تجربة جديدة تقوم على انتقالات تستلهم بعضاً من جوانب الزخم الدرامي. وفي شهادة له بعنوان “بنية الشكل الفني في الخشبة” وألقاها في الندوة النقدية التي أقامها اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات لتكريم القاص عبد الله صقر بتاريخ 15 فبراير 2008، وصف الناقد أحمد عزيز الحسين المجموعة بقوله: “قصص “الخشبة” لا تصور الشخصية المحورية في حالة الفعل، بل تصورها عنصراً سردياً منفعلاً يتلقى نتائج ما يجترحه الآخرون من أفعال، وهي تحرص على تغييب المكان، وتعويم الزمان، والتكتم على الدلالة، و تهمل عند رسمها للشخصية، اسمها وملامحها الإنسانية المشخصة، إلا أنها تنثر في النسيج السردي، أحياناً، بعض الألفاظ التي تحدد منبتها الاجتماعي، والحافز السردي الذي يحركها في المتن الحكائي”. رد الاعتبار في تقديري إن أهم ما في موضوع “الخشبة” هو إدانته ومخاصمته لكل أشكال العنف والتسلط والاستغلال والتعالي، وقد أشار الدكتور يوسف حسن نوفل في كتابه “بيئات الأدب العربي في الدراسات المعاصرة” الصادر في الرياض عام 1984 إلى إشكالية هذه المجموعة بقوله: “لكن هذه المجموعة لم تصل إلى القارئ فقد صودرت لأن موضوعاتها الجريئة والشجاعة دارت حول الانجليز بشكل عنيف” (ص 188). على أن ذلك لم يمنع من أن تستعيد “الخشبة” وهجها على مر السنين منذ أن كتبت في الفترة ما بين 10 أكتوبر 1974 و20 مايو 1975، فقد حظيت باهتمام رسمي ونقدي كبيرين. وفي الندوة السابق ذكرها قال القاص السوري محمد محيي الدين مينو: “لم يلحق الأذى بكتاب كما لحق بالخشبة، ولم يتعرض قاص عربي للإهمال كما تعرض له عبد الله صقر ومجموعته وكأن سوء الطالع يلاحقها ويلاحق كاتبها نحو ثلاثة عقود، فقد حاول من جهة أن يصدر مجموعته القصصية الأولى أربع مرات، فأخفق في محاولاته الثلاث الأولى، ومن جهة أخرى أخطأ بعض الدارسين في تاريخ نشرها وملابساته، كما غفل بعضهم عن قيمتها التاريخية والفنية في حركة القصة الإماراتية القصيرة، فتوقف عن الكتابة”. إننا لم نعرف كاتباً عربياً اتخذ من القهر البوليسي والسلطوي موضوعاً لأعماله كما فعل زكريا تامر، فالمحققون والقضاة الذين يحكمون بالإعدام، والجلادون عناصر أساسية في نصف قصص مجموعته “شتاء قاس آخر” (1958)، بمقابل ذلك وجدنا عبد الله صقر في “الخشبة” يلعب في نفس هذه الدائرة (العنف البوليسي)، ولكن في إطار شمولي لا يحدد من خلاله مكان الحدث، ففي مشهدية عالية يصور لنا بدقة متناهية وقائع التحقيق والضرب والتعذيب في إحدى الزنازين، حيث يصبح حال الشخصية حال أي إنسان في أي مكان من أرجاء العالم الواسع، ففي قصته “في الناحية الأخرى كانوا يشعلون النار” يصرخ البطل بقوله: “ألمح في الطرف القريب أقدامهم وهي تتحرك نحوي، تدنو أحس بوطأتها القوية على الأرض المهتزة بي، تلطمني، رفساً وقذفاً، أتدحرج تألما ولم أجد متسعاً للصراخ، أقفلني الضرب على أضلعي عن الصراخ، وربما الكلام، غبار الأقدام والأحذية الثقيلة يدخل أنفي، لم أعد قادراً على التنفس” (القصة ص 5). من المهم الإشارة هنا إلى قضية العنف البوليسي في عالم عبد الله صقر، حيث يظهر المحققون وهم يمارسون قهراً مرتبطاً بقضايا واقعية ومحددة، إنهم يطاردون الجياع الباحثين عن اللقمة، ويطاردون المحرضين على طلب الحرية والعدالة الاجتماعية. وقد اختار الكاتب هذه الزاوية لكي ينظر من خلالها إلى واقع المجتمع، حينما تصبح لعبة الكبار هي السائدة في جميع الحالات، ولك أن تكتشف ذلك في إحدى قصص المجموعة حيث يحظر على بطلها حتى (الصمت)، لأنه لم يحصل على ترخيص مسبق حتى يصمت، فجرى اعتقاله، وربما تكون هذه المفارقة من العناصر المهمة التي استخدمها الكاتب في إطار من بساطة القالب، وتحت هذا السطح يوجد الكثير من الدلالات، أنه يلاحظ وينتقي ويحدس ويجمع لغرض خاص ـ ليس لمعالجة شرور معينة، ولكن لعرضها بدقة “ وهو من خلال هذا العرض الموجع المرير إنما يقوم بطريقة غير مباشرة بوظيفته ككاتب يعي رسالته تجاه الإنسان. من التجارب التي تبرز تطور رؤية الكاتب واغتنائها بعناصر متعددة، قصة “السقوط”، وفيها نقف على لحظة فرح صغيرة في عالم وحشي، تسوده الكآبة والتأزم والتمزق والمهانة، فهنا نجد نوعاً من المواجهة والصدامية بين بطل القصة وأحد رجال الحرس، الذي ينظر إليه ضمنا على أنه أحد وسائل القمع المعروفة، وفي مثل هذه الحالة ليس أمام أبطال عبد الله صقر سوى التمترس خلف (الكراهية)، لكن بالمقابل يقدم لنا البطل في هذه القصة نموذجاً متمرداً قوياً، رافضاً في ذات الوقت لواحد من أساليب السلوك في المجتمع، بما يجعلنا نحزن لسوء حظ هؤلاء الأبطال الذين أجبروا على التواجد في جيوب منعزلة. ويمكن القول إن في عالم صقر شيئاً ملموساً من عالم كافكا: فيه هذا الجو الكابوسي الخانق في أعماله الأولى، وفيه صور التحول التي لا تنتهي، خاصة تلك الصورة التي تتردد للمرأة، ففي قصته “الحفلة” ثمة رؤية متفردة للواقع، حيث يبدو في الموضوع نوع من التنازع على ملكية الجسد بين القطيع والجارية بطلة القصة، حيث يصور الكاتب القطيع على أنه كتلة هلامية تتحكم بها غرائزها وشهواتها، كما يصور سلبيته وكبته وازدواجيته في النظر إلى جسد المرأة الجارية، والتعامل معها بوصفها سلعة قابلة للبيع والشراء، وحين تتمرد المرأة على هذه النظرة وتمنح جسدها لمن عاملها كإنسانة يتدخل القطيع مدفوعاً من قبل الغريب (الذي يرمز إلى دور العامل الخارجي في تحريك القطيع) فينتقم منها ومن الشاب الذي ناصرها في مشهد دموي فاجع. ولعل الأنوثة هنا تتقمص دورها التاريخي، في أن تكون رمزاً متسعاً للمواجهة أيضا، وتعتبر هذه التقنية الحديثة التي استخدمها صقر في قصته جسراً يعبر عليه المبدع لمعان أكثر إيغالاً في الإفصاح عن المسكوت عنه في المجتمع. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مجموعة “الخشبة” بكل هذا الجمال الذي تتمتع به، غيبت عن القارئ لكثر من ربع قرن إلى أن أفرج عنها بتدخل مباشر من قبل سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وربما دفعت هذه التجربة القاسية كاتبنا إلى التوقف عن الإبداع والكتابة، في حين ما زال النقاد يشيدون بتجربته وبالبصمة التي تركها على المشهد الثقافي الإماراتي وبخاصة في مجال التفرد في استخدام لغة شاعرية عالية المستوى من حيث التعبير وخصوبة الخيال والاتجاه الرمزي. صور وظلال مرارة وسخرية في التعبير تجدها لدى عبدالله صقر في قصته “نشوة وسط اضطراب لعالم يموت”، فهنا مفارقة واضحة في رسم الصور الظلالية لعلاقة رجال البوليس بالناس، لكن ما يلفت الانتباه في رصد الصورة من جانب الكاتب هو احتوائها على هدوء المفردة ورصانة اللغة التي جاءت في إطار مكثف ومقتصد، مما يمكن القول معه أن الكاتب نجح في إعادة جانب مهم للسرد ممثلا في ذلك البهاء الشاعري للقول، ومن ذلك وصفه الجميل والفانتازي للأحذية التي ينتعلها قطبا الصراع في القصة، كقوله إنها (بالية)، كما يشير إلى الكتب والأوراق التي يحملها بطل القصة بأنها (ذات واجهات ممزقة متهرئة). انه يقدم لنا ببراعة شديدة تقوم على أسلوبية التقابل صياغة رمزية تقوم على اكتشاف العلاقة بين قطبي الصراع من خلال رموز شكلية صغيرة تحمل دلالات الصراع نفسه، وهذه المفردات المكثفة الموحية في الواقع هي خير تعبير عن الموضوعات التي يريد الكاتب تصديرها للقارئ، ومن حيث صياغتها التي تعتمد على الجملة المحددة التي بمقدورها أن توحي بحالة شعورية كاملة، فهي تعبير معاصر لقصة نموذجية. هنا كلمات كثيرة موحية مثل: (أحذية، كتب، قطيع، عربة، الذقون كثيفة الشعر)، وهي في الواقع صور صغيرة داخل كادر واسع لسرد يتمتع بحشد من العناصر والألوان المستخدمة في إطار شاعري. إن القصة تشير إلى سلبية القطيع تجاه مصير البطل، وتصوره لنا وهو يشرع في الصعود إلى العربة، لكن الحشد الموجود فيها يمنعه من الصعود، ويشترط عليه في المرة الثانية أن يرمي بكتبه وأوراقه (التي تميزه عنهم) كي يصبح واحداً منهم ويندمج فيهم، بعد أن كان منفصلاً عنهم، متعالياً عليهم، وحين يستجيب لرغبتهم المتوحشة يتخلَّون عنه، فيقع رأسه تحت عجلات العربة المليئة بالركاب، ويتهشم، وتتناثر دماؤه على أرض الشارع؛ فيكتفي الركاب عندئذٍ بإغماض أعينهم تحت الذقون كثيفة الشعر، بينما تتابع العربة مسيرها دون أن تتوقف في اتزان آلي. ومع ذلك لم يشعر الركاب بالأسف لما حدث، أو بالندم لتخليهم عنه، واكتفوا بأن حمّلوه مسؤولية ما حصل. وإذا عدنا في هذا السياق إلى قصة “في الناحية الأخرى كانوا يشعلون النار” سنجد أن ما تحدثنا عنه في استخدام المفردة الشكلانية معادلا موضوعيا لحالة الصراع بين الشخصيات، سنجد أن هذا المفهوم يبرز بوضوح من خلال استخدام عنصر التشخيص، أو بمعنى أدّق إظهار الملامح الإنسانية المشخصة، بحيث تلعب المفردات الموحية دور الشخصيات وبخاصة في حالة تصوير آثار التسلط والقمع على الشخصيات في القصة، فالسلطة في الفضاء القصصي (هلامية)، بمعنى أنه ليس لها ملامح بشرية محددة، بل لها أقدام تركل البطون، وقد تبقرها، وأحذية صلبة ترفس الوجوه والمؤخرات، وبنادق تهرس الأضلع... استخدام جميل للراوي يقوم به صقر في قصته “لحظة التفاوت الزمني”، فهو يصور متناقضات النفس البشرية، وصراعها ما بين الخير والشر، أو صراعها ما بين الالتزام والرغبة، في حين يعود إلى قيم وصور المجتمع البحري القديم في قصته “الأمية”، حينما ترتبط ذاكرة البحار بهبوب العاصفة. ويكتب الدكتور بدر عبدالملك حول هذه القصة: “يسترعي القاص انتباهنا لظاهرة ليس موت البحارة وعشقهم للبحر وصراعهم معه، بل ولاستمرارية ارتباطهم به، حتى وان هجروه في زمن ما، أو بسبب الشيخوخة، فالبحر للصيادين والبحارة رمز مقاومتهم وجلد روحهم وأنشودة ذاكرتهم حتى لحظة الموت”. (كتاب “المكان في القصة القصيرة في الإمارات” ص 61). مجموعة “الخشبة” التي ظلت إلى وقت قريب أشبه باللغز، ويحيط بها الكثير من الغموض، طبعت للمرة الثانية في بيروت عام 1999، وقبل ذلك صدرت في طبعة أولى عن منشورات مطابع دبي، وتتضمن عشر قصص قصيرة. كتب الناقد السوري عزت عمر عن المجموعة: “توخى الكاتب عبد الله صقر في مجموعته “الخشبة” مضاهاة التجربة الحداثية التي كانت تشقّ طريقها بحذر في المشهد القصصي العربي، نظرا لهيمنة الأسلوب الواقعي المنصرف إلى الايديولوجيا والقضايا العامة”. وفي السياق ذاته يكتب الناقد الدكتور الرشيد بوشعير حول إشكالية المجموعة: “لعل الخاصية الأولى التي تطالعنا في هذه المجموعة تتمثل في الجرأة الكبيرة في الطرح، وهي الجرأة التي تخدش الحياء في كثير من الأحيان وتتجاوز حدود اللياقة والكياسة الاجتماعية”. (كتاب “مدخل إلى القصة القصيرة الإماراتية” منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات 1998 ص 27). سمات الكتابة على الرغم من أن بعض قصص المجموعة ارتبطت بالبيئة المحلية، فقد تعامل الكاتب بحذر ومهارة في نقله للواقع من خلال اللجوء إلى (تعمية المكان)، كما انه ربط المكان بالزمان بغلالة شفافة واهية من التخييل، ولهذا وجدناه يعمد إلى الأحلام والرموز والأجواء الأسطورية، على نحو ما فعل في قصته “أحلام السقوط” حيث ينجح من خلال التوسل بالرموز في تطوير رؤيته الجمالية ويرسم لنا صوراً تكشف عن أسئلة المستقبل. قدّم عبد الله صقر في مجموعته شخصيات، تتصف بنوع من التمرد على الواقع في صورته المظلمة، شخصيات مأزومة على الدوام، تمتلك مشاعر خاصة بأنها مراقبة ومعاقبة على الدوام في محيطها، لكن رسم هذه النماذج لم يكن نمطياً تقليدياً مما نراه في القصص المنشغلة بالمحاكمات والتعذيب والمشاهد العنيفة. صحيح أن الكاتب أورد جانباً من هذا الوصف في بعض قصصه، إلا أنه نحا بها باتجاه التصوير الرومانسي الدافق أيضا، مما خفف كثيراً من حدة المشاهد وقتامة التصوير، فاختياره لشخصيات غير محددة مكانياً وزمانياً أفضى على قصصه نوعاً من الشمولية، كما سمح له بفضاء قصصي واسع كي يمزج من خلاله بين الواقع والخيالات والأطياف. في قصصه الموسومة بـ(المغني الشهير، الزوبعة، حلم اليقظة والاغتراب) ثمة جماليات وتقنية فنية تحسب لصالح المؤلف الذي قسم القصة إلى مقدمة أو بداية، ومن ثم إلى مشهد بصري يقوم على السرد الوصفي المكثف، ثم إلى نهاية شبه مفتوحة تحتمل الكثير من التصورات وتأويلات القارئ، لذا كان من السهل أن يحمل المشهد القصصي عنده جملة من العناصر دون إخلال، هذا بالإضافة إلى القدرة على تصدير نموذج إنساني (أبطال) يتمتعون بجرأة عالية وتمرد نوعي على القوانين الميكانيكية وما هو متعارف عليه، ليصل به الحال إلى إيجاد أزمة بطل وجودية في صراعه المرير والمحتدم على الدوام مع قوى غامضة تشعره على الدوام بأنه كائن ضعيف ومستلب ومهان في ظلال موسيقى داخلية تمتعت بها حركة الشخصيات داخل الحدث، مضافا إليها بعض عناصر السرد والمفارقة التي تقوم عليها أغلب قصص المجموعة التي رصدت مشاهدها بعين كاميرا حسّاسة. المرحلة التي كتب فيها عبد الله صقر مجموعته “الخشبة”، تزامنت مع فترة انتقالية، عبّرت عنها بروح وثابة منفتحة على الحياة الجديدة، التي شكلت رؤية الشباب في ذلك الوقت ومحاولاتهم الانزياح عن ميكانيزمات الحضارة الرأسمالية وتوجهاتها، ونلحظ ارتباط الكاتب بهذه الرؤية من خلال تسليطه الضوء في قصصه على السلطة، والمدينة التي لا ترحم. واذا عدنا إلى موضوع قصته “في الناحية الأخرى كانوا يشعلون النار” تستطيع أولا أن تشتم الكثير من الدلالات والمعاني الموحية من عنوانها الذي يشير الى الامكانات المخبوءة في النص الذي يروي في زمن غير محدد حكاية زعيم يمر بموكبه المهيب من أحد الأماكن غير المحددة، غير أن الصورة اللافتة في المشهد، هي تلك الطوابير من السرايا العسكرية وأفراد مكافحة الشغب... اما بطل القصة فمثل غيره من الناس الذين راقبوا المشهد، لكن أقداره مختلفة عنهم، حينما بدأ يشعر باقتراب مجموعة من الحرس نحوه، ويتنامى الوصف حتى يصل إلى ذروته: “وعندما قطّبت جبيني ذات مرة وحاجبي، دعيت للتحقيق”. وربما تعبر قصته “السقوط” عن ذات المعنى ولكن في إطار مختلف، ليس على مستوى التناول فقط، وأنما على مستوى الشكل والشخصيات، حيث ينتقل الصراع الذي لاحظناه بين قطبين رئيسيين تقليديين في القصة السابقة إلى صراع عام أو جماعي بين أبناء المجتمع. حبكة مفتوحة نجح الكاتب عبد الله صقر بهذه القصة وغيرها في أن يخلق لمجموعته بوجه عام تميزاً على الساحة القصصية العربية، لأنه لعب في خانة مختلفة المقاييس من حيث تحقيق جماليات ومحاولات في الشكل القصصي، فقد حاول أن يقتحم شكلاً فنياً يمازج بين الواقعية والرمزية القائمة على فن الاسقاط، هذا بالاضافة الى المناخات السريالية التي ميزت قصته المشار إليها بحبكة مفتوحة، وعقدة غير نمطية، ولولا هذه الرمزية التي صاغها في اطار لغة ومفردات مزدوجة المعنى لفقدت القصة نكهتها الجميلة وغموضها المحبب. لقد كتب صقر بحبر قاتم أسود لكي ينقل لنا واقعا سوداويا، تجلّت فيه نزعة التمرد، كما تجلت فيه نظرة الابطال التأملية نحو عالم بشع يجب أن يتبدل، بعيدا عن عالم الكراهية والعنف وابتذال كرامة الانسان . وتجلّى اهتمام عبد الله صقر في الخطاب الاستهلالي في نوعين هما: الجملة القصية جدا، وهي تعدّ ومضة سردية للدخول إلى عالم السرد القصصي واستشرافه، وقد بدا ذلك واضحا في عناوين المجموعة، التي تستثير القارئ وتشي بالعديد من الايحاءات، أما النوع الثاني فتمثل في الجملة الطويلة التي تشكلت في صورة مونولوج داخلي أو أحلام واعية لأبطال القصص، وقد أفضى ذلك الى ما خلق مفاجأة غير متوقعة للمتلقي، وهذا في العادة ما يصنع عنصر التشويق البناء الفني حيث تبدو الشخصيات وهي في صراع ما بين الحلم والواقع في اطار الحوار الساخر. وعلى الرغم من الاشكاليات العديدة التي أحاطت بمجموعة “الخشبة”، فلا أحد يستطيع أن يشكك في موهبة الكاتب والقاص عبد الله صقر، الذي كان له فضل السبق الزمني في تصدير أول مجموعة قصصية طبعت في كتاب، وضعته في المرتبة الأولى من كتاب مرحلة البدايات، ولو أن صقر كتب مجموعته هذه في وقتنا الحالي، لما لحق بها وما أصابها الحظ السيئ بسهامه كما حدث لها قبل ثلاثة عقود. بالمقابل فان مصادرة المجموعة وباعتراف العديد من النقاد لم يكن فعلاً كافياً لتوقف كاتب كبير مثل عبد الله صقر عن الكتابة ومواصلة الإبداع. في النهاية يظل لمجموعة “الخشبة” نكهتها ومزاجها الخاص، فقد عنى بها كاتبها عناية فائقة على مستوى المضمون والشخصيات والفكر المطروح، كما امتلك جرأة عالية حينما كتبها ونشرها وهو في سن صغيرة، إضافة الى ذلك كله ما تمتعت به قصصها من أجواء وشخصيات وصراع وحوار متنوع والارتقاء بالحدث. وما بين الأمس القريب والحاضر، تبقى “الخشبة” وثيقة مهمة ومصدراً لكتابات البدايات وما اكتنفته من تجليات إبداعية رصدت بأمانة وصدق شديدين تحولات المجتمع الإماراتي والتعرف إلى حساسية الحركة الابداعية تجاه المفاهيم الجديدة، من خلال هؤلاء الكتاب ومنهم عبد الله صقر الذين ندين له بجرأته العالية ونظرته الواثقة في معالجة قضايا خطيرة شابت المجتمع والإنسان في مكان غير محدد، حينما أخذ على عاتقه الكشف عن زيف الاقنعة في مجتمع يتجه نحو حب الذات أولا وأخيرا. لكتابة والزمن عبد الله صقر المولود في دبي عام 1952، تشير بعض الدراسات المحلية أنه نشر في أواخر الستينيات من القرن الماضي في دورية رياضية ثقافية كان يصدرها نادي النصر في دبي، قصة بعنوان “قلوب لا ترحم”، ولكنه لم يضمنها في مجموعته “الخشبة” في طبعتها الاولى، ولا في الثانية التي صدرت عن دار الفارابي. بالمجمل العام يمكن أن تندرج أو ترتبط قصص المجموعة العشر بعالم اللامعقول العصي على الوضوح القصصي المعروف والمكتوب ضمن إطار الواقعية التقليدية. وقد كتبت معظم قصص المجموعة في أوقات متقاربة الى حد ما، اذ كتبت القصص الثلاث الاولى (في الناحية الاخرى كانوا يشعلون النار، السقوط، نشوة وسط اضطراب عالم يموت) في شهر واحد هو الشهر العاشر من عام 1974، في حين كتبت ثلاث قصص أخرى في الشهر الثاني من عام 1975 وهي (الخشبة، المغني الشهير، الزوبعة)، فيما كتبت اثنتان من القصص الثلاث الاخيرة في يوم واحد، وليس لهذا التقارب الزمني في طرح عالم واحد هو عالم اللامعقول، غير تفسير واحد، هو أن الكاتب مرّ بظروف غير محددة كانت سببا في منع مجموعته من التداول في صدورها الاول، وربما تكون جرأته الزائدة في التعبير وتسمية الاشياء باسمائها وبخاصة في بث العديد من العبارات الوصفية التي اعتبرها البعض خارجة عن السياق الاجتماعي العام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©