الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلام الريشة.. حصى

كلام الريشة.. حصى
13 ابريل 2011 20:58
يتعدى الإبداع الحدود، فتراه يرحل في الزمان والمكان، يبتدئ الإبداع برحلة المكان أولاً، يرتحل الإبداع في الزمان ثانياً، حين يتنقل الفنان، قاطعاً الأماكن، تراه يقتنص منها الأجمل، تراه يصر على أنه وجد الجمال في هذه الأرض، يعشقه، يظل هاجسه الوحيد. والأغرب حقاً في الفن التشكيلي بخاصة أن المكان كان عنصراً مهيمناً على هذا الفن، حتى في بنية أعمال البورتريه، إذ ترى الأرضية، الكرسي، الخلفية.. مكانية.. وبعد أن ينجز العمل تماماً يدخل رحلة الزمان، ذلك الذي خلد بالتزامن مع قمة الإبداع أعمالاً كبيرة صارت أشهر من صانعيها.. الفن صنعة، ولو أردنا الإضافة لقلنا “إن التشكيل يلعب في فضاء المكان والموسيقى تلعب في فضاء الزمان”.. نعم.. الموسيقى عنصر زماني، لا يشير الى مكان محدد، بل يوهم به، يتخيله، أما التشكيل فلا يشير الى زمان محدد، وهذا ما جعل الفنانين يلتقطون الأماكن التي يعشقونها، بل يوهم بها، يتخيلها، يرون فيها الجمال كله. قادني الى هذا الموضوع معرض أقيم قبل أسبوع في أبوظبي للفنانة التشكيلية الألمانية إيرينا كرول بتنظيم من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. عرضت كرول ما يقرب من 40 عملاً فنياً، بعضها يشكل مع بعضها عالماً واحداً، منفصلاً الى حد كبير عن العالم الذي يجاوره.. وإذا أردت أن أفصل في عوالم هذا المعرض لقلت إنه يقسم الى ثلاثة عوالم وهي: 1 - عالم الحلم. 2 - عالم الطبيعة “الحصى”. 3 - عالم التجريد. ما يدهش حقاً في المعرض، ويلفت الانتباه، عالمان وهما “الحلم والطبيعة”، أما الحلم فقد تجسد في عدد من اللوحات التي امتلكت حساً واحداً وتوجهاً واحداً، واستخدامات لونية واحدة، 8 أعمال بحجم يقترب من 140X120 سم تروي حكاية، تمتلك سرداً مفعماً بشافية أنثوية، طفلان بلباس أبيض يتنقلان في الزمان، يعيشان لحظات اقتنصتها كرول من حياتهما، في عالم محجوب بغلالة بيضاء أشبه بستارة مسرح شفيفة. كرول تقدم لنا نصاً مسرحياً في عدد من اللوحات، مسرح تعرض فيه رقصة الحياة وتقلباتها، بالية من الرشاقة والدقة في الإيماءة والحركة في نسق جمالي عالٍ لوهم السيقان المتحركة، حتى أننا نحس فعلاً أن ثمة موسيقى خارجة من اللوحة. مداخلة نصية استفادت ايرينا كرول من توظيف فن الباليه في لوحاتها هذه من اشتغالها لفترة طويلة بتنفيذ أزياء عدد كبير من الأعمال المسرحية لشكسبير “حلم ليلة صيف”، وشيمانوفسكي “الملك روجر”، وبيراندللو “عمالقة الجبل”، وبولجاكوف “الجزيرة الأرجوانية”، وإبسن “عدو الشعب” و”أشباح”، ومروزيك “على الأقدام”، أي ما يقرب من 14 عملاً مسرحياً ومنها أوبرا “مغناة”. اللاشعور في اللوحة تحكي إيرينا كرول حكاية حلم لطفلين تقلبا في الحياة وحملا معاً مشاعر ذاتية اختفت في لاوعيهما، ولاشعورهما الباطن الذي عبرت عنه بعالم من الحياة خلف املاءة الشفيفة البيضاء، المنثورة فوق الجسد الطافح بآلامه، بأفراحه، بنواياه، بأحلامه، هذا الجسد الذي يمثل كل ما اكتنزه اللاوعي، جسد يجلس على كرسي ينقل ساقيه في حركة راقصة، غريبة، حين نتأمل أطراف القدمين نجدها وقد أخذت مرتكز قفزة الباليه، أما الجسد برمته فهو المسجون خلف هذا العالم الذي يخفيه وراء الستارة البيضاء الشفيفة. 8 أعمال تجمعها ثيمات ثلاث هي أولاً الجسد وثانياً الكرسي وثالثاً الملاءة البيضاء التي تميل الى اللون الحليبي. تنتهي هذه الحكاية عند لوحة أخيرة تحكي القصة برمتها.. كرسي فارغ لا غير. لعبت إيرينا كرول على المعنى هنا عبر الشكل المخفي، لعبت على حركة الملاءة/ الستارة/ الغلالة البيضاء.. سمها ما شئت، إنها اللاوعي/ اللاشعور المخفي في ذواتنا عبر رحلتنا في هذه الحياة. استخدمت كرول عدداً مختلفاً من الأشكال المختلفة للكراسي في لوحاتها الثماني وكأنها تشير أو تلمح الى الزمن الذي يمثله كل شكل، كلاسيكية منحوتة، معاصرة منسابة، في ألوان واحدة لم تتغير في جميع اللوحات/ البياض/ اللون الساجي الغامق. وتختتم كرول موضوعها “الحلم” بأن تفتح يد الجسد اليمنى خارجة في إحدى لوحاتها من غلالتها الأبدية لتطير حمامتان في أفق معتم وكأن الملاءة أو الغلالة قد تمزقت كي تطير الاشياء الى أفق بعيد، كاشفة عن كرسي فارغ من أي حلم، حملت هذه اللوحات الثماني أسماء موسيقية منها “أرتست”، و”دافا 2”، و”سوبرانو”، و”ماني”، و”دانزا”، و”آمور 2” وقد رسمت بالمكس ميديا وبالاكرليك على الكتان. الطبيعة تتكلم حملت بعض أعمالها عناوين واضحة وبخاصة في موضوع الطبيعة إذ أطلقت عليها جميعاً بـ “حبة رمل” Grain of Sand، والتي يمكن اختصارها ثانية بـ “الحصاة”. حصى كثيرة، بأشكال مختلفة، بألوان لازوردية، حمراء، صدئة، حصى ملونة بلون الماء والملح والرمل، حصى خرزية بألوان البحر والسماء، حصى بيضاء شفيفة. حصى تحكي حصى حمراء، صغيرة، كبيرة، دائرية، بيضوية، ملساء، خشنة، مثلومة، مكتملة،حصى بلا روح ،حصى بروح شفيفة، حصى تتنفس، تروي، تتزاوج، تنفلق عن حصى جديدة، حصى بروح صلصالية في داخلها، بعيون، بأنوف، بأفواه، حصى دامعة، وأخرى ضاحكة، للحصى حياة، تقترب كثيراً من حياتنا، تنتقل مع الريح في أماكن شتى، تعشق الماء، البحر، الساحل. كل ذلك نجده في أعمال ايرينا كرول، وكأنها تقول “إن للحصى روحاً” لابد أن نتحسسها، هي كأنها أجرام سماوية ساقطة، تحمل كل وجوه الزمان الذي جعلها تبدو بأشكال غريبة، وهي نيازك هابطة من الأعلى من تمزق كوني بعيد في تاريخ الأرض. هذا الهوس بالحصا قاد ايرينا كرول أن تعشق جانبين في لوحاتها فتقدمهما للقارئ، الأول هو التشكل الجمالي للحصى، والثاني هو المؤثر المعنوي. تلاعبت كرول باللون، فاستفادت حتى من صدأ الحصى من تبخر الماء الذي يترك نقاطاً من الملوحة فوق وجوه الحصى، حاولت وبدقة عبر أعمالها التي رسمتها من الزيت على الجمفاص وعلى الكتان بأحجام تقترب من 100X100 سم أن تقدم عشقها للبحر، للمكان في مدينة تجلس على البحر. التجريد والإطار من الزيت على الكتان والجمفاص وبأحجام 120X100 سم دخلت ايرينا كرول عالم التجريد لتخرج اللوحة من إطارها حيث أطلقت على الأعمال مسمى واحداً هوOut of Frame “خارج الإطار”. هي محاولة جسدتها ايرينا كرول في ما يقرب من 6 لوحات، حيث رسمت خطوطاً ساقطة من أعلى اللوحة، متوازية، زرقاء كلون البحر.. السماء.. خطوط طولية، عريضة، وبينها خطوط بيضاء، ضوئية، اعتمدت لون الشمعة في إضاءة اللوحة. من تلك الخطوط يخرج الجسد الأنثوي في محاولة للتخلص من شرنقة العدم والخيال. الملاحظ هنا أن الجسد الأنثوي منغمر في عالم سوداوي وثمة عالم عريض واسع، يقبع خلف ظهر الأنثى، إنه تعبير عن الخروج من هذا العالم الواسع الى عالم أوله ظلمة. لم يستطع الجسد الأنثوي أن يتخلص من انشداداته، كالشرنقة تحيط بالجسد، إنه في اللحظة الأخيرة في الخروج من الإطار. أعتقد أن جمالية اللوحة هنا هي تلك اللحظة اللامرئية التي تحاول إيرينا كرول التقاطها، والشعور بها، ولمسها، في تلاعب جميل وبارع ودقيق بشفافية الألوان والضوء حيث خلقت منها ريحاً. خلقت ايرينا ريحاً تعصف بوجه الجسد الأنثوي تدفعها الى داخل الإطار وثمة قوة عكسية يمتلكها هذا الجسد، تواجه الريح من أجل الخروج من الإطار. الألوان.. ليست ألواناً، إنها ضوء وسواد، ضوء يتخلل السواد فيخلق عالماً يعتمد فكرة فلسفية واضحة. بداية مع الأزياء ايرينا كرول فنانة ألمانية تعيش وتعمل في إيطاليا، تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة بمدينة بورزنان في بولندا. احترفت الرسم وتعرض لوحاتها في جميع أنحاء العالم: وارسو ونيويورك وهامبورج ومونتريال ولوكا وفينسيا. بدأت حياتها مصممة للأزياء فنفذت أزياء 14 مسرحية عالمية، ثم مبتكرة في الاتصالات والوسائط، وكانت مدينة هامبورج خلال 20 عاماً مركزاً لأعمالها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©