الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أضلاع مهشمة كزجاجات على رصيف التفجع

أضلاع مهشمة كزجاجات على رصيف التفجع
10 ابريل 2013 20:35
هنا كعصفور فقد الجناحين من البلل، كورقة تائهة في مناخات الابتلاء، كفراشة وحيدة تضيع في غبار البحث عن زهرة، تكون أنت المعتل، حرف العلة، والمعلول، في دلال الغافيات في الاستدارة، والتحول من عنبر إلى عنبر، ومن صابر على أمر أمرَّ من الصبر، تكون أنت المنتظر وحيك الآتي من بعيد، يحمل بطاقة إلغاء أو الموت المؤجل، تسطو أحياناً على النافذة، تطل على الشجر الأخضر تسرق النظرة الخاطفة، من عيون العصافير الرائحة باتجاه الريح، الآتية من أعشاش الدفء، رافقة النشيد خلوداً أبدياً، والسؤال أنك تتوخى الخروج من عنبرك بلا خسائر، وقد خسرت، وفقدت الابتسامة منذ القدم، منذ أن عرفت أنك في حضرة المرض، وأنك ما بين شفتين ناشفتين تعض على الشفة المسترسلة بوعي الأنثى ذات الرداء الأبيض، والعينين المبحلقتين في جسدك العاري، كأنك تود الاغتسال من براثن زمن حطّ هنا على العظام المتهالكة، واستقر وجعاً أزلياً، كأنه النجم المنطفئ بعد زوال زمنه المضيء. هنا أنت في هذا المستشفى، لا تشعر أنك مريض فحسب، بل منبوذ مأخوذ إلى حيث تأخذ النعوش من تخلصوا من أعباء الحياة، وراحوا بخفّة الريشة، يقفزون على أكتاف الرجال الصناديد، عند النافذة، عند النهاية القصوى للألم والحزن.. تغتابك الأسئلة ويغتال فيك اليقظة كائن بغيض اسمه المرض.. حضن التعب الساد وحده الحضن الذي ألف مجيء المحاصرين، بالتعب، وبراءة الأهل تفكر في أسى، تفكر في امتعاض، لماذا يكون المرض نقيض الحياة، ولماذا تكون الحياة مجرد لحظة هاربة من قفص الاتهام الوجودي، لماذا الوجود كأنه حلم كاذب، بعد أن تكتشف أنك ضحية مسرحية هزلية، ضحك المهرجون، وأضحكوا البلهاء، وشاعت كذبة أن المسرحية استدلت على الألباب لحبكتها الرصينة وأنت.. أنت على يقين أن ما قيل مجرد هراء وأن ما حيك مجرد غفوة فيلسوف صدق في ساعة التوحد، ولحظة الانسجام المربك.. أنت وحدك تعلم أن الحب الذي كان، أن الشغف واللهف، والتلف، والكلف، سخافة بشرية حين يعجز العقل البشري عن وضع اليد على موضوع الحقيقة كما هي. أنت وحدك الآن، على هذا السرير، القديم قدم الدهر، تفرقع الأصابع، كما يصرصر الحديد الصدئ، تتأمل السقف البليد بعينين تشعان بدمعة، هي دمعة، نهاية الحكاية، وبداية الوشاية، وما بينهما محاولة بائسة يائسة، لوقاية من دعاية مزرية.. تعلم وحدك أن الصدر المنهك، لم يزل يختزن، ركاماً وحطاماً وغمامة من بقايا زمن الافتراء، أنت وحدك على هذا السرير الموحش في الغرفة المعزولة عن كواكب الكون تتشظى كأنك خنفساء وقعت بالخطأ في مقر تنور ملهب بالجمرات، تحاول أن تنهض تحاول أن تجهض احتمالات النهاية العويصة، تحاول أن تغادر المكان، ولكن العظام المبللة بالعرق من أثر الحمى، وصقيع البذول تعتذر.. لقصر خلاياها، وتعود مهزومة، كأنها جندي هارب منذ الحرب العالمية الثانية.. تسأل نفسك ماذا تفعل هنا؟ ماذا تجدي كل هذه الأقراص، والقرار الكوني قد اتخذ، والأوراق أعدت للتوقيع النهائي، أنت الآن تشبه أي كائن حي، صحيح معاف، يعتنق الصحة، كأنها الدوام الأبدي، يحاول أن يمتنع عن هذا الطعام أو ذاك يُسخِّر جل أطباء العالم من أجل النصيحة الواقية من الزلل، لا يعترف أبداً بعبثية ما يفعل، لا يقتنع أن العدمية سابقة للوجود، وبالتالي كيف يكون للحياة استدامة ما دامت دائماً تأتي متأخرة، بينما الكائن الأسطوري يحفر قبور الأحياء بين ضلوعهم، يغتصب الفرحة في لحظة مباغتة، فتنتهي الأشياء إلى لا شيء، تغيب الشمس كما تغمض العيون، كما يندحر البحر، كما تتحطّم أحجار الجبل بين أسنان آلة حديدية باطشة. أنت هنا وحدك وكأنك تنتظر قطار ما ليقلك إلى عالم آخر، إلى محطة قد تبدو رائعة وقد لا تبدو، لكن السفر حتمي ومفارقة هذا السرير شر لا بد منه وقد لا يكون شراً، لأنك على يقين أن الموت حالة انتقال من الجزئي إلى الكلي، هو رواية جديدة تكتب فصولها بعناية فائقة، وتسجل في التاريخ أنك ميت.. تغيب الأشياء، وتبقى الذاكرة وكأنها الخلود الوحيد والأكيد، عندما يعيد الجسد بارداً، وتنطفئ دورة الدم، متوارية في العروق المهزومة تبقى أنت الوحيد الذي انتصر لأنك عانيت مماتك من خلال النافذة، وجدت نفسك الهاربة، وهي ترعى في عشب القلق.. أنت تعرف أنك ستموت، لكن قلقك يبقى حياً، نابضاً يبعث برسائل إلى النجوم، وإلى الرواق العتيد «زينون» تقول له بالحرف الواحد: قد تكون صائباً عندما، أيقنت أن الكائن الجزئي يذهب إلى الكل، إلى النظام المتناغم المنسجم، يستعيد هناك كيانه الحقيقي، يستعيد، ذاته اللاواعي، في خضم الوعي الكوني، وما احتشد من طاقات هائلة في كبد واقع لا مرئي، لكنه محسوس بالشعور.. وأنت هنا على هذا السرير، تفكر في الهروب، تفكر في هذه الأنثى الرائعة اليافعة، تعطيك من شفقها المكنون وتذهب وفي محفظة القلب فقاعات تتراكم، وتتزاحم، وتتفاقم، وتحتدم، هي وحدها التي تمنيك باللحظة المبهرة، هي وحدها التي تأتيك وتسبقها ابتسامة أشف، خافقها المعذب.. لكنك كيف اكتشفت أنه معذب؟ هذا السؤال تلقيه على عواهنه في ساعات العتمة عندما تتخلص أنت من ضجيج الضوء وتتفرد بالصورة المثلى، لمخلوقة وكأنها، صيغت خصيصاً لتتلطف بعشاق العزلة الإجبارية.. تعرف جيداً أنها معذبة لأنها تتنشق رائحة مرضك بهلع الراهبات العاكفات على صولجان الإنجيل الرهيب، تعرف ذلك من عينين ذابلتين مكسوتين تتهجيان حتى أجساد المرض، وتقرآن التفاصيل بعناية فائقة.. مجاورة الأنين تشعر أنك لست قمامة، بل أنك من داخل الركام المبعثر، تحمل المعنى، وتختزن وعياً ذكورياً، يمكن أن يستفيق في ساعة إنعاش قسري.. تفرح قليلاً فيداهمك وعيك المشؤوم، يهاجمك وحش المرض، يسلبك.. يستولي على ما تبقى من ابتسامة، تعود أدراجك تخبئ وجهك تحت الملاءة القطنية العفنة، تشم رائحة ما، رائحة أنثى تخصب وعيك بالحياة تنسى المرض، لكنه لا ينساك، تنسى جسدك الملقى كقارب قديم، مجه البحر، وعافته أيادي البحارة تشعر أنك رغم كل ذلك محب، تحاول أن تستدرج الأعذار، تقول هذه الأنثى الطف بكثير من الأطباء، أخف من جناحي فراشة عاشقة.. لكن في هذا المستشفى يجاورك من يئن ومن يعزي النفس بسيجارة، ويدمع لفراق المحبين، يتأوه يتأفف يتخفف من أعباء المرض بزفرات تحرق الصدر، لكنها تؤكد أن المريض يشفى لمجرد أنه يتذكر محباً، ينام في تلك اللحظة تحت لحاف التذكر، ومعاينة المشاهد القديمة، بإمعان وإتقان واتزان، يفكر فيك كما تفكر في خلاياه الذائبة تحت الجلد مع كريات الدم. في هذا المستشفى لا ينام المرضى، وأنت لا تصحو من ضربات المرض، عزاؤك الوحيد نافذة مشرعة على العالم، وأنثى تزورك بين الفينة والأخرى تسأل عن أحوالك، ثم تمنحك الابتسامة، وأحياناً اللمسة الخاطفة، لتعود بعد حين، محملة بأوزار الأدوية المرة.. كل شيء يبدو مراً، تحت وطأة المرض، لكنك لا تجرؤ على العصيان، ولا تخفي حاجتك إلى الصحة، رغم أنها كطائر جميل، يقطن فوق غصن مرتفع، ترتفع أنت بنظراتك، تمسح وجه الأنثى، بعينين ظامئتين، تمسح صدرك، بأصابع الحسرة، والأسف، تمسح الوسادة الخالية، ثم تخبئ وجهك في العزلة. بقلق عارم تحسب الأيام المقبلة، كم عدد الساعات التي ستمر، بدون شكوى، ومتى سيأتي الطبيب ليقول أنت كائن جبار.. ويرحل، تتبعه كلماته التي لا معنى لها، وأنت تحصدك أنياب الخوف من المجهول.. أجل تحسبه مجهولاً رغم يقينك بالمصير، كما هو مصير أي كائن يدب على هذه الأرض.. في الصباح يبدو مستشفى الساد، أشبه بالمرعى، والرجال المتجولون، يرعون في الساحة، يتبعون خطواتهم المرتبكة، يرفسون الأحجار المتناثرة، بأقدام أدق من الأعواد اليابسة، يتأملون الفراغ، يقرؤون التفاصيل في مجهول في غيب لا يعرف كيف يرسم الفرحة على وجوه من يبحثون عنها، بشغف البائسين. وحدك لا تغادر المكان تتأمل المشهد فقط، تتحرى الدقة في العيون، المستدير حول الكرة الأرضية، المناوشة للتراب اليباب، تتأمل حتى الجدران الصامتة، بحزن، وكأنها في انتظار فاجعة ما تحل في زاوية ما في غرفة أعلنت الفرار من صاحبها المغادر، إلى مكان آخر، إلى كون قد يكون أو لا يكون أكثر اتساعاً، لكنه لن يكون سوى كون النهايات القصوى.. وحدك تقف والسيجارة تغرس عقبها البني بين أصابعك، تمز بشغف المتهالك لشرفة تبلل الروح بالدخان تمز وتمز، وتعود أدراجك محتفياً بمجيء الأنثى تتقدمها عربة كسولة تضج عجلاتها الصدئة بالرنين المرعب.. تستلق.. تنام على ظهرك، مستسلماً لفراغك، المريع.. متهدجاً بانكسار كزجاجة فارغة قذفتها يد مشاغبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©