الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في باريس.. رحلة البحث عن الذات بدأت بصحبة عجوز !

في باريس.. رحلة البحث عن الذات بدأت بصحبة عجوز !
3 نوفمبر 2009 23:12
في مساء ذلك اليوم الشتائي البارد توجهت إلى محطة القطارات الرئيسية في روما، وبعد أن اشتريت تذكرة إلى باريس جلست واجماً، منكفئاً على نفسي، متأملاً القطار الجاثم على السكة الحديدية.. كتب على القطار بخط أحمر عريض “يورو اكسبريس”، دلالة على اسمه، كان طويلاً متلوياً، وكأنه يمتد على سكة الحديد إلى ما لانهاية، لونه اللامع يذكرك بكائن أسطوري، أو بأفعى عظيمة تتلوى بانتظار الانقضاض على الفريسة، ولا أعرف عدد عرباته لكنها كانت كثيرة.. وجهتي ستكون باريس إذاً، المدينة التي أحببت منذ أول زيارة، وها أنا أعود إليها بمزيد من الشوق بحثاً عن شيء ما، أو ربما بحثاً عن نفسي التي ضيعتها في زحام الحياة.. ترى ما الذي يدفعك لهذه الرحلة التي تصر على أن تكون طويلة متصلة.. هل هو الهروب أم البحث عن المغامرة، كما تردد دائماً.. شعرت بالبرد ورأيت محلاً صغيراً يبيع طعاماً تركيا فدخلته بحثاً عن الطعام والدفء، إلى أن يسمح لنا بصعود القطار، وقبيل السابعة مساء ركبت القطار، ووجدتني أتشارك كابينة مع ستة أشخاص، شاب وصديقته الشقراء، وسيدة عجوز ورجل بوجه مشوه، يرتدي ملابس رثة، وشاب هندي يسافر وحيداً أيضاً.. نوم متحرك الكابينة صغيرة وفيها ستة مقاعد تتحول إلى أسرةٍ في وقت النوم، اخترت المقعد السرير على يمين المدخل، وجلست السيدة العجوز في المقعد المقابل، بينما تقاسم الشاب وصديقته المقعد العلوي، في الجهة المقابلة، ونام الهندي في السرير الذي يقع أعلى مكاني، وبجانبه نام الرجل ذو الوجه المشوه.. بعد التحرك بنحو ساعة جاء محصل التذاكر وأخذ تذاكرنا وجوازات السفر، وقال إنه سيعيدها إلينا قبل الوصول إلى باريس.. اتكأت على حافة المقعد القريبة من النافذة المغطاة بستارة قماشية، وحاولت النظر إلى الخارج، لكنَّ الظلام كان يكتنف المكان ومع سرعة القطار لم استطع أن أتبين أي شيء سوى أشباح الأشجار، وأضواء خافتة تأتي من بعيد، ونظرت إلى رفقاء السفر وزملاء الكابينة فكان الشاب وصديقته منشغلين بعالمهما اللذين لا يريان فيه أحداً سواهما، يضحكان ضحكات مكبوتة ويتحدثان بصوت هامس لا يسمعه غيرهما، وبين الحين والآخر تعلو ضحكة الشاب، لابد أنهما يعيشان قصة غرام ملتهبة، وشعرت بالغيرة والحسد وندبت حظي العاثر، الشاب الهندي مشغول بين أغراضه، ثم نام مبكراً، السيد ذو الوجه المشوه نام هو الآخر مبكراً ولم أعرف قصته، أما السيدة العجوز فكانت تقرأ كتاباً، وعندما لاحظت إنني انظر إليها سألتني إذا كنت صقلياً أم مغاربياً، فقلت لها لا هذا ولا ذاك إنني من مكان بعيد، إنني جئت من بين البحر والصحراء، ثمة مدينة تسمى أبوظبي جميلة كالعروس منها جئت. المستقبل في الحاضر لم أكن أتوقع أن تكون هذه السيدة تعرف أي شيء عن أبوظبي، ولذلك لم أتفاجأ أنها لا تعرف أين موقعها، فوصفتها لها بأقرب شيء تعرفه، كانت تعرف قارة آسيا، فأخبرتها أنها تقع في الجزء الغربي من قارة آسيا..! إنها تقع ضمن منطقة الشرق الأوسط لكنها بعيدة عن مشاكل تلك المنطقة وحروبها، إنها مدينة تعيش المستقبل كأنه حاضرها، مدينة نهضت من الصحراء العربية لتبهر العالم بكل إنجازاتها العظيمة.. حاولت السيدة أن تجد مدينة تعرفها يمكن أن تشبهها بمدينتي لكنها استسلمت بعد أن ذكرت لي روما ونابولي وميلان، فهي مجرد سيدة قروية لا تخرج من قريتها كثيرا إلا لزيارة ابنتها المقيمة مع زوجها في روما.. بعد برهة صمت، خشيت أن ينقطع حبل الحديث وأعود إلى وحدتي، وسألتها إلى أين هي ذاهبة، قالت إنها عائدة إلى منزلها في بلدتها الصغيرة، وذكرت اسم البلدة الذي لم أتذكره، وقالت إن بلدتها خارج روما ويتوجب عليها أن تنزل في المحطة القادمة، ثم تستقل قطاراً محلياً آخر ليوصلها إلى بلدتها.. ثم تحدثنا عن السفر وعن روما وعن بلادي وعن باريس وعن السلام، ونمت في نحو الحادية عشرة قبل منتصف الليل.. مغامرة في طور البدء أفقت مبكرا في اليوم التالي وما زلنا في القطار الذي يشق الطريق بسرعة قد تزيد عن ثلاثمائة كيلو متر في الساعة، يوم آخر جديد يبدأ ومغامرة جديدة على وشك أن تبدأ، نظرت من النافذة فرأيت أشجاراً جرداء، وحقولاً على امتداد البصر، وكان يقطعها بين الحين والآخر بعض المنازل البعيدة.. كانت السيدة قد غادرت ويبدو أنني غرقت في النوم، فقد كنت منهكاً ولذلك لم أشعر بأنَّ القطار توقف في الليل، وكذلك الرجل ذو الوجه المشوه غادر هو أيضاً في محطة ما فلم يكن موجوداً، لكنَّ الشاب الهندي كان قد أفاق، وطلب مني أن أرافقه إلى مقصف القطار حيث تباع بعض المأكولات الخفيفة والقهوة، وبعض المشروبات الروحية، ووجدت بعض الركاب وهم يتناول الشراب على الإفطار، فتصورت أنَّ الفرنسيين والإيطاليين يفطرون على المشروبات الروحية.. هكذا وجدتني أعمل مترجما للشاب الهندي الذي لم يكن يجيد إلا القليل من الإنجليزية بالكاد تعينه في سفره، ولم يكن يتحدث بالطبع الإيطالية أو الفرنسية، وعرفت انه كان في الإمارات في يوم من الأيام، وقد دفع مبالغ طائلة من أجل هذه الرحلة، وانه اضطر إلى بيع كل ما يملك في بلاده للذهاب إلى الإمارات ومنها إلى أوروبا. والهجرة إلى أوروبا حلم كل البشر، صحيح أنَّ من يصل إلى دبي من أهل بلاده يعتبر كأنه قد وصل إلى الجنة، غير أن الفرص في أوروبا أكبر وأوفر، وخصوصاً مع إمكانية الحصول على لجوء سياسي، ثم يصبح الحصول على جنسية بريطانيا أو أي دولة أوروبية بعد ذلك أمراً إجرائياً. قال الشاب الهندي: إن وجهته النهائية هي “بريطانيا العظمى”، هكذا سماها، وقال فخوراً إن عمه هناك في بريطانيا يملك محل بقالة في مانشستر، وانه سيتزوج بنت عمه الموجودة هناك. واسر لي بأنه لا يملك تأشيرة دخول إلى بريطانيا لكنه سيسعى للحصول عليها من فرنسا وإذا لم يتمكن سيغامر وسيذهب عبر البحر. جلسنا في المطعم نحتسي الشاي في أكواب ورقية، وعبر النافذة كانت البلدات والقرى تظهر وتختفي بين الحين والآخر في الطرف الآخر من السكة الحديد.. ربما نكون دخلنا الحدود الفرنسية في الليل، وشعرت بدقات قلبي تتسارع عندما رأيت أسماء فرنسية تظهر في لوحات الإعلانات المعلقة بعيداً في الطريق السريع، صرنا إذا في الحدود الفرنسية. بعد كل تلك الساعات التي قضيناها في هذا القطار وتلك الأميال التي عبرناها عبر تلك الطبيعة الساحرة، فلا تشعر كثيراً بالفرق، فنفس البلدات والقرى لا تختلف كثيرا إلا ربما في اللغة، أما جغرافياً فالبيئة متشابهة إلى حد التطابق، وهذا شأن عام في عموم أوروبا.. في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحا وصلنا إلى محطة القطارات الرئيسية في باريس، أي بعد أكثر من خمس عشرة ساعة من السفر على متن القطار قطعنا خلالها أكثر من عشرة آلاف كيلومتر. في رحاب باريس حملت حقيبتي المهترئة، وغادرت القطار والمحطة سيراً على الأقدام إلى أن وجدت تاكسي اقلتني إلى شارع الشانزلزيه، وتوقفت أمام مقهى حيث سأتناول إفطاري، قبل أن اذهب إلى فندق على ناصية الشارع اتخذ من قوس النصر اسماً له، الفندق صغير ومدخله في زاوية حادة في زقاق خلفي لشارع الشانزلزيه، لكنه كان لطيفاً ودافئاً وهذا هو المهم، الدفء، فالبرد شديد عندما تهب الرياح الشمالية على هذا الشارع الشهير. وعلى الرغم من أن الفندق كان منزويا غير أنه كان غاليا بعض الشيء، ولذلك لم أنزل فيه كثيرا، وانتقلت فيما بعد إلى فندق اصغر يقع في زقاق خلف مبنى اليونسكو، أعجبني لأنه قريب من محطة المترو، ولم أجد ما هو أرخص منه، وقيل لي أن فنادق الحي اللاتيني أرخص لكنني لم أجد أي منها.. باريس من المدن التي لا تشعر فيها بالملل، هناك أماكن كثيرة يمكن زيارتها، فإن كنت من محبي الاستكشاف والتسوق فلا يوجد أجمل من مدينة باريس وشوارعها وأحيائها، وتصور أن يكون شارع واحد مثل شارع الشانزلزيه الشهير يمتلك من أجواء الترفيه ما يغنيك عن بقية المدينة. طبعا ومن دون أن ننسى برجها الشهير وكاتدرائياتها الأشهر والمباني التي تعود إلى آلاف السنين.. أما إن كنت من محبي السهر والمسارح فهناك أشهر المسارح التي تقدم الاستعراضات والمسرحيات الغنائية ومن أشهرها على الإطلاق مسرح “مولان روج” أو الطاحونة الحمراء.. موعد مع الموناليزا إذا كنت تقدر الفن فإنك تحتاج إلى خمسة أيام لتشاهد مقتنيات متحف اللوفر الفنية، وهناك عدة متاحف جميلة غيره، وسيطرت علي فكرة زيارة الموناليزا تلك الفتاة التي حيرت العالم بابتسامتها وأبهرته بجمالها.. فذهبت باكرا وبحثت بين مقتنيات اللوفر التي لا تنتهي وبعد أن أنهكت قواي من المشي ومن مشاهدة الأعمال الفنية المختلفة التي تنتمي إلى عصور ومدارس على مر التاريخ، وصلت إلى صالة إضاءاتها خافتة وقد تجمع فيها السواح ومحبي ليوناردو دافنشي، تمكنت من إيجاد مكان لي بين المتجمهرين لأعرف ماذا يشاهدون، فتوقفت أمام جدار علقت عليه صورة فتاة ترتدي ملابس تعود إلى عصر من العصور الأوروبية الغابرة، اللوحة وضعت في إطار ذهبي، ويعتبر حجمها صغيراً مقارنة باللوحات التي شاهدتها في هذا المتحف، هذه إذاً الموناليزا، ما الذي يميزها عن كثير من اللوحات التي يمتلئ بها هذا المتحف، بل إن هناك لوحات أجمل وصوراً لنساء أكثر جمالا، بل إن هناك لوحات لنساء عاريات ولهن قصص خيالية.. هواجس في الغربة بطبيعة الحال لم أجد إجابة لتساؤلاتي ولكنني ما أن رأيت الموناليزا حتى انتهى فضولي في رؤية المزيد من مقتنيات اللوفر وهكذا وجدتني أبحث عن المخرج الذي لم يكن قريبا وجدتني عندما خرجت من اللوفر قريبا من نهر السين وسرت قليلا إلى أن وجدت مقعدا خشبيا على حافة النهر فاتخذته مجلسا لارتاح من عناء البحث في كنوز المتحف الثمينة، على بعد خطوات مني يجلس فنانون يرسمون النهر ومناظر أخرى في المدينة وقد يرسمونك إذا طلبت منهم مقابل مبالغ زهيدة. تفرجت على أعمالهم إلى أن وصلت إلى مجموعة أخرى تبيع بضائع مختلفة، فتركت المكان وأكملت طريقي إلى الفندق سيرا على الأقدام وتوقفت في الطريق أمام محل يبيع طعاما عربيا يديره شاب تونسي، تناولت غدائي معه بينما نستعيد ذكريات الوطن العربي وهمومه وشجونه، وحريته وديمقراطيته وتاريخه وتراثه واختلفنا على ما قدمه للإنسانية، وتحدثنا عن أسباب نزوح المواطن العربي من وطنه وصعوبة الحياة بين معادلة ألم الغربة وسلوى البحث عن حياة ومستقبل أفضل.
المصدر: الاتحاد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©