الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحكاية كمشاركة..

الحكاية كمشاركة..
13 ابريل 2011 20:47
المقال الذي نشر في “الاتحاد الثقافي” بعنوان “تعال لأحكي لك... وتحكي لي” 2011/3/24 هي كلمة شاركت بها في ورشة يقيمها معهد جوته الألماني بأبوظبي، وبالتعاون مع جهات عدة منها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. وحين كتبت تلك الكلمة كنت أتخيل وأخاطب جمهوراً ألمانياً، إذ لم تكن لدي معلومات كافية عمَّن سأخاطب في تلك الورشة، لكني في الأخير وجدت نفسي أتكلم مع مجموعة من الفتيات الإماراتيات، واللواتي يشاركن على ما بدى لي، كمحاولة لخلق جسر بين ثقافتنا الشفاهية، ممثلة هنا بالحكاية الشعبية، وبين هذا “العالم الافتراضي” المتدفق عبر وسائل الإعلام والإلكترونيات، والذي يجعل، وخاصة الأمهات منهن، يشعرن بالقلق على بناتهن وأبنائهن من “تسونامي” المعلومات هذا. رغم أن القلق في مثل هذه الحالة يكاد يستبد بالجميع، وفي مقدمهم السلطات، وليس أدل على ذلك إلا كيفية تعامل تلك السلطات مع تلك الوسائط ومستعمليها، خاصة بعد نشوب ما عاد يُسمى بـ “الثورات العربية”. وبعد أن اكتشفت جمهوري، قرأت جزءاً من الكلمة الطويلة التي كتبت، ومن ثم تركت باقي الوقت للنقاش. خليط كانت البنات في البدء متمنعات عن إبداء آرائهن، ولقد لاحظت بأنهن خليط من المنقبات والمحجبات، وواحدة أو اثنتين فحسب من يكشفن عن بعض من شعورهن، ولم يكن ذلك من الأمور التي تجعلني أتلكأ في طرح الأسئلة، والمزيد منها، فلقد علمتنا “الثورات العربية”، في أول دروسها، أن هذه الاختلافات التي كانت تؤججها السلطات، ما هي في الحقيقة إلا اختلافات سطحية، فنحن في العمق، وأياً كانت أفكارنا نعاني من الظروف نفسها، وتكاد أن تكون أسئلتنا الحياتية العميقة هي ذاتها، وحسبما فهمت فإن “الورشة” تعمل على إعداد الفتيات لتحويل “الحكاية الشعبية” الى منتجات صورية حديثة (مطبوعة أو إلكترونية على الأرجح). وعلى هذا الصعيد أكدت على رأي قديم لي بأن ذلك يحتاج الى أمرين هامين، أما الأمر الأول منهما فهو جمع الحكاية الشعبية، إذ لا يوجد ولحد الآن أي جهد مؤسساتي لجمع الحكاية، وأي جهد فردي كالذي قمت به، أو يقوم به غيري، لن يقدم إلا شرائح أو حالات أو اختصارات من تلك الحكاية. الحكاية شفوية وعليها أن تدون، وهنالك شروط شفافة لتدوينها. فقد تكون هنالك حكاية عالمية ولكن حين تروى في أبوظبي أو في عجمان أو في خورفكان فإنها تروى وهي محملة بسياقات ثقافية واجتماعية خاصة، فالحكاية ليست في نمطها “السردي” فحسب، وإنما في لحمها وشحمها الذي يكسبه الرواة، مع تمايز رواياتهم لها. وقد لا نلحق على تدوين روايات من هم الآن يقتربون من الثمانين مثلاً، وهي خسارة كبيرة، فكلما تأخر الجهد المنظم لجمع الحكاية كلما كان الفقدان على هذا الصعيد مؤكداً. ولا شيء في الحقيقة يبعث على الأمل في هذه النقطة. والجمع المؤسساتي الذي أقصد يحتاج الى تدريب مكثف تقوم به ما يسمى بالمؤسسات الثقافية، وخصوصاً الاتحادية منها، كما كان من المفترض أن يكون من الاهتمامات الرئيسية عند المؤسسات الأكاديمية. ولكن كل ذلك لا يحدث مع الأسف، وغياب المؤسسات الأكاديمية عن القيام بدور ما، يقودنا الى الأمر الثاني، فتحويل تلك الحكاية، ومتى ما جمعت بشكل جيد، الى منتجات ثقافية حديثة ومعاصرة بحاجة الى تأسيس كوادر في السيناريو، بمختلف أشكاله، والرسوم التوضيحية، أو ماذا تسمى، وبمختلف أشكالها كذلك، وبالجرافيك. وكل ذلك يعلم الجميع هي علوم واختصاصات ولا ترزق للفرد منا بالوحي، وإذا ما حاول الفرد منا أن يعتمد على قواه الشخصية فحسب ويغامر في هذه الحقول، فإن النتيجة على الأغلب ستكون متأخرة كثيراً عما تطرحه المجتمعات الأخرى من منتجات، فهي “صناعة” و”سوق” ضخم لو يعلمون. وبالتالي، وإذا ما تحدثنا هنا عن المتلقي الطفل، فإنه سيفضل ذلك “المنتج” الباهر الذي يخاطب ذكائه المعتاد، على المنتج المحلي الذي كثيراً ما يكون بعيداً عن محاولة جذبه وتشويقه. التشويق في الحكاية عموماً، سيكون له موقعاً طويلاً من حديثي مع فتيات تلك الورشة. ولكن قبل ذلك سأذكر بأن إحداهن قالت لي إنها ومجموعة من زميلاتها قمن بجهود للحصول على دعم في محاولة فعل شيء في هذا الحقل، إلا أنهن لم يجدن أي مساند. وأنا في هذه الحالة متأكد بأن المساندة من المؤسسات الرسمية يمكن إدراجها في حكم المعجزة إن حدثت. وعلى الدوام كان الجهد الفردي هو الأساس وهو المنجز، لكن ومع مثلها من الشباب يمكن الانتظام في مجموعات صغيرة قد تحقق المعجزات، وحدث ذلك لدينا هنا مثلاً على مستوى تطوير السينما، ولعلها كذلك من الدروس التي تقدمها لنا “الثورات العربية”. ولعل من مشكلات تعاملنا مع الحكاية في الثقافة العربية هي رغبتنا اللحوحة دوماً لتحويلها الى موعظة وعبرة. ولعل لهذه الرغبة أسبابها الفائرة في تفكيرنا التقليدي، والتي لا أجد مجالاً في هذا المقال للتطرق إليها. التشويق رغم ذاك فإنني أكدت على حاضرات تلك الورشة بأن أهمية الحكاية في لا نهائيتها في التشويق والتعجب والاندهاش الذي يتعرض له متلقيها. إن حكمة ما أو موعظة أو وصية تنهي الحكاية، فهي في الحقيقة تنهيها، أي تبطل فعالياتها، فالعمل الحقيقي والمفيد والمؤثر الذي تفعله الحكاية يكمن في مقدار ما تثيره من الدهشة. الدهشة تغير البشر، تفتح الأسئلة، تغير لون الدم، تملأ الأرواح بالأمواج، أما المواعظ والخلاصات الجافة فإنها تقتل تلك الروح الطفل الغني به الإنسان، تقتل تلك الحركة التي تتصاعد فيها الأنفاس، والمشهد الذي يختلط فيه الخوف بالخلاص، والخيط بالإبرة، والنزول بالصعود، والخروج بالدخول، والداخل بالخارج، والحياة بالموت. ولقد قادني ذلك الى ملاحظة أن مجتمعنا التقليدي قبل ما يُسمى بـ”عصر النفط” كان يعتمد الحكاية، كمكون ثقافي أساسي، وكان الحكي، الحكي عن كل شيء: حكي ماذا فعل الفرد اليوم؟ وماذا سمع عن الآخر؟ وحكي حكايات الأولين، وحكي حكايات الإنس والجن، ممن يعرف وممن لا يعرف، وحكي الحكايات الخرافية... أقول إن ذلك الحكي هو ما كان يساهم في “تنضيد” المجتمع، وتعميق المشاركة فيه، أما الآن، وبعد ما أصابنا من التطور، صرنا لا نحكي لبعضنا البعض، لا الزوجين يحكيان، ولا تحكي الأم لأطفالها، ولا يحكي الصديق لصديقه. الكل يهرب من مرح الحكي ومشاركته باسم الوقت وباسم المشاغل وباسم الحياة الحديثة... بينما لا تقوم حياة، ولا تتعمق، ولا تواجه مشكلاتها إلا إذا وصلنا الى المرحلة التي نستطيع فيها أن نحكي فيها بحساسية ولذة، كما بتشويق وعمق الى الآخر: أزواجنا أو أطفالنا أو الأصدقاء، وكذلك لمن نعرف، ولمن لا نعرف... ولعلِّي أود أن يكون هذا من الدروس التي تعلمنا إياها “الثورات العربية”. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©