الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حافة السرير..

حافة السرير..
4 نوفمبر 2009 23:12
لم تنتبه لفوران ركوة القهوة، كان نظرها متسمرا في البياض، أغلقت مفتاح أنبوب الغاز بملل، ولم تكترث لبقايا القهوة المسكوبة حول الشعلة، سكبت فنجانا، ووقفت تطل بناظريها من خلف النافذة، كان صغيرها يغط في نومه، في غفوة تحسده عليها، ألقت نظرة عجلى على سريره وبيدها فنجان القهوة، لم توقظه ككل يوم، وكأنها أرادت أن تخلو بنفسها بعيدا عنه، أوحت بوجود خصومة معه! بدت ثقيلة الخطى، هذا الصباح، متململة، بمزاج نزق، وكأنّ غيمة سوداء قد تسمرت فوق رأسها، سلبتها مزاجها المرح، وعطلّت جميع طقوسها الخاصة، وطقوس تدليل وليدها الصباحية اليومية، وكأنها تذود بنفسها بعيدا عن تلك الغيمة الثقيلة خوفا من البلل!. أية غيمة التي حملت معها كل هذا الملل؟ أية غيمة استطاعت أن تسحب معها كل ذلك الشجن، وتحّرك كل هذا الحزن؟ من أي وجهة قادمة، وبماذا ترى هي محملة، وإلى أين مستقرها؟!. كانت دائما تقول: “إنّ الإنسان يحمل مفاجآته في جيبه، فلا حاجة للبحث عنها بعيدا!”. ولكن أتُرى كل المفاجآت لها لون واحد، كلها بطعم حلو، كلها تحمل البهجة؟!. مازالت تحدق بنظرها في المارة من خلف زجاج النافذة، ترتشف فنجان قهوتها على مهل، متعمدة أن تبقيه في يدها، ليمنحها شيئا من الاتزان والهدوء اللذين تحتاجهما، مذ استيقظت، بوجهها الشاحب المصْفّر، وأثناء ارتشافها بقايا فنجانها، تذكرت كلاما لوالدتها قبل وفاتها، حينما أخبرتها ذات يوم: “بأنّ كل فرد منا هو عالم خاص مُستقل بذاته، يحكمه كيف يشاء، يبسط فيه سلطته المطلقة، يضبطه وفق ما يرتئي من نُظم وقوانين، شرّعها بنفسه، لنفسه، تتماشى، وتتواءم مع فكره، وعقيدته، ومزاجيته، وطموحاته، وأحلامه!، فلا تستغربي، وكوني دائما مهيأة للدهشة، وللمفاجآت، أوَلم يكن الإنسان بذاته هو المفاجأة، والأعجوبة الكبرى؟!”. تذكرت مناسبة هذه الكلمات الفلسفية التي لم تعرها في وقتها أي اهتمام، وفسّرتها على إنها هذرة لأم، وزوجة هي المفجوعة دائما ً بزوجها الخائن، ومن أول يوم زواج، والمصدومة بولدها العاق، وبأخيها الجاحد، وبجارتها النمّامة، وبأختها الأنانية، ووو....!، هي كجريح قديم، ظلّت جراحه تنزف، بقِدم الألم، لم تشفها، ولم ترها سحب النسيان، هي المخذولة دائما، التي تحاول أن تواسي نفسها بتلك الكلمات، لتداري بها خساراتها، لتعطيها بُعدا فلسفيا أكثر مما تستحق، وأبعد مما تحمل، وتحتمل!، ربما لأنها لا تجرؤ على المواجهة، أو الاعتراف بتلك الخيبات جميعا، بمن قصدتهم في هذرتها، فهم في نظرها لم يكونوا غير نسخ مكررة، لأبطال، ولقصة واحدة، منهم المعلوم، والآخر لا يزال متقمصا، يؤدي دوره، لم يخلع عنه القناع بعد!. عاودت لتسكب فنجانا آخر، ولكنها تراجعت بعد أن سمعت بكاء صغيرها، فركضت نحوه، وأخذت تضمه، وتقبله كما لم تره منذ زمن، لامت نفسها على إهمالها له، وتركه نائما لساعات طويلة، كان من المفترض أن ينعم، بحنانها، ويحظى بتدليلها الاعتيادي الباذخ، من ساعة استيقاظه، حتى موعد نومه المحدد، بقيت محتضنة إياه لفترة من الوقت حتى كاد أن يختنق، وكأنه هو من كان يضمها، وليست هي، فلم تنتبه لقوة ضمها إليه، إلاّ حينما عاود صراخه متألما، وكأنه استشعر حالتها المغايرة لكل يوم، فهي ليست أمه التي خبر حنانها، وهدوءها، وبهجتها الملونة.. عاودت إسكاته، فلم تجد بُدا من إسعافه برضعة من صدرها، الذي بدا حزينا، رغم تكويرته، من فرط تكدس الحليب، حتى أنها لم تحفل بتقاطر نقاط منه، في ثيابها.. في ذهولها هذا، وبالحال التي تلبسْتها هذا الصباح، لم يكن حليبها أيضا بالطعم، وبالمذاق الذي اعتاده، وألفه طفلها ما يقارب السنتين، فعافته نفسه، وامتنع عن إكمال رضعته الطبيعية، ليعاود البكاء من جديد، معلنا احتجاجه، وامتعاضه من أمه، وحليبها، غير المستساغ!. يُقال: حينما تحزن الأنثى يهبط صدرها، ويتهّدل، وحينما تحزن الأم المُرضعة، يتحوّل حليب ضرعها ونفَسَها إلى سُمْ!، هذه خبرة الأمهات، والجدات، المُفرطات بحبهن، وحنانهن لأبنائهن. تذكرت المرات التي نهرتها والدتها من إرضاع طفلها، وهي حزينة، أو مكتئبة. هرعت إلى المطبخ، لتعِد له رضعة صناعية على عجل، بعد أن أخذ بكاؤه بالتصاعد، حضّرتها، في أقل من ثانية، وركضت بها نحوه، لتراضيه، بتلك الرضعة الباردة!. هدأ الصغير بعض الشيء، وأخذت تمسْد جبينه، وتُنشف دموعه، وتهدهده بحنان، إلى أن تبسم لها، محدقا ببصره في وجهها، كأنه يعاتبها على صنيعها اليوم، أو ليسألها: لماذا أنتِ اليوم غريبة الأطوار؟ لماذا أنتِ لست ماما التي أعرفها؟!. ما أن تيقنت من تفسير تعابير وجهه، حتى منحته ضمة أخرى، أكثر حنانا، ونعومة، مبدية اعتذارها عن تقصيرها تجاهه، فقامت بملاعبته، ومناغاته بعض الوقت، وهو يجلس في سريره.. استغرقت في التحديق في ملامح وجهه الجميل، ثم قامت بفتح ستائر الغرفة، وفتحت النوافذ لتهويتها، ولكنها كانت في كل إيماءة منها تعاود النظر، والتحديق إلى وجه صغيرها، كأنها تحاول أن تستذكر شيئا، أو أحدا آخر تريد أن تثّبت ملامحه، أمعنت التحديق فيه، والتدقيق طويلا، حتى بدأ يتسلل إليه شيء من الخوف، لطول سكوتها، وشرودها، وتفرسّها في وجهه بلا أية تعابير أخرى منها، حتى أوشك على البكاء.. فركضت نحو سريره، لترتطم ركبتها بحافة سريرها هي، أو “بصك الملكية الشرعية”، كما يحب أن يمازحها زوجها أحيانا!.. بركت كناقة أعياها طول المسير، مقابل الحافة الحادة، تنهمر دموعها، ويتعالى نحيبها، وتدخل في نوبة بكاء، مرير، استثارت بكاء طفلها من جديد، ليتوحد بكاءهما في مشهد سوريالي غير منقطع!. أيمكن لضربة سطحية خاطفة، في ركبتها بتلك الحافة، أن يكون لها كل ذلك التأثير، في إذكاء نوبة الحزن التي صاحبتها هذا الصباح، ودفعها إلى هذا الانفجار المحموم؟ أية زاوية تلك التي استنهضت صور كل عذاباتها الدفينة، وفجّرت سحب الألم، بكل هذا الوجع، وتحييها في مخيلة، كانت نائمة لسنة أو أكثر؟ أية زاوية “ماضية” لها القدرة على فتح الجراح الغائرة بضربة واحدة، واستنهاضها من باطنها السحيق، وجعلها تنزف بهذا السخاء، وبتلك الحرارة، لتكون لها نكهة، وطراوة الجرح الجديد؟ أية زاوية قاسية، استطاعت أن تحاصر إنسانا، وتستفرد به في ضعفه، لتتركه صريعا، كسيرا، ينزف عمره كاملا أمامها، بكل هذه اللوعة، والاستسلام، بهذا البؤس، وبكل هذا اليأس؟!. ربما كانت بحاجة إلى أن تبكي، منذ أن صحت هذا الصباح، لتُسقط عنها عناء، وثقل الليلة الماضية، أو ربما منذ وقت طويل، يوم أنجبت طفلها الوحيد، لكنها كانت تغالط نفسها، وتتعالى على أفكارها السوداء، وأوهامها الصغيرة، فتغالب دمعها، بفنجان قهوة، أو بقراءة كتاب، أو رواية، أو بحياكة كنزات الصوف لطفلها، أو بتضييع الوقت المُر، وتمريره بحملقتها، في وجوه المارة، من خلف النافذة، أو بمداعبة صغيرها المسكين، أو بانشغالها بتفاصيل أعبائها الروتينية اليومية، ليستكين دمعها السخين في تلك الدوامة، وتُدخله في ردهة النسيان، أو في محطة السبات المؤقت.. كانت دائما تُخضع نفسها إلى فترات من السلوان، لم تبرح شواطئ القلق والترقب الحذر!. بالأمس كان الصندوق مقفلا!، ذلك الذي جربت يوما، بل أياما وشهورا طويلة، كل المفاتيح محاولة فتحه، فلم تستطع، حتى البارحة!، عندما نسي زوجها مفتاح صندوقه السريّ، ليفك جميع خيوط شكوكها، وأوهامها الماضية، كما هُيئ لها ذات يوم، حينما هْمَ بالخروج على عجل، تاركا خلفه كل المفاتيح في يدها، كهدية مجانية، تتسلى بها في ليلتها الطويلة الدامسة! فِرحت مؤكدة مقولة تُدين الرجال تقول: “الرجال دائما يسقطون من حيث لا يدرون”، لتؤكدها هي، بأنهم يسقطون من حيث لا يشتهون، أو لا يتوقعون!. استنفرت بتوجس، وقالت في نفسها: “لابد أن تكون هنا نهاية الألم، هنا مقصلة الوهم”!. حتما، “لا توجد جريمة كاملة”، هذا ما كان يجول في خاطرها.. ترك لها محفظة جيبه “الخاصة”، لم تكن تشبه محفظته التي يحملها حين يخرجان معا، التي تعرفها جيدا، والتي تؤكد تناقض ذوقها، مع هذه المحفظة السرّية، كانت جديدة، ولامعة، ذات ذوق أنثوي رديء، أو رخيص!، مخالفا، بل غريبا، وبعيدا عن ذوقه الشخصي المميز الذي تعهده فيه، لم يكن مفتاح السرّ في لونها، أو في نوعية جلدها، بل في صورة ذلك الطفل الصغير التي بداخلها، لم تكن صورة أحد أبناء أصدقائه، ولم يكن في المحفظة عقد زواج يؤكد زواجه من أخرى غيرها، ولكن كان هناك ما هو أقوى، من كل تلك القرائن، والدليل الأكثر برهانا، من أيّ دليل مادي آخر، قد تجده فيها، يثبت لها صحة استنتاجها الخطير، وحقيقة صورة الطفل الصغير، ونسبه إليه، فرادارها الأنثوي في قمة نشاطه، يكفيها أن تحملق في تقاطيع وجهه، ووجه طفلها، لتجزم بأحقية أبوته لهما!، من امتلاء جسمه، ورسمة عينيه، بل من شكل عظمة أنفه المميزة، بل كان يكفيها ذلك الدم الذي لا يخطئه أبدا لتصرخ بلا وعي صراخ الثكالى، مرددة: هذا الولد ليس ابني.. هذا الولد ليس مني.. esmeralda8844@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©