الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حارقو أنفسهم.. يحلمون

حارقو أنفسهم.. يحلمون
13 ابريل 2011 20:58
أصبحت مسرحيّات الممثل الواحد “وان مان شو” ظاهرة في المشهد المسرحي التونسي، فعددها في ازدياد يوما بعد آخر، بل هناك بعض الممثلين ـ على غرار رؤوف بن يغلان ـ من “تخصّص” في هذه النوعيّة، فبعد مسرحية “مثلاً” التي تقمص فيها دور “خادمة”، وكشف على لسانها تجربتها المريرة وما عانته من سوء معاملة العائلات التي اشتغلت لديها، واصل في هذا النوع من المسرح بعرض آخر عنوانه “نعبّر ولا ما نعبرش” انتقد فيه غياب حرية التعبير مع إشارات على استحياء لبعض مظاهر غياب الحريات الذي كان سائداً في العهد السابق. وهذه الأيام، فإنه يعرض مسرحية جديدة بعنوان “حارق يتمنى” يتناول فيها قضية الهجرة السرية والشباب الهارب على قوارب الموت إلى أوروبا. يرى البعض أن التجاء العديد من المخرجين والممثلين لنمط مسرح الـ”وان مان نشو” مبعثه مالي، فمث هذه العروض لا تحتاج إلى مقدرات إنتاجية كبيرة كما أن الممثل يريد أن يكون المردود المادي كله له وحده، وهناك من يقول إنّ المسرحيين الذين اختاروا هذا الشكل إنّما هم يميلون إلى السهولة، ولكن هناك من يقول إن مسرح “الممثل الواحد” أصبح ظاهرة فنية فرضت نفسها، وهو نوع لا يتطلب أموالاً وافرة، وتؤكد الممثلة سوسن معالج أن انتشار هذا النوع المسرحي في تونس هو “نتاج فراغ مسرحي”، وهي تضيف أن الميل إلى السهولة هو سبب كثرة هذه النوعية من المسرحيات ذات الممثل الواحد وأن الربح السريع هو أيضا سبب إضافي ووصفته بنوع مسرحي “مزيّف”. ولكن الحقيقة إن مسرحية “حارق يتمنّى” لرؤوف بن يغلان هي من نوع الكوميديا السوداء، وهو يقول أنه سافر خصيصاً إلى إيطاليا لمعايشة الواقع المر لـ”الحارقين” و”الحارق في اللهجة الدارجة التونسية هو الشــاب الذي يهاجر خلسة إلى أوروبا والكثير منهم يموتون غرقا في مراكب الموت”، ويقال إن الاتحاد الأوروبي موّل رؤوف بن يغلان لإعداد هذه المسرحية بهدف ردع الشباب عن ركوب قوارب الموت بحثاً عن الجنة الموعودة في أوروبا، وهذا التمويل والاهتمام الأوروبي بهذه المسألة مبعثها خشية تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين خلسة من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى شماله. وقد اكتفى رؤوف بن يغلان في الديكور بمقهى وميناء اعتباراً لكون كل الحــارقين يجتمعــون في مقهى ثم يبحــرون من ميناء في اتجاه الجنة الموعــودة، والكــثير منهم هلكوا غرقاً ولم تسـترجع عائلاتهم حتى جثثهم التي التهمتها الأسماك والحيتان وحتى من ينجح في الوصول إلى إيطاليا فإن عدداً منهم يعود في توابيت، ويأتي غالباً الخبر المشــؤوم عبر الهــاتف ليعلم العائلة أن ابنها قد مات، وفي أغلب الحالات يكون الموت في ظروف غامضة. وعموماً، فإن الكثير من عمليات القتل تتم كتصفية حسابات بين التونسيين أنفسهم. تستمد المسرحية موضوعها من واقع الشباب التونسي الحالم بالهجرة، وهي تقدم في أسلوب ساخر لاذع قصة شاب واسمه بلقاسم “أبو القاسم” عاطل عن العمل، وهو خريج جامعة يبحث عن ضمان مستقبله المهني، وأمام انسداد الأفق أمامه، فإنه أصبح يحلم بالهجرة إلى إيطاليا على غرار جل الشباب التونسي العاطل. ويتخلل العرض المسرحي حوار ثري يتقمص في أدائه رؤوف بن يغلان عديد الشخصيات، وقد تفاعل الجمهور الذي تابع عروض هذه المسـرحية مع النقد اللاذع الذي تضمنته ومنها مشهد تعرض فيه بجرأة ـ وقبل سقوط النظام السابق ـ ولو بشكل فيه تورية لسرقات أصهار الرئيس السابق من “الطرابلسية”، وقبل فرار الرئيس المخلوع فإن الجمهور كان متعطشاً للمبدعين القادرين على تعرية الواقع المرير الذي كانت تمر به تونس. والمسرحية تجد اليوم نجاحاً أكبر؛ لأنها عالجت مشكلات كان مسكوتاً عنها في فترة الحكم السابق وأصبحت في الفترة الحالية محل نقاش عام في جو من الحرية. كما تعرضت المسرحية إلى بعض مظاهر الفساد والرشـوة التي كانت ســائدة في تونس قبل الثورة، من خلال مشهد يدور فيه حديث بين الشــاب العاطل عن العمل والحـالم بالهجرة الســرية إلى إيطاليا وبين صديق له ينصـحه بالتخـلي عن مبادئه واتباع أســاليب ملتوية وغير شـريفة لحل مشـكلة بطالته التي دامت أعواماً. وقد سخرت المسرحية من بعض المسؤولين الذين تخصصوا في إلقاء الخطب الجوفاء الواعدة بمستقبل وردي لم يأت، ولا شكّ في أنّ الجمهور تفاعل مع المسرحية؛ لأنها تعكس واقعاً مريراً لآلاف الشبان المثقفين والعاطلين عن العمل والحالمين بالهجرة إلى أي مكان في العالم يجدون به شغلاً ومورد رزق. وكما يعلم الجميع، فإن بطالة الشباب الحاصلين على شهادات جامعية عليا كانت أحد دوافع الثورة التي أنهت حكم الرئيس السابق، كما عرّت المسرحية الخطاب المزدوج لدول الشمال في أوروبا والتي ترفض من جهة الهجرة غير المشــروعة، في حين أن أرباب الأعمال يرحبون بها لأنها توفر لهم يداً عاملة رخيصة دون أي ضمانات. ولم تخل مســرحية بن يغلان من نقد لاذع للخطاب الإعلامي الخشبي الذي يصور الناس والحياة في أبهى مظهر وإن كل شيء على ما يرام، وهو الخطاب الذي كان سائدا في التلفزيون وكافة وسائل الإعلام التونسية، أما اليوم فإن الإعلام أصبح حراً ولكن عدداً كبيراً من الشباب العاطلين عن العمل لا يزالون يحلمون بالهجرة إلى أوروبا والعمل والإقامة فيها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©