الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نيتشه هواء الفلسفة.. العالي!

نيتشه هواء الفلسفة.. العالي!
18 يناير 2017 21:22
إسماعيل غزالي يمكن صرف النظر عما إذا كان كتاب «هذا هو الإنسان» عملا خالصا لفريديرك نيتشه، أم طاله التصرف، كونه الكتاب الوحيد المنسوب إليه بعد موته، ولم يصدر وهو قيد حياته. أما الإشارة الدامغة التي تصاحب اكتشاف متن الكتاب، فتلمح إلى أن المؤلَّف تمّ إنجازه في الطور الأخير من حياة الفيلسوف، وهو الطور المعروف باضطرابه وجنونه. غير أن قراءة العمل تفصح تماما عن منحى التناغم الهارموني بين أفكاره هذه – ذات العلاقة بتجربة مرضه أو اختلاله - وبين مجمل أفكار أعماله السابقة، مما يعزز من حدّة صلابتها واستغراقها الكلي في التماهي مع جذريتها وعنفها وقسوتها. إن قراءة كتاب «هذا هو الإنسان» لفريديريك نيتشه تكشف من توطئته عن هويته وطبيعته كسيرة ذاتية على نحو استباقي، أراد لها صاحبها أن تكون وثيقة بكرا، وشهادة أمينة ووافية - منه شخصيا- حول اسمه المريب، حتى لا يُخلط بينه وبين آخر ليس هو من جهة أولى، ومن جهة ثانية تحكي لأول مرة عن المناخات العاتية التي شهدت إنجاز كتبه العشرة أو تحكي قصص نشوئها بالأحرى: مولد التراجيديا، معاينات معاصرة، إنساني مفرط في إنسانيته، الفجر، العلم المرح، هكذا تكلم زرادشت، ما وراء الخير والشر، جينالوجيا الأخلاق، أفول الأصنام، قضية فاغنر. احذروا الهواء العالي يقدم نيتشه نفسه منذ البداية كتلميذ لديونيزوس، وينفي عن ذاته صفة الانتماء إلى صنف المقدسين وفق مثالية الفضيلة، فهو يفضل أن يكون مهرجا على أن يُنعت بقديس. وعليه فتحطيم الأصنام هي حرفته الأثيرة، منبها إلى الهواء العالي الذي تموج به كتاباته ومحذرا في الآن ذاته من خطورة الإصابة بالبرد الحاد غبّ قراءتها، فالفلسفة كما يفهما نيتشه ويعيشها هي الحياة طوعا في الثلج وعلى الجبال السامقة. بكلمات يراها أكثر هدوءا لأنها تستدرج قدوم الإعصار يتوجه نيتشه بتعاليم إلى قرائه كما لو كان رياح الشمال التي تدفع لهم بثمار التين الناضجة ذات الشقوق الحمراء إثر سقوطها من الأشجار، ولا يني يفرد اعتزازا موشوما لعمله «هكذا تكلم زرادشت» إذ يثني عليه بتوصيف الكتاب الأعظم على الإطلاق، والأكثر عمقا، إنه ليس كتاب أعالي وحسب، بل هو أيضا كتاب أعماق سرية لكنوز الحقيقة، ما يشبه بئرا لا ينزل دلوٌ فيها دون أن يصْعد ممتلئا ذهبا. ما يفصح عنه نيتشه في «هذا هو الإنسان»، ناجم عن شعوره بتحقق اكتماله وقد بلغ السنة الرابعة والأربعين من عمره، فحقّ له أن يعلن امتنانه لهبات تلك السنة بالذات التي تحول فيها إلى تعاطي الفلسفة بضربات المطرقة دون أن يتنكر لمجمل حياته متداركا: (كيف لا أكون ممتنا لحياتي بكليتها إذا؟ لهذا أروي حياتي لنفسي). محنة المرض.. ومنحَته يعتد نيتشه بدرجة معلم بامتياز فيما يخص امتلاك حاسة شمّ تنبغ في التقاط علامات الطلوع والتقهقر، ويضاعف من غرابة المفارقات إذ يؤكد على أن الحالات القصوى لضعفه الجسدي مع المرض وحدّة الألم وفرط الصداع هي اللحظة المثالية لتحقق الوضوح الجدلي الخالص عنده، الشيء الذي لا يتحقق له مع حالات عافيته، وهنا يعزو التوهج الفكري لمؤلفه الفجر إلى محنة المرض والألم، والشيء ذاته ينسحب على مؤلفه «المسافر وظله» حين كان يعيش كشبح في شتاء «ناونبورغ» المزمن. تلك هي الدربة الأولى الغريبة التي جعلته مؤهلا لقلب القيم، بعد أن تخطى خبرة النظر إلى العالم من زاوية المريض وصار النموذج الأمثل لنقيض المتدهور والمنحط. نبرة اصطفائيّة اللافت في تعرض نيتشه لمسألة عرقيته، هو اعتزازه بأصوله البولندية «أنا نبيل بولوندي أصيل لا تشوب دمه قطرة واحدة من الدم الفاسد، الألماني على الأقل»(ص: 21). وهذا ما يجعله ينسب طبع الخسة ونذالة الغرائز لأمه وأخته، ثم لا يستثني السيدة (كوزيما فاغنر) كطبيعة أشد نبلا على الإطلاق لتشاركه امتياز الجنس الأكثر سموا على وجه الأرض. يوافق ميلاد نيتشه في 15 أكتوبر يوم ولادة ملك بروسيا (فريديرك فيلهلم الرابع)، وبالنظر إلى هذه المزامنة الغريبة، أُعطي إسم فريديريك فيلهلم، وبعكس مجافاته لعرق أمه، يبدي ما يشبه امتنانا لأبيه...الخ. يستطرد نيتشه في خطاب غريزته النقية وخطورة عزلته، كاشفا بنبرة ملحمية عن مؤهلات طبعه الحربي وتصديه لحالات الشفقة الموبوءة ومجابهته للانحطاط، مستوفيا لأفق سؤاله اللاذع: لم أنا على هذا القدر من الحكمة؟ يليه سؤال لا يقل إفراطا في لذوعية الذات: لم أنا على هذا القدر من الذكاء؟ فيعقبهما الجواب الجسور المحتكم إلى عدمية لها علاقة بزيف ما يسميه الذنب وتأنيب الضمير والخلاص وخلود الروح ومجمل مفاهيم اللاهوت. أما المسألة التي يجدر الوقوف عندها هنا في نظره، حيث «خلاص البشرية» يتوقف عليها، فهي مسألة التغذية إذ ينعت وفقها العقل الألماني بحالة سوء الهضم الناتجة عن رداءة سياسة التغذية. يطرح نيتشه وصفته البديلة للتغذية تمكن من الحصول على طاقة جيدة وفضيلة بالمعنى الذي تعطيه النهضة للفضيلة المعافاة من الأخلاقية، تتناقض جذريا مع النظام الغذائي الانجليزي والفرنسي الذي ينعتهما بالكانيبالية... وهكذا يتدرج في اصطفائية لذائقته تجاه المشروبات والوجبات ومكان وزمان ومناخ التغذية...الخ لا تنزاح مسألة التغذية عن شروط الراحة المناسبة وفي أولها مسألة القراءة التي تريح نيتشه شخصيا من جديته. وفيما يتعلق بالقراءة بالذات، لا حظّ إلا للجديرين من الريبيين الأحقاق، وعدد كتبهم ضئيلة، ويخص الثقافة الفرنسية باعتراف لا يهبه لما عداها ولا يجد حرجا في ذكر أسماء الكتاب الخبيرين بالنفس البشرية كبول بورجيه وبيار لوتي وأناتول فرانس، مقدرا لنموذج كاتب آخر، تقديرا على حدة هو «جي دي موباسان»... فيما يعترف بأهم مصادر أرقى شاعريةٍ ألهمتهُ وهي للشاعر الألماني هاينرش هاينه. الموسيقا يفصح عن وجهة نظره حول الموسيقى، التي يريدها بهيجة وعميقة مثل عشية يوم من أيام أكتوبر (هل لأنه من مواليد أكتوبر يخص الشهر المذكور بهذا الشرف؟) ولا يستسيغ أبدا أن يكون هناك ألماني يعرف ما هي الموسيقى ! هنا يسبغ نيتشه معنى ملفتا على البندقية ويعطيها قيمة تضاهي الموسيقى نفسها بقوله: «عندما أبحث عن اسم آخر للموسيقى فإنني لا أجد دوما سوى اسم البندقية» (ص: 54). البندقية التي يعني بها ما وراء الألب حيث ترعرع الموسيقيون الأحقاق. هكذا يمهر نيتشه مسألة الذوق بولع الموسيقى، إضافة إلى الغذاء والمناخ والمكان كمقتضيات أولية للذكاء وغريزة البقاء. تفخيم الذات تتعاقب نغمات التفخيم الذاتي على نحو مفرط في الكتاب، إذ يستأنف نيتشه مديح عظمته وجسارة كتبه وقوة فلسفته، هو القادم من ذرى لم يحلق فوقها طائر، هو السابر لأعماق لم يجرؤ أحد على التيه في أغوارها وفق توصيفه. ثم يستعرض المناخات الضارية التي نشأت فيها أفكار كتبه العشرة، بل كيف برقت في ذهنه واندلعت من جوف العاصفة المظلمة والكاسحة، ويفرد لكل كتاب قصته الخاصة ومجمل مزاياه ذات الخطورة والنزوع الصادم والهادم، فضلا عن الانتشاء الخالص الذي دمغ خلقها وإنجازها. ومن بين قصص نشوء كتبه المريبة، يظل أثر قصة كتاب (هكذا تكلم زرادشت) الأقوى في قصص (هذا هو الإنسان)، الكتاب الذي استغرقت فترة إنجازه ثمانية عشر شهرا، بدءا من شرارة فكرة العود الأبدي، وانتهاء بالتأكيد على المطرقة ورغبة التدمير كشرطين أوليين من شروط المهمة الديونيزوسية، مع الإشارة إلى أن الفصل الأخير من الكتاب أنجزه نيتشه في الساعة المقدسة التي توفي فيها ريتشارد فاجنر في البندقية. أما الكتاب الثاني الذي يضاعف نيتشه من تفخيم عظمته وخطورته بعد هكذا تكلم زرادشت، فهو كتاب (أفول الأصنام)، الذي يصفه بـ «هو استثناء بين الكتب جميعها، فلا يوجد كتاب آخر أكثر منه ثراء في مادته وأكثر استقلالا وأكثر هدما». هبات العزلة إن كان نيتشه مدينا لمكان ما، فهو شمال إيطاليا، بمدنه خاصة جنوة وتورينو، ثم ضواحيها وجبالها وبراريها: بحيرة سيلفابلانا، على حافة الجرف الصخري المهول القريب من «سولاري». «فيسانسبركورا». خليج «راباللو» عند تخوم التجويف البحري الهائل ما بين جبال «شيافاري» ورأس «بورتو فينو» بالقرب من «جنوة». غابات «زواغلي» وشاطئ «سانتا مارغريتا»...الخ. إنه ما وراء الألب الذي تماهى الفيلسوف معه، بشكل أنطولوجي، تماهى مع طبيعته الشرسة وعزلته الضارية التي أثمرت كتبه الأشد قسوة وعمقا وجنونا في تاريخ الأفكار. وغير ذلك، فثمة ملاحظة أساسية، تخصّ مناخات ولادة هذه الكتب في المجمل، (خاصة كتابة تصديرها أو فصولها الأخيرة) المتزامنة على نحو غريب في شهور أغلبها هي شهور فصل الخريف والشتاء، بدءا من سبتمبر الذي يقول عنه متحدثا على هامش نشوة إنجاز أفول الأصنام «لم أعش من قبل مثل هذا الخريف، ولم أتخيل إطلاقا أن مثل هذه الأشياء يمكن أن تكون موجودة-إنها لوحة لكلود لورين- تمتد إلى اللانهاية، وكل يوم هو كمال غير محدود». ووقوفا عند أكتوبر الذي يجلّه الفيلسوف بشكل خاص، ثم انتهاء بيناير الذي شهد بزوغ كتاب العلم المرح وعدّهُ نيتشه هدية من كانون الثاني، ثم فبراير الذي كتب فيه الجزء الأخير من (هكذا تكلم زرادشت). بين الخريف والشتاء إذا، نمت مجمل عواصف كتبه، وبالنظر إلى هذا الأمر المريب، فإن قراءتها بشكل ديونيزوسيّ لا يمكن إلا أن تقترن بتخيّل الثلوج والرياح القطبية وصرود الجبال الشاهقة والغابات السامقة، وضفاف الأنهار والبحيرات، فيما وراء الألب المرعب، في شمال إيطاليا العاتي. شهادة إن قراءة كتاب «هذا هو الإنسان» لفريديريك نيتشه تكشف من توطئته عن هويته وطبيعته كسيرة ذاتية على نحو استباقي، أراد لها صاحبها أن تكون وثيقة بكرا، وشهادة أمينة ووافية - منه شخصيا- حول اسمه المريب، حتى لا يُخلط بينه وبين آخر ليس هو من جهة أولى، ومن جهة ثانية تحكي لأول مرة عن المناخات العاتية التي شهدت إنجاز كتبه العشرة أو تحكي قصص نشوئها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©