رسامون في الإمارات ينادون بهيئات وقوانين تحميهم من أغنياء الحروب

فينسنت فان غوغ واماديو موديلياني ماتا فقيران معدمان، وهنري ماتيس لم يكن فقيراً، إنما لم يعرف حياة الترف والبذخ تاركاً لمالكي لوحاته شرف الاستفادة منها، فبيعت إحدى لوحاته بعد سنوات قليلة من موته بـ41 مليون دولار. رسامون أحدثوا تغييراً في حياتنا وأدخلونا إلى عوالم أخرى مختلفة، لم يفكروا وهم يرسمون بقيمة مادية لأعمالهم، فكانوا نساكاً لفنهم إنما تجار فاشلون. فهل يلتقي الفن مع التجارة في ركنٍ ما؟ وكيف يتمكن فنان من وضع ثمن للوحاته وبيعها؟ فنانون إماراتيون خبروا الرسم هواية ثم احترافاً يطالبون اليوم بهيئة تحميهم من غدر الأزمنة، يقرون بفشل الفنان في عالم التجارة لا لسبب سوى أنهم منصرفون عن عالم المادة النقدية إلى مادة الألوان والخطوط والإيحاءات المتفجرة من أعماقهم. اللوحة الهدية ثلاثة فنانين جمعتهم جلسة تحليل لوضع الفن في الإمارات، استدعت بعض الذكريات للبدايات، فهل من خواتيم؟ الفنانة خلود الجابري، تبوح بأن بيع لوحاتها لم يخطر في بالها، خصوصاً في البدايات، لذا كان رواد المعارض التي شاركت فيها بأعمالها، لا يجدون تسعيرا للوحات، لكأنه تواطؤ منها مع لوحاتها كي لا تغادرها. فلكل لوحة علاقة خاصة، لا بل علاقات بنيت وظروف وانفعالات منها «علاقات غير عادية نشأت بيني وبين اللوحات التي أرسمها، فرفضت فكرة البيع». لم يستمر الأمر على هذا المنوال، إنما كسر بالتحدي الذي خاضته لتثبت قدرتها في نقل الصور الفوتوغرافية بدقة، مع الإبقاء على ما جمعته هذه الصورة من معالم تؤرخ لتاريخ تطور الدولة من الناحية العمرانية. وقفت أمام ضرورة تحديد قيمة لعملها، فلم تتمكن من ذلك فقدمتها هدية وما كان من مقتني اللوحة إلا إرسال 15 ألف درهم ثمناً للوحة في الوقت الذي كانت لوحات الفنانين الإماراتيين المشهورين تباع بأقل من ربع هذا الثمن. وأيضاً، ثمة تحد آخر واجهته مع نفسها جعل منها تقدم لوحة فنية هدية لمقتني لوحتها المباعة الأولى. شروط للبيع تختلف بعض الشيء تجربة الفنان والكاتب محمد المزروعي، فهو وإن لم يفكر يوماً ببيع اللوحات أو بتحديد ثمن، حصل معه في بيع أول لوحة له ما جعله يندم على الطريقة التي تم فيها اقتناء تلك اللوحة. فقد بقي في ميزانية اقتناء لوحات أحد معارض المجمع الثقافي في العام 1989، 1500 درهم فتم اقتراح شراء لوحة له فيها. ويقول: «كنت بالفعل محتاجاً للمال في ذلك الوقت، فلم أمانع، ولكن حين أفكر في الأمر أنزعج وأتمنى لو أنني لم أبع تلك اللوحة بهذه الطريقة. بعد نحو 5 أعوام، من تاريخ بيع اللوحة الأولى، كان معرض آخر ولوحات أراد زوج من ايطاليا مقيمان في أبوظبي اقتناء ثلاث منها، ووقفت أمام تحديد السعر، فلم أعرف أن أضع للوحات ثمناً، فكان أن سألتهما أن يحددا، وهكذا كان فبعت كل لوحة بـ 700 درهم. بقيت أرى الزوج في زياراتهما المتكررة إلى المجمع، وكنت قد طلبت منهما تصوير هذه اللوحات لأني لم أكن حينها أملك كاميرا أو أفكر بتوثيق أعمالي والاحتفاظ بنسخ لها.. مرت الأيام وتكررت اللقاءات ولم أحصل على الصور.. لكن نشأت علاقة بيني وبين الزوج والزوجة، أراهما من بعيد في تواطؤ سري حول المكان الآخر الذي ذهبت إليه لوحاتي. ويضيف: «الفنان لم يعرف، ولن يعرف ربما تحديد قيمة مادية لعمله، فهو بوسعه تحديد قيمة العمل نفسه، وهذا لا يعني أننا كفنانين لسنا بحاجة للمادة للاستمرار، ولكن التجربة علمتنا أننا وإن كنا بحاجة للمال فلن نبيع لوحاتنا إلا بشروط». بدوره يلخص محمد المزروعي العلاقة بين الفن والتجارة وفق تجربته الخاصة والعامة، بتدافع مقتنصي الفرص وأصحاب الغاليريهات إلى لوحات الفنانين الإماراتيين، معتبراً أن هؤلاء من دون أدنى شك أذكياء وبارعون في مجال الأعمال، إنما شبّه معظمهم في التعامل مع الفنانين بأغنياء الحروب. ويفسّر: «أنا اختبرت ذلك شخصياً مع أكثر من جهة، فثمة حرب ضروس تحصل حول الفن في الإمارات، ما يعطّل مسألة الفن بحدّ ذاته، ويفتح المجال أمام ما يسمى بسوق السمسرة وكل طرف يريد اقتطاع نسبة معينة، والكل رابح إلا الفنان الذي أبدع عمله الفني». بدوره يخبر مهاب عبدالغفار عن صديق له فنان، تعرض لنوع من الغش في هذه الحرب الضروس، حيث بيعت لوحته من تحت الطاولة بمئة، وقيل له أنها بيعت بأربعين ليحصل على 20 ألف درهم فقط، في حين أن السمسار كان هو الرابح الأكبر». ويقول المزروعي: «المسألة هنا هي ضرورة حماية الفنانين، فهل الفن هو سلعة رئيسية أم لا؟ هل أعمالنا سلعة رئيسية؟ ثمة توجه في الدولة لدعم الفن، ولكننا نحتاج كفنانين لتظهير هذا الدعم عبر حمايتنا من الصياد الذي يريد اصطياد الفنان الراكن في الزاوية لا هم لديه إلا الإبداع والتعبير. نحن نحتاج إلى قانون يحمينا، فنحن نرسم كما المستهلك الذي يشتري وهو محمي. فهل ثمة أمل لحمايتنا كما تتم حماية المستهلك كي لا نقدم كفنانين للذبح في عيد الأضحى»؟ الخبرة المفقودة البداية مع الفنان مهاب عبدالغفار كانت في السعودية حيث كان يعمل، وفي معرض نظمه هناك في العام 1995، وباع أول لوحة له لشركة سعودية، ووافق على البيع لأنه وجد نفسه أمام خيار عليه اتخاذه على الرغم من أن هذه اللوحة يعتبرها الفاتحة والبداية لطريقه الفني، ويقول: «بدأت الرسم بشكل جدي منذ تخرجي في العام 1985، وهذا يعني أنني بعت اللوحة الأولى بعد عشر سنوات من البداية الجدية. مسألة البيع لها إجراءاتها وحيثياتها وطرقها، وأساساً أنا لست ببياع بمعنى أنني لا أعرف حيل البيع. وبسبب تنقلي بين السعودية والإمارات حيث أقيم حالياً، لم أنظم عدداً كبيراً من المعارض في بلدي في مصر، والمعارض الخمسة التي نظمتها هناك لم تكن مدروسة لجهة الدعاية والعلاقات والمواسم وما إلى هنالك، وليس عندي سجل بأسماء جامعي لوحات. هذه التجارب علمتني الكثير إنما لا أزال «عبيطاً» في البيع، فقد وجدت زملائي الفنانين وقد نظموا أنفسهم ويعرفون جامعي لوحات والمهتمين بشراء اللوحات، ويحسنون إقامة الدعاية لمعارضهم ويبيعون. العملية إذا بحاجة إلى خبرة و»بلطجة» في هذا المجال، وأنا بعيد عن ذلك. في الخارج، لكل فنان بائع أو مروج فني هو الذي يتعامل مع البيع والشراء لأن هذه العملية لا يجب أساساً أن تكون من شؤون الفنان وشجونه. على الفنان أن يعبر ويرسم أفكاره وعدم الاهتمام بالبيع. عليه أن يكون محاطاً ببائع فني يغنيه عمّا يضطر معظم الفنانين العرب القيام به، من جري وتنظيم للعرض وطباعة كتيبات وترويج ودعوات وما إلى هنالك». ويرى عبدالغفار أن ما تحتاج إليه الإمارات نص قانوني، أو نص اتفاق معتمد يوضح ويحدد العلاقة بين الفنان وبائعي اللوحات أو الغاليريهات، لأن معظم الاتفاقات مع الفنانين تتم شفهياً، داعياً إلى تأليف هيئة تحمي حقوق الفنانين إن من حيث علاقتهم بفنهم فلا يضطر الفنان إلى مجاراة عروض السوق فلا يعود فناناً، وإن في علاقتهم مع المستثمرين في هذا المجال، فيأخذ كل ذي حق حقه، خصوصاً أن الفنان لم يكن يوماً بتاجر، ولم يتمكن أن يجمع بين فنه وبين التجارة، ما عدا بيكاسو الذي جعل جامعي وبائعي اللوحات الفنية يتضاربون بين بعضهم البعض، فتمكن من الجمع بين التجارة والفن ببراعة خولته أن يعيش مترفاً من فنّه على عكس الفنانين العالميين الآخرين... استقلالية التجربة تقول خلود الجابري: «باتت الأعمال الفنية تخضع لسوق العرض والطلب، يشترط البعض علينا أن نرسم اللوحات التجريدية مثلاً أو نوعا معينا كأننا آلات، في حين أن الفنان يحتاج إلى التعبير عن أسلوبه هو ومشاعره هو بحرية ومن دون إسقاطات تقوم على اعتبارات أسواق السمسرة والبيع. كيف أكون معبرة مثلاً عن الإمارات إذا كنا بطبيعتنا نميل إلى الواقعية في حين يفرض علينا الأسلوب التجريدي. فليدعونا نخوض تجربتنا لأن الفن غير مفصول عن المجتمع، والفنان ليس تاجراً ولكنه يحتاج إلى الدعم وليس إلى مديري أعمال يتاجرون بأعماله إلى درجة الاستغلال لا الاستفادة المشروعة».