الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صرخات رشدي سعيد

صرخات رشدي سعيد
10 ابريل 2013 20:38
في فبراير من هذا العام، رحل عن عالمنا د. رشدي سعيد الذي قضى سنواته الأخيرة يصارع مرض الفشل الكلوي، وفي شهر مارس صدر هذا الكتاب عنه «رشدي سعيد 1920 ـ 2013» كتبه فكري أندراوس العالم المقيم بالولايات المتحدة، وجمعته السنوات الأخيرة مع رشدي سعيد الذي كان يقيم بالولايات المتحدة هو الآخر منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. لو صدر هذا الكتاب قبل عدة شهور لأسعد رشدي سعيد وخفف عنه آلام المرض والغربة، فقد منعه المرض من أن يزور مصر في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث كان يقوم بغسيل كلوي مرة كل اسبوع. سيرة علمية كان رشدي سعيد من علماء الجـيولوجيا الكـبار، وتخرج في كلية العلوم مبكرا، وهو من مواليد سنة 1920، واهتم بالشأن العام والأمور السياسية كشأن أبناء جيله، حيث كانت القضية الوطنية والاستقلال عن الاحتلال البريطاني هاجسهم الأول، ولذا انحاز أبناء هذا الجيل أو معظمهم الى مشروع جمال عبدالناصر. لفت د. رشدي الأنظار إليه بكتيب صغير الحجم، عظيم الأهمية صدر سنة 1957 بعنوان «تعمير شبه جزيرة سيناء» دعا فيه بعد انتهاء العدوان الثلاثي والجلاء التام والنهائي عن مصر في ديسمبر 1956 الى ضرورة الاهتمام بسيناء وزرعها بالبشر حتى لا يكون من السهل على إسرائيل أو غيرها احتلالها مرة ثانية، واستفاد في هذا الكتيب من تخصصه العلمي متحدثا عما تضم سيناء من ثروت طبيعية، سواء في الجبال والصخور أو في باطن الأرض. ومن أسف أن فكرته لم تجد أذنا مصغية حتى يومنا هذا، وحدث ما نراه في سيناء الآن، حيث لا تزال شاغرة، قليلة السكان، ما أغرى الطامعين والمقامرين بها وبنا. لفت هذا نظر الرئيس عبدالناصر، لذا وجدناه بعد ذلك يختار د. رشدي سعيد ضمن الأعضاء المعينين بمجلس الأمة ـ البرلمان وقتها ـ ويتولى رئاسة مؤسسة الجيولوجيا والتعدين، ساعده في ذلك أن وزير الصناعة آنذاك د. عزيز صدقي كان يعرفه منذ درسا معا في جامعة هارفارد. وقام سعيد بجهد علمي وإداري جبار، حيث أعاد تنظيم المؤسسة ووضع لها العديد من المشاريع والخطط العلمية لدراسة الصحاري المصرية ومعرفة ما في باطنها من معادن وثروات يمكن الاستفادة منها. الى جوار ذلك كان د. رشدي سعيد أستاذا بكلية العلوم في جامعة عين شمس، وفي سبتمبر 1981 وجد نفسه مبعدا عن الجامعة وضمن الأسماء التي قرر الرئيس السادات التحفظ عليهم أيامها. كان مجرد الانتماء لليسار تهمة وجريمة في نظر السادات، ولم تطل هذه الفترة، حيث جرى اغتيال السادات في مشهد مأساوي يوم 6 اكتوبر سنة 1981. ومن هذا المشهد انتهت محنة د. رشدي سعيد وغيره من المثقفين والسياسيين. بعد خروجه من التحفظ أو السجن، فكر في أن يقوم بدراسة متعمقة حول النيل والمخاطر التي تتهدده من تلوث، فضلا عن التصحر، وتلقى عرضا في شكل منحة علمية من إحدى الجامعات الألمانية لإجراء دراسة عن نهر النيل وكان قد بلغ سن التقاعد وقتها في مصر، سافر.. ومن هناك انطلق الى الولايات المتحدة الأميركية، وطوال إقامته هناك كان يأتي الى مصر سنويا يقضي بها أشهر الإجازة، ورغم إقامته هناك كان يتابع ما يجري في مصر والمنطقة العربية يوما بيوم ولم تنقطع كتاباته، بل تواصلت، وكان ينشر في مجلتي «المصور» و»الهلال» وصحيفة «الاهرام» وكذلك في جريدة «الأهالي»، مقالات شبه منتظمة وكان صوتا علميا وسياسيا قويا. ويذكر الجميع له عدة مواقف، أبرزها عندما قرر الرئيس السابق حسني مبارك انشاء مشروع توشكى، وكان هناك من أقنع مبارك بأن ذلك المشروع سوف ينهي كل مشاكل مصر، وانه سيكون بمثابة السد العالي الجديد. وقف رشدي سعيد معارضا هذا المشروع ومفندا الحجج التي يقولها الداعمون له، وكتب دراسة مطولة نشرت في مجلة «المصور» ضد المشروع، مما أغضب مبارك منه ومن «المصور»، وبعد فترة ليست طويلة تبين صحة كل ما طرحه د. رشدي سعيد وخفت المشروع تماما ثم أعلن فشله. لم يكن ذلك هو الموقف العلمي والسياسي الوحيد للعالم الراحل د. رشدي سعيد، فقد سبقته الكثير من المواقف ولحقته أيضا.. فحين وقعت هزيمة 1967 كتب بعدها مباشرة أن الهزيمة العسكرية تعد تعبيرا عن أزمة اجتماعية وحضارية في المجتمع العربي يجب العمل على تجاوزها، وهذا ما تحقق في حرب 1973، حيث قامت الحرب على أكتاف جيل من الضباط الذين تلقوا تعليماً حديثاً. رؤى مستقبلية يعرض فكري اندراوس في كتابه موقف رشدي سعيد من قضية البحث العلمي، فهو من الذين اعتبروا أن مستقبل هذه المنطقة مرهون بتقدم البحث العلمي فيها، وكان يتابع بحزن بالغ تطور البحث العلمي في اسرائيل، بينما يتراجع في عالمنا العربي، ومن ثم راح يطالب بتحرير الجامعات ومراكز الأبحاث من القيود الأكاديمية والسياسية، فضلا عن الدعم المادي والاقتصادي الذي يمكن الباحثين من اختيار موضوعاتهم البحثية بحرية. أعاد فكري اندراوس نشر بعض مقالات رشدي سعيد القديمة، ولا بد للمرء أن يشعر بالحزن لأن أحدا لم يستمع إليه جيدا. ففي 29 نوفمبر سنة 1969 كتب في مجلة «المصور» مقالا يطالب فيه بإفراغ الدلتا من المصانع ونقلها الى الصحراء. اعتبر ذلك وقتها ضربا من الجنون، كان يريد إفراغ الدلتا من المصانع لمنع التلوث الجوي والأهم للحفاظ عليها كمنطقة زراعية والتلوث يعوق الزراعة، والمصانع تحتاج لأراض للمخازن ومساكن للعمال وذلك سوف يتم باقتطاع الأرض الزراعية وهذا ما نعاني منه اليوم. أراد هو نقل المصانع الى الصحراء لإقامة مجتمعات جديدة هناك، وحل مشاكل الزحام وتوسيع القاعدة الإنتاجية والثروة في البلاد. وحين تم استخراج الغاز الطبيعي في مصر وبدأت عملية تصديره ـ خاصة لإسرائيل ـ حذر رشدي سعيد من ذلك معتبرا ان هذه الطاقة ملك للأجيال المقبلة يجب الحفاظ عليها، والأهم من ذلك انه يجب استخدامها في الداخل لبناء المصانع الحديثة وغيرها، وكالعادة لم ينصت أحد إليه.. واليوم نحن نعيش أزمة رهيبة في الطاقة، تهدد بأن تدخل مصر حالة من الظلام والفوضى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©