الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جان فيجو.. فضاء الصورة

جان فيجو.. فضاء الصورة
2 أغسطس 2016 22:37
حسام نور الدين يوضح الفيلسوف، ورائد علم الجمال منذ ألف سنة أبو حيان التوحيدي في كتابه «المقابسات»*، ما مُفاده أن العملية الإبداعية الفنية لا تبلغ ذروة التأثير، إلا عندما تعتمل في «وجدان- عقل» الفنان معاً في تفاعل إيجابي متكامل، فالفطرة الفنية تتناسق مع العقل دون تكلف، والفكر يخدم تلقائية الحس، والحدْس والإلهام لا يستغنيان عن إتقان الصناعة، مع بذل أقصى جهد. وهذا ما ينطبق على الشخصية الفنية لمبدع السينما الفرنسية «جان فيجو» في الثلاثينيات، ولمدة أربع سنوات فقط هي كل عمره الفني، بعد وفاته سنة 1934 عن عمر لا يتعدى 29 عاماً فقط!! كان «جان بونافونتير دي فيجو» يستشعر دنو أجله، إذ لا يتركه المرض يهنأ بشبابه المتقد، فكان همه الإسراع في التعبير عن نفسه التي حفرتها أخاديد جارحة لا تنساها طفولته، وأهمها مقتل والده «الفوضوي اليساري» في السجن، تحت قمع السلطة العسكرية حينذاك، وظل حادثاً فارقاً في تكوين جان فيجو، ولبث يبحث بعدها عن ملابسات مقتل أبيه الثائر السياسي، ثم بعد محاضرات تلقاها في جامعة السوربون، قرر أن تكون الكاميرا السينمائية ملاذه في الإبانة عن مشاعره، وأفكاره تجاه هذا العالم، كما كانت الكلمة سلاح أبيه في الصحافة. أفلامه الأربعة اقتنى الشاب فيجو كاميرا مستعملة «ديبري»، بعد عمله كمساعد مصور في فيلم صغير في مدينة نيس، التي تولد وجوده فيها عن فيلمه الأول التسجيلي الصامت «عن نيس –1930»، ثم بعدها بعام كان فيلمه التسجيلي الثاني القصير «جان تاريس بطل فرنس- 1931»، إذ يرصد المهارات الفائقة لبطل السباحة «تاريس»، وأظهر فيجو الحس التشكيلي لديه في كشف سر براعة البطل في السباحة، مع تفصيلات جسده يتفاعل مع المياه من كل الزوايا، وباستخدام تقنية «السرعة البطيئة- السريعة، الصورة المقلوبة»، ثم تابعه بالكاميرا في أعماق المياه «لاحظ أن هذا كان من 85 سنة»، وهو يروضها لإرادة عقله، وعضلاته، لذا فالفيلم لا يعتبر عملاً دعائياً كما وصفه كثير من النقاد، لكنه في المقام الأول- من وجهة نظرنا- حث وتحريض للإرادة داخل الإنسان ليقتحم بها مخاوفه، متمثلاً في عالم المياه المهيب. كما أظهر هذا الفيلم عشق المُخرج للماء، حيث إن حضورها العضوي في صميم اللعبة الدرامية يُعَد لازمة متكررة في أفلامه عموماً، ومن معالم أسلوبه، ظهر ذلك جلياً في فيلمه الروائي الطويل والوحيد «لا أتلانتا –1934»، حيث مات بعد الانتهاء منه مباشرة، نتيجة مرضه المزمن، وفي هذا الفيلم البديع - يحتاج إلى صفحات مطولة لتحليل جمالياته- سنجد مشهداً تحت المياه لا تنساه ذاكرة السينما، يبحث فيه الزوج بعيونه المفتوحة عن زوجته الحبيبة الغائبة عنه، ويتهادى له خيالها الراقص بأعماق النهر، وتترقرق ملامحها، وابتسامتها الساحرة في عينيه الحزينة... ولقد هز فيجو في فيلمه مشاعرنا، وأمتع عيوننا وأسماعنا بلغة بصرية- موسيقية، فيها من حرارة الواقع المُعاش، بقدر ما فيها من طيف الأحلام، وغناء الروح على سواء، وبالرغم من فشل الفيلم المهين وقت عرضه، فإنه لا يزل ينال ترتيباً متقدماً جداً في قوائم أجمل أفلام السينما كلها، كما تأثر به كثيراً أعمدة الفن السابع لاحقاً مثل: كوستوريتسا، برتولوتشي، جودار، وكاراكس. فيلم «صفر في السلوك» وعلى جانب آخر استوحى بإعجاب بالغ المخرج الشهير تروفو فيلمه الأول «400 ضربة - 1959» من فيلم متوسط الطول صنعه فيجو بعنوان «صفر في السلوك-1933» عن نظام المدرسة الداخلية القمعي، استخرجها مخرجنا من صور، وحوادث عاشها في صباه، واستطاع أن يقدم رؤية أوسع للمجتمع، والسلطة المتحكمة في حرية الشباب، لينتهي الفيلم الطليعي بثورة الطلبة، وبأغنيتهم الجماعية الجميلة، تنبعث فيها نسائم الحرية مع حركة كاميرا تحلق معهم نحو السحاب. وإن شَابَ العمل بعض العيوب العادية، كما في أخطاء تتابع اللقطات «Raccord» لأوضاع الممثلين داخل الكادر «يمين- شمال»، خاصة في مشهد تجمع الطلبة ليلاً برصيف المحطة، وكذلك انعدام المؤثرات الصوتية أحياناً «لطبيعة المرحلة الزمنية المبكرة»، فأفقد بعض المَشاهد «عنبر النوم – الطابور في الفناء – مكتب ناظر المدرسة» قدراً من حيويتها، فضلاً عن بعض النقلات السردية الفجائية المربكة، لكن لاشك أن موسيقى «موريس جوبير» لعبت دوراً درامياً وإيقاعياً مؤثراً، مع رسم ضوئي خلاق للمصور الروسي كوفمان، وفق رؤية المخرج الحساسة، مثل المشهد الرائع الذي ينثر فيه الطلبة في ذروة تمردهم القطن الأبيض بعد تمزيق وسائدهم، فبدا استغلال اللون الأبيض المتناثر حولهم بسرعة بطيئة، معبراً عن براءة ثورتهم، ومصداقية غضبهم. فيلم..«عن نيس- 1929» ولابد لنا هنا أن نفرد بعض السطور لأول أفلام مخرجنا، الذي لم ينل الاهتمام النقدي كما يليق، فلقد تفجرت قريحة الشاب فيجو في عمر الرابعة والعشرين، وصاغها في بناء مونتاجي فوضوي مبتكر، بمساعدة المصور الروسي الأثير لديه بوريس كوفمان، وهو الأخ الأصغر لـ «دزيجا فيرتوف» صاحب الفيلم العظيم «رجل وكاميرا سينمائية» - 1929، فقد تمرد فيجو على القوام التقليدي لبناء الفيلم التسجيلي الصامت، فلم ينطلق من النمط الكلاسيكي المبني على التتابع الزمني، أو وحدة المكان والموضوع في سرد مشاهده، لكنه قدم للفن السابع فيلماً وثائقياً من «وجهة نظر ذاتية» بأسلوب سينمائي خالص، يفتت فيه مشاهده إلى لقطات قصيرة سريعة Snapshot، أو ما يعرف الآن بـ«الكليب»، فكان هدفه أن يُحلق في فضاء المدينة، يختار منها ما يشاء، بما يفيد رؤيته للمجتمع، وللحياة بوجه عام، فتطاوعه الكاميرا، وتنقاد له تقنيات التصوير، مع ذكاء اختياراته في المونتاج «قام بعمله بنفسه»، فيبث عبرها فكرته في خلايا البناء الفيلمي المدهش، في زمن كانت السينما لا تزال تحبو تقريباً في إبداع الفيلم التسجيلي!! ولن تفهم هذا الفيلم إلا بتكامل عناصر لوحة «الموزاييك» التى صممها فيجو، فأثرى الشكل المحتوى، والعكس صحيح. فمع أول لقطة نرى ألعاب الصواريخ تنطلق في سماء نيس، ثم لقطة من الطائرة حيث تلف الكاميرا، وتكشف طبوغرافية المدينة من أعلى في زوايا لافتة، ثم يقطع بعدها إلى لعبة «قطار» على منضدة قمار، تخرج منه عرائس، سرعان ما تقع، ويلم عامل المكان هذه العرائس المنكفئة كالموتى، يليها لقطة لموج البحر يمسح آثار الرمال على الشط، يعقبها لقطات لمنتزه شاطئ البحر، حيث تتمشى في كسل السيدات، وينام الرجال المُسنون من السائحين الأثرياء بأوضاع مثيرة للضحك، بينهم أهل المدينة البسطاء مثل: «بائع نظارات، الكناس يكنس مخلفاتهم، فنانون متجولون،...»، فتتقاطع اللقطات، ويتوهج الإيقاع، ونتنقل من لعبة التنس التي يشهدها المتفرجون، إلى سباق سيارات محموم، فينبض الفيلم بالحركة، بفضل اختيار واع لأحجام** متنوعة للصورة... ثم ينتقل من سباق السيارات، إلى سيارة فاخرة لسائحة أرستقراطية في لقطة جديدة، تقف فيه أمام الفندق الفخيم المطل على الشاطئ، التقطتها عين فيجو من زاوية عليا جداً لتكشف جماليات، وملامح جديدة للمكان. وتتدفق اللقطات بكثافة، تساير وتبحث في علاقات وألعاب المدينة الفاتنة، وما وراءها.. من معان!! لمحاته المجازية الساخرة ومن أذكى اللقطات في استعراض طبيعة الزائرين للمدينة، نرى سيدة ثرية تجلس على كرسيها باستعلاء، فيستعمل فيجو طريقة المزج بين اللقطات - دون تحريك زاوية الكاميرا، أو حجم اللقطة، أو جلسة السيدة- بعد أن يتم تغيير ملابسها في كل مرة، فيرى المتفرج تغير ملابسها عليها إلى أخرى بطرز مختلفة، في لحظات لا يفصلها زمن ظاهري محسوس، حتى يراها عارية تماماً، وهي تجلس بالوضع والاستعلاء نفسه، كأنما أراد فيجو أن يومئ عن ملل هذه السيدة من ترف ملابسها المتنوعة، فيدفعها الشعور بالتخمة، أن تجلس في الشارع.. من دون ملابس!! فالدعابة وخفة الظل من سمات مبدعنا، ولا يفوته أيضاً ابتكار لمحة لطيفة لماسح الأحذية، حيث يمسح حذاء السائح المشغول بالقراءة المسلية، ثم فجأة نرى قدمه عارية، فتظل حركة «ماسح الأحذية» تعمل بكد وهمة، يمسح بها جلد القدم، لعله يتمنى أن تزيد قروشه الضئيلة مقابل أن يسمح للسائح العجوز أي شيء!! وبسرعة يعود المخرج لواقعيته «الذاتية» فيذكرنا من جديد بكلمات الناقد الأريب أبو حيان التوحيدي عن احتياج الفنان للعقل، ليهذب ويضبط به محاكاته للطبيعة، فمثلاً.. يجاور فيجو لقطة السيدات المترفات على كراسي البحر، تحت دفء الشمس، مع تماثيل المدينة الحجرية، ومقابرها، ليَشي أن الكل سيتحول إلى حجر وتراب، ولعلنا نوافق الناقد** هوجو فيريرا، بأن هاجس الموت يلح على المخرج الشاب «نزيل المستشفيات»، فكما تمحو الأمواج آثار الشط في «لازمة» متكررة، وكما يزيح الكناس القمامة من الشاطئ، ستفنَى كل تلك الكائنات البشرية المتعالية، بعدما كانت تتألق بألق الأشكال الحياتية الفارغة. الحياة تستحق أن تُعاش في المقابل نرى أن فيجو يطارد في فيلمه هذا الهاجس، ويشعرنا أن الحياة تستحق أن تُعاش، عندما يلقي ضوءاً على حال فقراء المدينة وملح حياتها، فبعدما تتسارع وتيرة اللقطات، بإيقاع حركة الكاميرا في كادرات مائلة للبنايات الباهرة الكلاسيكية، فتلف حولها، وتشوه منظور طابعها المعماري العتيق الرتيب، فتشعر أنه لربما يريد قلب مفاهيم، وقيم الزمن الاستاتيكي الغابر الذي أتت منه، فيعبر- بقناعته الفكرية الخاصة به- عن صراع التاريخ بين أجياله وطبقاته، وجدلية علاقاته الزمنية، ثم يسحبنا بعدها في سلاسة مونتاجية بعد عشر دقائق من بداية الفيلم «زمن الفيلم 22 دقيقة»، إلى نقلته الموضوعية الاجتماعية، صوب أحشاء نيس الفقيرة المختفية عن الأعين، فيكشف بجسارة أحياء المدينة المظلومة، وفي تكوين دائري نرى سيدات يشتركن في غسل ملابسهن في حوض عام، ومن زاوية سفلية –low angle نلحظ ضوء الشمس الشحيح أعلى البيوت المتراصة القاتمة، في حين ينقل الأطفال الحلوى المنزلية لبيعها في الأسواق، ويلعب الصبية على الناصية ألعابهم المتواضعة جداً، ثم يذهب بنا إلى كرنفال الزهور على الشاطئ، وتتوالى الأقنعة الضخمة للوجوه تحاكي وجوه البشر الباسمة المصطنعة، وهي تتقاذف الزهور مع المتفرجين، التي جمعتها من الحدائق البنات الفقيرات، في لقطة تقطع سياق الحدث الآني للكرنفال البهيج، وتكسر الوحدة الزمنية له... ومع توالي اللقطات في عدة أمكنة متباعدة، تتراحب التفسيرات، وتتداعى الدلالات، حتى ينتهي الفيلم على رقصة فتيات جميلات في مرح، في حين تقذف أعمدة المصانع دخاناً كثيفاّ مقلقاّ، لا تشعر به أبداً المدينة اللاهية!! وبعد نحو 50 سنة، وتأثراً بهذا الفيلم، قدم رائد السينما البرتغالية مانويل دي أوليفيرا فيلماً تسجيلياً في مدينة نيس بالثمانينيات، بعنوان «عن- جان فيجو»، وهي حالة سينمائية نادرة، أوغير مسبوقة. وفيلم المخضرم أوليفيرا يتأمل أيضاً المدينة نفسها في عصرها الحديث، لكن في إيقاع متمهل جداً، تتخلله لقطات فيلم فيجو التي تفيض بنضارة الحياة، وإيحاءات الصورة بالأبيض والأسود، والأهم هو روح مبدعها الشاب، فكأنها تخرج من تابوتها بعد نصف قرن، لتتوهج من جديد الآن، ومستقبلاً، لتحرك فينا أسمى كوامن.. الإنسان!! ............................ المراجع: * مقابسة «السماع والأغاني، وأثرهما في النفس» – تحقيق حسن السندوبي. ** حجم الشيء المصور: لقطة..«قريبة- بعيدة- متوسطة، وهكذا». *** http:/‏/‏sensesofcinema.com/‏2013/‏cteq/‏politics-and-metaphysics-of-jean-vigos-a-propos-de- nice
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©