السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طلاسم وألغاز في السَّلالمُ الرمليّة لسليم بركات

20 أغسطس 2008 22:38
السلالم الرمليّة هي الرواية الأخيرة للروائيّ سليم بركات، وقد صدرت عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر· الرواية مقسَّمة إلى عشرين فصلاً، عشرة منها معنونة بالعربيّة والعشرة الأخرى معنونة بالأجنبيّة، كأنّ الكاتب يريد أن يزيد من الطَلْسمة والألغاز، وإرباك القارئ المُربَك أصلاً أمام رواياته، وإدخاله في دوّامات البحث عن معانِ للعناوين، قبل أن يتكلّف عناء البحث عن تأويل الوارد فيها من مضامين، أو تفكيك رموزها، وافتراض تفاسير وشروح لها·· وكما قسّم الكاتب عناوين فصوله بين اللغتين، نراه قسّم الفصول ذاتها بين عالمين متناقضين، جمع التنافر والتعاكس في عالم روائيٍّ واحد، من جهة عالم التحضُّر والمدنيّة بكلّ أضوائه وابتكاراته، ومن جهة أخرى عالم الصحراء بكلّ ما فيه من رمال وأدواحٍ وجمالٍ وإبلٍ ومواشٍ ونباتات·· وقد وردت أسماء الأمكنة والشخصيّات المتخيَّلة أيضاً غرائبيّة مبتدعة كعادته في الكثير من أعماله السابقة، ''بيغون، تاهشين، كاروكشين، باكالبا، جانكوه، تالماجور··''· ينبئ باكتشاف أطالس غير مكتَشفة، يعلن عنها بلغة لا تملّ من البحث عن الأغرب فالأغرب، لاستخراجه بعد شحذه وتقديمه، تنغلق عوالم مختلَقة، صحارى مسمَّاة، على الكثير من القرّاء، وتفتح بوّاباتٍ، في الخيال، جديدة·· وقد يحلو للبعض الظنّ أنّهم قد كشفوا شيفراته، وذلك باعتمادهم التأويل وتأويله، من دون أن يتيقّنوا ممّا توصّلوا إليه من افتراضات ومزاعم، حيث تبقى روائيّة ساحرة باللامألوف وسارحة فيه في الآن نفسه، يعاني القارئ من صعوبة تهجيها، تفكيكها وتركيبها، ويحرّض الأذهان على التنقيب عن معانيها قبل الغوص في الأبعاد الأخرى التي يفترضها، كما أنّه يجبر الساكِنَيْنِ على الالتقاء في كثير من الأسماء، من دون أن يتقيّد بقاعدةٍ تحظر ذلك، ومن خلال ذلك يلاقي عالمين متحرّكين في عالم واحد ثابت، عالم بضوضائه وسرعة الزمن الخاطفة فيه، والآخر بهدوئه وانفتاحه على كلّ الاحتمالات وسكون الزمن فيه·· مسافرون ينتظرون في محطّة القطار قطارهم الذي سيقودهم ويلقي بهم دون أن يَعنى بمصائرهم ولا إلى أين سينتهي بهم المطاف، كأنّ لوحة الإعلانات تحمل بشرى ما بنبيّ جديد، ذلك بحسب قول غير مكترث يبشّر بدوره بظهور نبيّ ذي رسالة جديدة، وقد يكون النبيّ الجديد هو الحضارة بكلّ ما حملته وتحمله كلّ يوم من جديد، مكتسحة العالم بجديدها، وما يشي بذلك هو قوله أنّ أحد مفرزات الحضارة وهو القطار، يستعرض على الواقفين المتفرّجين آيته الصاخبة· يستنشقهم كدخان· وممّا يسرده عن القادم: ''هناك مَن يبحث عنّي، هناك مَن سيخبرني شيئاً عن النبيّ الجديد، القادم إلى عشاء أبي يالوه''· تتجاذب شخصيّات الرواية توصيفَ الرمل، أنّى تلفّتَّ فثمّة رملٌ قبالتك وفي جوارك أو يحيط بك، الرّمل في الرواية مفتاح فصولها، ومن صفاته الكثيرة، أنه يخفق، يتذرذر، يتطاير، يتموّج، يركد· كما أنه مُروْحَن؛ مبثوث فيه الروح، أو هو الروح، ''الرمل روح· الأرواح خفيفة عادة''· وهو ناعم، غامرٌ برمليّته، وقد يصاب المتأمل فيه خيراً بخيبة رمل، أي بخيبة أمل، رمى الكاتب من خلال جناس حروفهما إلى جناس مفعولهما· وهو في مكان آخر الشقيق، ذو الرسالة، وكأنّه يريد بناء الحضارة وفق مخطّطه الخاصّ، تغدو ذرّات الرمل مكعّبات بين يديه، يعيد بها إعمار ما سيتلف من أنفاق بعد خيبة أمله ـ رمله، وبعد التظائه بالرمل المروَّع، الذي يزيّن الأحجار ويصبح لها خماراً، ثمّ قبل النهاية، هناك إيصاء من الكاتب، في محاورة بين باكالبا وبالبور في الفصل الأخير، بكتاب تدريب للأقدام على ارتقاء السلالم الرملِ· يسهب الكاتب في لعبة التعاريف التي عُرف بها، حيث يقلب الصورة متلاعباً باللغة، مخترعاً صوراً جديدة، ومنها مثلاً: ''البحر ضعف في منطق الرسم؛ ثرثرة في منطق اللون· البحر قمامة السماء يجمعها الرسّامون في براميل خيالهم، ثمّ يدلقونها علينا· البحر صدأ أزرق''· ''الأنفاق عناية المعجزات الصغيرة بيتامى المعجزات الكبيرة· الأنفاق سطور في آخر كتابة دوّنها الآدميّ''· ويقول في تعريف الشطرنج: ''الاحتكام إلى اللامتوازن· التبعيّة للغضب· اللانجاة· دخول إلى الحصار بلا أمل في الخروج منه· الشطرنج إقامة في المهجور الذي لا تعرفه حروفك اللقيطة، يا بيغون''· ''الرسم شجار بين الأصل والنسخ''· ويستمرّ الكاتب كما في رواياته السابقة ''فقهاء الظلام''، ''الأختام والسديم''، ''دلشاد''،·· وغيرها، في تدبيج وتحضير وَصَفات غذائيّة يوصي بها لتعتمَد، أو ينثر أسماء الكثير من النباتات والأطعمة، ''خمائر العصفر ممزوجاً بكيلوس جرادة العدس، زهور البابونج، ورق الخبيز، الزبيب··''· الصحراء (لوكهين) تجتاح الغرب· فتبدو مترقّبة بحذر منتظرة على مهلٍ، كنهاية، يُحتّمها الراوي، ستؤول إليها الحضارة الرمليّة·· هل هذه نبوءة رمليّة يتنبّأ بها الكاتب، حيث سيغمر الرمل الغرب، ويقضي عليهم ليعيدهم إلى الأصل ـ الرملِ، فمدنه من رملٍ، ضالّة ومضلّة، كما كانت مدن الملح لعبدالرحمن منيف· عالمان متنافران، يربط الكاتب بينهما، يجندلهما معاً فصولاً متتالية تترى في رواية تتّشح بالرمل، تؤمن وتُلحِد به، تتزيّا به، تجيّره واللغةَ كلاً منهما للآخر، ليحيّر بهما معاً ويُربك·· هل فاجأ سليم بركات قرّاءه ومتابعيه، ولاسيّما أنّهم اعتادوا على المضيّ في عوالمه الغرائبيّة التي افتتن بها، وفتن بها طويلاً كثيرين، أم أنّه فرض عزلةً واستيحاشاً يحياهما وأحيا بهما شخصيّاته، وسرد كلّ ذلك رواية ليحتلّ بها قرّاءه غازياً انطلاقهم··؟! هي التآويل تنفتح على مصاريعها مع بركات، كونه عرّاب المتاهة وخيال الهاوية· كما يصف نفسه··
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©