الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دلمون.. عيون الخلود

دلمون.. عيون الخلود
2 أغسطس 2016 22:29
لولوة المنصوري حين أهدى إله الينابيع «إنكي» حبيبته «نينسيكيلا» البراءة الأولى لجنّة آدم وحواء وخصّها بألوهية الأرخبيل الطاهر في دلمون، فرح الزمن ببدايته، واستعادت الحقول تكاثرها، وأضاءت دلمون بسحر نينسيكيلا، نضحت ألقاً يفيض بالشعر والأغنيات، وبدأ التاريخ يأخذ دلمون على عجل نحو مستقبل الخصوبة وعرائس الشمس المسكوبة على الأفق، تسكر به الجنّات. غير أن غيمة الحزن سرعان ما استدارت على وجه نينسيكيلا، بمجرد أن انصرف عنها «إنكي» إلى تدبير شؤون الجزء الجنوبي من أرض سومر في الرافدين، رجع الليل إلى مآبه في دلمون. أظلمت دلمون ونادت نينسيكيلا: «إنكي.. يا حبيبي إن أرض دلمون مقدسة أرض دلمون طهور على دلمون لا ينعب الغراب ولا يفترس الأسد ولا أحد يشتكي أن عينه مريضة وأن رأسه يؤلمه ولا يشتكي الرجل الشيخوخة ولا المرأة تصبح عجوزاً دع الشمس تأت بالمياه العذبة من الأرض دع دلمون تشرب المياه الوفيرة دع ينابيعها تصبح ينابيع المياه العذبة دع حقولها تنتج الحبوب دع مدنها تصبح ميناء العالم كله». وكانت تلك دعوة الحب الصادقة من حارسة دلمون، صعدت إلى قلب إنكي، ليعلن عودته، ملتاعاً ومترعاً بالأشواق، مكفّراً عن غيابه، محملاً بالهبات والبركات إلى دلمون، طالباً قرب حبيبته «نينسيكيلا». وحدث الزواج الأول للماء بالأرض، لأول مرة طارح المطر التراب، زواج النهر بحقول الطمي، اليابسة بالبحر، مطر أول فتح ببركاته الوطن الأول، على إثره تفجّرت دلمون بمئتي ينبوع يتدفق بقدسية بين الساحل والبحر، وحبلت «نينسيكيلا» بالأودية والأنهار والمصبّات، نهر أبوي يشق عطش الصحراء القاحلة ويهتف بولادة أربعة أنهر أخرى تروي ظمأ العالم، لأول مرة جرى الماء في أرخبيل إلهة الأرض، بمعونة إله الشمس «أوتو» وإله القمر «نانا»، ازدانت العروس نينسيكيلا بألوان الطيف والحدائق وأناشيد السماء، في فراشها ينام نخيل إنكي وبساتين من صلوات المحبة وجنة من العجائب والنّعم أشبه بجنة عدن، باتت الكائنات تقدّس دلمون، وتباركها بالماء العذب، صار لها اسم الفردوس «ولا فردوس غيري» قالت نينسيكيلا بدلال لزوجها إنكي، الذي بدوره منحها وعداً أبدياً بألا يعتلي عرش القلب غير فردوس دلمون وجنة نينسيكيلا الخالدة. ومرت الأعوام، لم تقوَ الأحداث على فصم عرى هذه العلاقة المقدّسة، علاقة الأرض بالماء. *** سيجدف الزمن وتتعاقب الحبكات ويواصل الرواة نثر بذور الأساطير على ماء دلمون، فعلى ظهر دلمون ستصعد سفينة أولى يصنعها «أوتنابشتم» بطل الطوفان العظيم، ستتناسل سيرة المراكب والسفن القديمة من دلمون، وتحديداً في عام 2650ق. م ستفتح دلمون حضنها لأول رحالة، ملك سومري عظيم، يبحر من الوركاء، ثلثاه إله وثلثه إنسان، هو ابن للإلهة ننسون التي حملت به من ملك الوركاء المدعو لوجال بندا. وستدور أحداث أسطورة الملك الرحال جلجامش في أرض الأحياء «دلمون»، الملك الهارب من فكرة الفناء التي أحدثها مشهد تساقط الدود من أنف صديقه الميت أنكيدو، منطلقاً إلى فكرة الأبدية المطلقة، بحثاً عن نبتة الخلود التي حبلت بها نينسيكيلا إلهة الأرض بعد زواجها إله الماء إنكي. *** ثم تمضي حِقب طويلة، تتعاقب الأزمنة والممالك والأساطير، وتحديداً في الألف الثانية قبل الميلاد، سيُعثَر على رقم طيني في وادي الرافدين يحكي أسطورة زواج الماء بالأرض، ويستدل الإنسان بالحكاية على كنز دلمون المائي، مصائد المياه المباركة في أرض البحرين التي لا تفتأ عبر مر الأزمنة تخبئ أسراراً ومعجزات عن أوال ودلمون وتايلوس وأورادس، وتضخ ينابيع ولؤلؤاً وحكايات عذبة لجنيّات الماء وحوريات النخيل وأنبياء اللؤلؤ. «چواچب» البحر على رأس البحر، شمالاً من جزيرة اللؤلؤ، يتموج مركب من نوع «البتيل» ويمخر عباب البحر الهائج، يزداد إجهاد الغواصين خلف تيار العطش، الإعياء شديد، والقوة تخور، ومن الأحداق تسيل أحلام الماء، والقنوط يراود قلب المغترب في ملوحة البحر، لا شيء غير الملح ولسعات القيظ. وعلى مشارف البحرين سيأمر النوخذة بإنزال قارب صغير من نوع «الكيت» هدفه الاقتراب من الميناء طلباً للماء، غير أن الميناء بعيد، أماط به الفراق، ورؤية الساحل شحيحة. يربط غواص نفسه بحبل طويل إلى القارب، يعوم لمسافة، ثم يهبط في غوصة واحدة، يحدق الأصداف والمرجان، والجنيات تحت الماء، والمهد الذي يخضه ظل امرأة تشبه زوجه، في مملكة كاملة تسبح، يلمس وجوهاً كأنه يعرفها، وجوهاً من قريته، يحدق الرعب، لا شيء غير الرعب وظلال تسقط على وجهه. ثمة قبس من ضوء خفيف فوّار، بعيد، تتصاعد منه فقاعات، ضوء يتنفّس تحت الماء..وكأن شمساً ممهورة في الداخل، بل جدول صاف يجري إلى أعلى... قالوا إن البحر ملهى الجنيات.. جدائل جنية ؟ لا يعترض الغواص تيار عنيف، يهزم التيار، يسبح متجهاً إلى الضوء، تسبح إليه رائحة النهر والنخيل وثياب أطفال قريته البعيدة.. يقترب، يهبط في رطوبة الضوء، يبتلعه، يرتشف من رضابه، في ريقه تصعد دلمون من جديد، تصعد رئة جلجامش. يصعد الغواص إلى السطح، ترفعه رقصة الماء المقدّس، يقف على الماء ككبرياء، يصرخ في رفاق القارب، يختلط الصراخ بفرحة الهتاف.. يرقص (عين.. ماي حلو في البحر، أكثر من عين، ينابيع تفور.. في گاع البحر «چواچب»). بشيء من الريبة، من التصديق وعدمه، سيهبط كل الغواصين إلى القاع، يغوصون في اقتلاع الماء كما يفعلون في اقتلاع المحار واللؤلؤ، يعبئون قربهم الجلدية وفي عيونهم لمعة النجوم وبياض الكواكب. بعد سنوات من اكتشاف كواكب الماء، سيتردد العاملون في السفن الخليجية التجارية القادمة من المسافات البعيدة على هذه الينابيع المتدفقة من جوف البحر، يتزودون ما يحتاجون منها للأسفار الطويلة حيث الإبحار في طرق التجارة ودروب اكتشاف العالم. في القرن العشرين سيصف الرحالة الأوروبي «كوبرا» تلك المرحلة قائلاً: «إن التزود بالماء بهذه الطريقة الرائعة لم يكن بالإمكان التعرف إليه، لولا عملية صيد اللؤلؤ التي جلبت العرب نحو قاع البحر». ستتحول البحرين إلى واحة غناء يتغنى بها «ديوراند» الذي عمل في خدمة التاج البريطاني في بوشهر، وانتقل إلى البحرين في مهمة استكشاف هذه الجزيرة: «الجزر فضة، والبحر لؤلؤ، وتستطيع أن ترى الشعاب المرجانية في الأعماق، وتملك البحرين ينابيع الماء النقية التي تنبعث خلال الماء الأجاج في أماكن متفرقة حول الجزر البحرينية». وتحديداً في العام 1911م سيزور البحرين مؤرخها الخبير بالأنساب والمعادن والأحجار «محمد بن خليفة النبهاني الطائي» ويوثق رؤيته لهذه العيون في كتابه «التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية». سيكتب: «ويوجد في وسط البحر جملة ينابيع عذبة تفور بقوة، فيغوص عليها البحارة، يملؤون منها القرب للسفن ولشرب غالب أهل البلدة. وأن من الواقعة على ساحل البحر لما يتدفق ماؤها ويسيل على وجه الأرض، ومنها إذا جزر البحر وظهرت فاستقوا منها. وإذا مد البحر علاها بنحو ستة أذرع فيغوصون عليها للاستقاء. والينابيع البحرية هي ألطف مياههم لصيانتها عن الأوساخ التي تقذفها الرياح في العيون غالباً. وأيضاً ليس بها دود ولا طيسي (مكروب) وذلك لعدم مكثه بسرعة فورانه وتدفقه. وعدد الينابيع البحرية المشهورة عندهم بأسماء مخصوصة نحو 25 ينبوعاً غير الصغار والمجهولة الاسم، ويبعد بعضها عن البر بنحو (25) ميلاً فأبعد ويعلوها البحر بنحو خمسة أبواع فأكثر». حصاد الماء في المد والجزر في حالة الجزر سيتم جمع الماء في أوانٍ فخارية أو القرب المصنوعة من جلد الماعز حيث عادة ما تكون المياه تتدفق فوق سطح البحر فيسهل ملء الأواني وغالباً ما تقوم النساء بهذا العمل. يجذبهن الحضور الطاغي للنبع ورائحة ريقه. لكن حين يكون البحر قد ارتفع عدة أقدام عن فوهة الينبوع، فما السبيل إلى حرث الماء؟ ما الحل المتبع في حالة المد؟. سيلخص الباحث أحمد المناعي طرق الحصول على الماء في حالة المد وذلك أثناء بحثه عن مصادر المياه في قرية قلالي، من تلك السبل التي سيذكرها والتي تكاد تشبه طريقة جمع اللؤلؤ في خطورتها ومشقتها، هي استخدام القرب الجلدية، حيث يتم إفراغها أولا من الهواء وغلق فتحتها، بعدها يغوص بها البحارة في عمق البحر، وما أن يصلوا إلى قاع الينبوع حتى يفتحوا تلك القرب وتوضع فوهتها على رأس الينبوع حتى تمتلئ بالماء ثم تربط من رأسها بحبل آخر ويخرج الغواص بها إلى ظهر السفينة. وهناك طريقة أخرى سيذكرها المناعي، حيث يتم استخدام أنابيب مصنوعة من النسيج الثخين الذي يستعمل في صنع أشرعة السفن بحيث يتم تشكيل قطعة النسيج في شكل أنبوب ومعالجته بمادة الشمع أو الصمغ، بعدها تلبس فوهته بقاعدة حديدية مفرغة الوسط تثبت على رأس الينبوع كي لا تتشتت المياه، وبالتالي يتم ضمان اندفاعها بقوة إلى أعلى السطح لتصب في الأوعية التي جلبت فوق سطح القارب.ومن الطرق أيضاً التي تستخدم في جلب الماء من تلك الكواكب البحرية، والتي سيشهدها البحارة المتأخرون في آخر مواسم الغوص هي عصا البامبو المفرغة والتي ستُثبت في قاع الينبوع ليفور الماء من رأسه على سطح البحر، ويشرب منه مسافرو البحر وسكان الساحل. كواكب الماء ومساكن الجن والأولياء في الذاكرة الشعبية 1/‏‏‏ حفلات النذور ودوسة الرسول صخرة كبيرة غرب جزيرة المحرق مقابل بقعة تسمى البسيتين، تتميز بوجود حفرة في وسطها ينبوع ماء، عد مصدراً لأهل منطقتي البسيتين ورأس رمان. عرف بكوكب (الساية)، فأطلق على الجزيرة بـ(الساية ). في سنة 2009م سيشير الباحث الدكتور فضل العماري إلى أن العقل الشعبي في البحرين ربط بين هذه الجزيرة وبين زيارة خاطفة للنبي محمد، فأوجد فيها «دوسة» أي موطئ قدمه الشريفة! وكذلك إبريقه وعصاه، وكان الشعب يقوم بزيارة احتفالية لها في مناسبات الفرح. وهناك أكثر من مصدر يؤكد قيام حفلات النذور على هذه الجزيرة قديماً. 2/‏‏‏ الجني بو ( الگدو ) زعمت بعض العامة وجود جني يقطن هذه الجزيرة يسمى «بو كداو» وقد اشتق اسمه من (الگدو) (الآلة الشعبية لتدخين التبغ) حيث يسمع في حفرة النبع ما يشبه قرقرة الكدو وهو في الواقع الصوت الناتج عن تفريغ الهواء أثناء ظاهرتي المد والجزر. وقد اعتاد الزوار لهذه الجزيرة ترك شيء من الطعام لأبو كدو لكي يأمنوا شره. 3 /‏‏‏ صنقور، في قصار جرذي قصار هو اسم لجزيرة صغيرة تبعد قرابة ثلاثة أرباع الميل إلى الشمال الشرقي لقرية قلالي في جزيرة المحرق. ويوجد بجانب جزيرة قصار نبعان بحريان عرفا باسم جرذي أو قصار جرذي، وقد زعمت بعض العامة أن هناك جني يدعى «صنقور» يحرس هذه المياه لذا كان الأهالي يتقربون إليه بتقديم الطعام، ومنهم من يتبرك به لشفاء مرضاهم أو برجاء الحمل لامرأة لم ترزق أولاداً. نهر (أفتان ) معجزة الخليج سيندفع معظم الرحّالة ابتداء من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين إلى البحرين، يستثيرهم جموح البحث عن كنز البحرين، فلم يعد اللؤلؤ الركيزة الوحيدة التي تلفت أنظارهم كي يشدوا الرحال نحو الجزيرة، وإنما ثمة حالة غريبة سلبت ألبابهم، «ماء عذب من قاع البحر» ! سينطلق الرحالة إلى تقصّي مصادر هذا الماء، ويشير بعضهم إليها في متابعاتهم ومروياتهم معتمدين على مشاهداتهم الشخصية، وما عرفوه من روايات محلية. وفي العام 2010م سيوثق الدكتور طارق نافع الحمداني تلك المتابعات في كتابه «البحرين في كتابات الرحالة الأوروبيين 1507- 1914». ولعل أغلب تلك المتابعات العملية حول مصدر المياه العذبة في البحرين جاءت لتؤكد بروز الفكرة القائلة بوجود نهر أو سيل أخاديد في الجزيرة العربية، قد اتّخذت طريقها في فترة سابقة إلى البحر. من جملة تأكيدات ذلك ما سوف يشير إليه زويمر في متابعته: «مصادر هذه المياه العذبة في البحرين يجب أن تكون أصلاً في بر الجزيرة العربية، طالما أن معظم الساحل المقابل تنتابه نفس الظاهرة. والظاهر أن نهر «أفتان» الموجود على الخرائط القديمة لشبه الجزيرة يصب في الخليج قرب البحرين، وكان هذا نهراً داخلياً «تحت الأرض»، وهو معروف للجغرافيين القدامى». وعلى ذلك فإن السيول وأمطار الشتاء في الجزيرة العربية تكبر وتتحول إلى أودية أو بحيرات طبيعية وصهاريج وآبار لا حصر لها، تلتقي في اتجاه واحد لتشكل نهراً داخلياً يصب في الخليج. ما سيؤيد متابعة زويمر هو ما جاء أيضاً في رحلة سادلير التي تقول: «عند الحديث عن الإحساء فإن الخرائط الحديثة تتحدث عن وجود نهر يجري على مقربة من الإحساء». سيسجل مستر هوجارث في كتابه «التوغل في البلاد العربية»: «لا شك أن قسماً من مياه العارض واليمامة عملا بانحدار الأرض، ترشح ما يعترضها من ظهور الجبال فتجري خلال الطبقات الحصوية، وتظهر على الساحل لتسقي واحات الإحساء والقطيف، وتتكون منها الينابيع العذبة في مياه البحرين الإقليمية». وسيؤكد الباحث «طارق والي» مؤلف كتاب «المحرق 1783ـ 1971 عمران مدينة خليجية»، ما ذهبت إليه متابعات الرحالة الأوروبيين بأن مصدر المياه العذبة واحد، ألا وهو نهر أفتان المثبت على الخرائط القديمة للجزيرة العربية، ومن المعتقد أن منابعه كانت تقع عند مرتفعات نجد من وراء الدهناء، حيث إن الرياض تعلو عن البحر نحو 1800 قدم، وجبال العارض فوق الرياض وهي كلسية تمتص كل ما يتبخر من المياه، فيجري تحت الأرض، ويصب في وادي حنيفة، بل إن مياه العارض ووادي حنيفة تجتاز الدهناء لتصل إلى الخليج. الجزر فضة، والبحر لؤلؤ هكذا بقيت مياه تلك العيون تتدفق ردحاً من الزمن، تروي رمق أهل الخليج في زمن العطش والعوز، حياة الشقاء والعذاب تلك علمت أجداد الخليج عشق الماء واستشعار طعمه ولذة أفكاره، علمتهم لغة الماء وفهم بعض أسراره المكنونة، حيث إن جلب الماء لم يكن بالأمر اليسير، بل لمسافات شاهقة مغبّشة، تصل إلى ثلاثة أو أربعة كيلومترات من الآبار السحيقة والبعيدة. وقد تقيحت أجساد الغواصين وتراكم الملح عليها وانهالت الأمراض والأسقام والقروح، ولا معين غير الله في ظل «نوخذة» لا تأخذه رحمة أو شفقة بالمريض والعاجز. في العام 2016م ستنبض أشواقنا مجدداً لرؤية الأزرق الصديق في البحرين، حينها سنملك عيناً ثالثة في هذه الزيارة، عين صنوبرية حسية تلون لنا عتبة السؤال الذي يؤرجحنا على الحيرة والقلق، سنتقصَد البحر في مساءات الجَزْر لنستجوبه بهدوء وصبر: «أين ذهبت تلك الكواكب البحرية في عرضك الواسع؟». وحينما ينحسر الماء عن الإجابة، سنحزن لمجرد رؤية بقايا كواكب صغيرة متهالكة في الطمي ووحيدة في ضاحية السيف، تحديداً على الجانب الغربي من قرية كارباباد وقلعة البرتغال أو البحرين العتيقة، تفور ويهدر ماؤها في البحر، والأنكى أنه لا يلتفت أحد من المارة إليها، عدا أصحاب الاهتمام من الباحثين في التراث وربما الآثار. وفي إمكاننا المرور أيضاً للاطمئنان على جزيرة الساية التي حلّقت من حولها أساطير الذاكرة الشعبية وتولدت ذاكرة ( دوسة الرسول)، سيواجهنا في منتصف الطريق ممر مائي يسمى السلاق، وهو شبيه بمجرى النهر، لا بد من خوض السلاق حتى نصل إلى الساية، في وسط هذه الجزيرة حفرة كبيرة كالبركة، وقد نفد ماؤها بسبب الحفريات والجرافات والتعمير والكميات التي أهدرت في البحر، وقد كان في الإمكان توفير ملايين الدولارات بتطوير تلك الكواكب واستغلالها والاستفادة من طاقة الماء العذب، ومنحنا درساً عن معاناة أجدادنا الذين عاشوا في عالم احترموا فيه الماء، حتى انتعشت الأرض بأكملها بالحب والألفة والإيمان. إن في الماء العذب دروساً وهبات، إذا ولجت النار بين البشر فالماء في خطر دائم، قد يأتي زمان لا يخمد فيه الماء النار، قدر الماء أن يُنسى في الأرض بعد أن كان أصل الكون، كل ماء حي قدره أن يتباطأ، ويتثاقل، كل ماء حي هو ماء يوشك أن يموت ثم يقبر الألم البشري في جوفه وعمقه، كما أحدث الطوفان في أهل أوتنابشتم. ستحثنا الكواكب المتبقية في بحر الخليج على الارتقاء كبقية الناجين من الغرق، نصنع الجنة في الأرض، نزرع الماء، ونحصد العطش، هكذا هو حال البشرية، قدرها العطش رغم كل الرّواء، والغرق في سبل النجاة المتكررة، قدرنا أن نحمل الأرض على ظهورنا المرتعشة، ونحيي ذاكرة النهر القديم. ما دمنا قد فتحنا باب الماء، وهبطنا من هناك، علينا أن نمتلك رئة جلجامش، وعصا بوسيدون كشافة الينابيع، وأن نبني مجدداً في داخلنا فردوس دلمون.. براءة جنة آدم. ........................................... * من سلسلة تأمل في ( أفكار الماء ) للكاتبة لولوة المنصوري /‏‏‏ قيد النشر. * «چواچب»: تسمية محلية، أي كواكب جمع كوكب، وهي عبارة عن شعاب صخرية تمر المياه العذبة بينها وتفور كما تفور العين الفوارة، وهي ذات مياه حلوة يستقي منها الغواصون وصائدو الأسماك وكذلك السكان الذين يسكنون بالقرب منها، وعادة ما تنكشف هذه العيون في حالة الجزر أما في حالة المد فتغطيها مياه البحر. «جواجب» عين ماء حلو يربط غواص نفسه بحبل طويل إلى القارب، يعوم لمسافة، ثم يهبط في غوصة واحدة، يحدق الأصداف والمرجان، والجنيات تحت الماء، والمهد الذي يخضه ظل امرأة تشبه زوجه، في مملكة كاملة تسبح، يلمس وجوهاً كأنه يعرفها، وجوهاً من قريته، يحدق الرعب، لا شيء غير الرعب وظلال تسقط على وجهه. ثمة قبس من ضوء خفيف فوّار، بعيد، تتصاعد منه فقاعات، ضوء يتنفّس تحت الماء. وكأن شمساً ممهورة في الداخل، بل جدول صاف يجري إلى أعلى... يصعد الغواص إلى السطح، ترفعه رقصة الماء المقدّس يصرخ في رفاق القارب، يختلط الصراخ بفرحة الهتاف. يرقص (عين.. ماي حلو في البحر، أكثر من عين، ينابيع تفور.. في گاع البحر «چواچب»).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©