الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألف... لام

ألف... لام
4 نوفمبر 2009 23:30
تلح العديد من المتون العربية القديمة على أن قصيدة مالك بن الريب التي قالها في رثاء نفسه وافتتحها قائلا: أيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إني مقيم لياليا قصيدة رثائية ليست من ابتداعه بل هي من نظم الجان. ويجزم أبو علي القالي في “كتاب ذيل الأمالي والنوادر” بأن مالك بن الريب “مات في خان فرثته الجان، لِمَا رأت من غربته ووحدته، ووضعت الجنُّ الصّحيفة التي فيها القصيدة تحت رأسه والله أعلم أيّ ذلك كان”. والثابت أن هذه الحكاية تقوم على التعجيب لكنها لا تنشد الإبهار وإثارة المتلقّي فحسب، بل تورد في الخبر ما يصبح خطاب إدانة للجنس البشريّ كلّه. فالجان إنما كتبت القصيدة ورثت مالك بن الرّيب لأنها لم تملك أمام هول غربته غير النّوح عليه وتخليد ذكره. لقد مات مالك بن الرّيب في ديار بني البشر ومنازلهم (في خان)، فلم يجد منهم معينا أو أنيسا. ووحدها الجان، رمز المتوحّش والمخيف، هي التي راعها حاله، فرقّت، وناحت، ورثته، ودوّنت مرثيته في صحيفة دسّتها تحت رأسه. وما تنبني عليه القصيدة من لوعة وتأسٍّ، من ندبٍ ونوحٍ ونشيجٍ، هو الذي يفتحها من الدّاخل على بعد جنائزيّ مروّع. لاسيّما أن القصيدة تعتمد على الكتابة بالمشهد. فتتوالى المشاهد التي تنقل أمجاد مالك بن الريب وتجسيده لقيمة الفتوّة. ومعها تتوالى المشاهد الجنائزيّة التي تتوسّع في رسم الشاعر وهو في النّزع يرى الفاجعة ويصوّرها بكلّ دقائقها وتفاصيلها. فيتوسّع في ذكر لحظة الدّفن. ويتوسّع في ذكر طقوس الدّفن ويملي على من يدفنونه رغباته الأخيرة. إن القصيدة تبتني الفاجع والمأسوي. فتكفّ عن كونها مجرّد مرثية تمجّد المرثيّ، وتصبح عبارة عن إشهاد على عبثيّة الوجود: فالذي كان هو الذي سيكون. الوحدة هي قدر الكائن تحت الشمس. وهي التي تتلقّفه وتطبق عليه بعد رحيله عن الدنيا. والموت نفسه يظلّ رغم فجائيّته وتوحّشه أقلّ ضراوة وفظاعة من وحدة الكائن وعزلته. بل إن الموت مجرّد قناة واصلة بين وحدة الإنسان حيّا ووحدته جدثا “ثاوٍ بقَفْرَةٍ”. وهذا يعني أن نسبة القصيدة إلى الجان التي رقّت لحال مالك بن الرّيب “لما رأت من غربته ووحدته” لم تأت لتدين بني البشر وتشهد على قساوتهم وتوحّشهم فحسب، فهي تفتتح مجراها محمّلة بالفاجع والوجوديّ. وتضعنا حين نتملاّها في حضرة الكائن وحيدا أعزل لا يجني من كلّ تعبه الذي يتعبه تحت الشمس غير ما يجعل من مقامه فوق الأرض مجرّد رحيلٍ بطيءٍ ثقيلٍ باتّجاه الحفرة المرعبة. وتضعنا أيضاً في حضرة أبديّة الوحدة باعتبارها قدر الكائن ومصيره الفاجع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©