الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الحب كلّه» للإمارات

«الحب كلّه» للإمارات
9 مايو 2018 19:44
نوف الموسى بين يديها أمسكت رسالة الدعوة الكريمة، وأشارت بمنديل الموافقة. مع نسمات الشتاء الخفيف، كورقة شجرة خريفية، هبت مع الريح على طريقة مقام «الهزام» الموسيقي، الذي يمشي عادةً بهدوء خاص، وخطوات مسترسلة على مهل، حتى يتسرب إلى عمق القلوب، ويفسح لبصيرتها المرور إلى فضاء الممكنات. ليعود على أثرها عبد المنعم الملّواني، المستشار الصحفي لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان -ولي عهد أبوظبي آنذاك- مبشراً، بأن لقاء الأوطان تأصل في حضورها الملهم للوجدان الإنساني، نحو وطنٍ يحتفي بنفخة الناي الأولى، احتفاءً بعيد الجلوس الخامس للقائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتوليه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، وباللحظة الفارقة لرفع العلم الاتحادي في عام 1971. بدأ كل شيء بتدرج مقام «البياتي» الواسع المعطاء، اللافت دائماً في قدرته على التشكل، والإتاحة الضخمة لفرص اللحن أن تتجاوز مداها في التكشف عن الشوق والانتظار واللهفة، وانشغلت إيقاعات وزارة الدفاع في أبوظبي لبناء المسرح المؤقت، على طريق هارموني الـ«فالس» الإيقاعي، الذي يتولى تحويل الأشياء إلى رقصة أبدية. وحطت طائرة الخطوط الجوية الكويتية على مدرج مطار أبوظبي في 26 من نوفمبر 1971، وبوضوح مقام «الراست»، وقفت سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم على أرض الإمارات، يرافقها 42 عازفاً، كأنهم مسيرة من الكوبليهات، تردد: كل الأوطان خُلقت من الموسيقى، كل الأوطان خُلقت من الموسيقى. استقبال استقبلها الحب بابتسامة عريضة في المطار، واحتضنها بهالة شفافة، تشبه العزف المنفرد للأكورديون والناي معاً، حتى وصولها مقر إقامتها في فندق «العين بالاس». شاركت في الاستقبال في تلك اللحظة التاريخية، شخصيات إماراتية مهمة تصدرهم معالي وزير البترول آنذاك الشاعر الدكتور مانع سعيد العتيبة، والأستاذ سعيد الدرمكي، مدير دائرة التشريفات في أبوظبي، والأستاذ علي الشرفا، نائب مدير دائرة التشريفات. ووثَّقها معالي الأديب محمد المر، في كتاب «أم كلثوم في أبوظبي». هل ذكر الإعلامي خليل عيلبوني، من وقع عليه الاختيار لتغطية الحدث عبر النقل الخارجي لإذاعة أبوظبي، وهو يبحر في وصف عظمة سيرة الفنانة القديرة أم كلثوم، تلك اللحظة المؤنسة والخاطفة لأم كلثوم عندما سمعت صوت الشيخ أبو العلا محمد، وهو يشدو بقصائده: «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا» عبر جهاز «فونوغراف»، والتي ذكرها الكاتب ناصر عراق، ليصبح بعدها أبو العلا معلمها الأول؟. وهل يمكن لتلك المصادفة المدهشة، أن تتكرر من خلال أن تستمع فتاة صغيرة من الخليج لأم كلثوم، أثناء وقوفها مع ذويها بين الجموع الذين احتشدوا بالألوف حول المسرح، واكتفوا بالوقوف قرب المكان الذي غنت به كوكب الشرق، لأن القاعة اتسعت بأكملها لقرابة الـ 4000 شخص، أُغلقت من بعدهم البوابة، أقول: هل يمكن لتلك المصادفة المدهشة أن تتكرر ونكتشف بأن الإلهام سحر خفي، يتكشف في الهامش، في نقطة العبور اللانهائية، فهذا الأخير تجسد في توثيق صحيفة «الاتحاد» الإماراتية للسريان المذهل لطاقة أغاني أم كلثوم: «كانت الملايين في الخليج والجزيرة العربية، وكل أنحاء الوطن العربي يسرعون إلى أجهزة الراديو في بيوتهم وسياراتهم ويديرون مؤشراتها على موجة أبوظبي»، بينما ظل المسرح يومها معتداً بنفسه. كتب الإعلامي خليل عيلبوني: «إن المسرح أعد وجهز بما يلزم، من معدات خاصة بالصوت والنقل الإذاعي والتلفزيوني»، ما ينبش في الذاكرة حول التشكل البصري المرئي، على طول الإمارات السبع، ويجره إلى سؤال التفاعل التام للحواس جلها في المجتمع المحلي. أغداً ألقاك؟ «أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غد يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا».. تجلى الصوت من السيدة أم كلثوم في الحفلة الأولى عبر أغنية «أغداً ألقاك»، من كلمات الشاعر الهادي آدم، وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، بحضور المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، لتنجرف أغنية «الحب كله»، إلى ضيّ الليالي الكلثومية في الإمارات، وتسدل الستار الأول. بين الحفلتين؛ عاشت سيدة الغناء العربي تجاربها الأولى مع عفوية الصحراء، بمشاهدتها لعدد من الصقور، أثناء زياراتها لقصر المنهل، ولقائها التاريخي مع القائد المؤسس وسمو الشيخة فاطمة بنت مبارك (أم الإمارات)، وذلك بحسب ما رصدته الإعلامية عبله النّويس رئيس تحرير مجلة «زهرة الخليج»، التي كتبت بأنها المرة الأولى التي تشاهد فيها السيدة أم كلثوم منظر الصقور، وسردت: «وعندما ذكرَتْ ذلك لحاكم البلاد أخذ عظمته يحدثها عن الصيد بالصقور كهواية عربية أصيلة وكيفية تدريب الصقر على عملية الصيد». إلى كورنيش أبوظبي؛ والوقوف على عتبة مياه الخليج، التي لا تختلف في مداها الأزرق عن سرمدية رمال الصحراء، المثيرة للانتباه، كانت الجولة التالية لسيدة الغناء العربي، وفيها يمكن إدراك لحظة أن يمر أحد أُناس المكان كعادته لممارسة المشي على البحر، ويجد بجانبه كوكب الشرق، تتأمل البحر، حيث كانت لحظة تجوالها في الكورنيش، فرصة للالتقاء وتبادل الأحاديث مع الناس. يا تُرى من حظي بتلك الفرصة، وماذا يمكن أن يسأل الإنسان فنانة بهذا الألق الفني، إذا لمحها في صدفة مباغتة؟! ودارت الأيام اختارت اللجنة العليا المنظمة للاحتفالات بعيد الجلوس، والتي تضمنت: السيد مانع العتيبة، وزير البترول. والشيخ فيصل القاسمي، وكيل وزارة الدفاع. والأستاذ عبد الله النعيمي، وكيل وزارة الإعلام والسياحة. والصحافي عبد المنعم الملواني، المستشار الصحافي لولي عهد أبوظبي، كما جاء في كتاب «أم كلثوم في أبوظبي»، بأن يكون الحفل الغنائي الثاني، مفتوحاً للجمهور، شدت فيه سيدة الغناء العربي بأغنية «ودارت الأيام» من كلمات الشاعر الغنائي، مأمون الشّنّاوي، بينما جاءت أغنية «القلب يعشق كل جميل»، في الجزء الثاني من الحفل، من كلمات الشاعر الشعبي بيرم التونسي. لم يبرز في الحفل فستان السيدة أم كلثوم الغامق وعقد اللؤلؤ فقط، بل ترجل فرسان اللحظة وهم الآلات النبيلة الكمان والكونترباص والقانون، ووقفت المايكروفونات الصوتية تحيي ببسالة الهيبة الكامنة في ما يستطيعون إنجازه من «سلطنة» بارعة للذائقة الروحية. متوجين بذلك ما سعى له صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، وكان آنذاك ولياً لعهد أبوظبي، بأن يثمر الحفل الموسيقي عن احتفال وطني، يثمن جهود المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ويؤسس للبنى الثقافية والفنية، الداعمة لمرتكزات الاتحاد التنموية. في ختام زيارة أم كلثوم إلى أبوظبي كتب معالي الأديب محمد المر: «وبذلك انتهت زيارة أم كلثوم التاريخية لأبوظبي، وستبقى تلك الزيارة من أهم محطات زيارات أم كلثوم الفنية الأخيرة، إذ كانت آخر زيارة خارجية لها وحصلت فيها على التقدير الرسمي المميز والإعجاب الشعبي الكبير، وبعد سنة تقريباً توقفت أم كلثوم عن حفلات الغناء وتوعكت صحتها وتوفيت في 3 فبراير 1975 وقد ودعتها إلى مثواها الأخير جماهير غفيرة من أبناء وبنات الشعب المصري». الكتاب الوثيقة وثَّق زيارة سيدة الغناء العربي أم كلثوم للإمارات عام 1971 معالي الأديب محمد المر، في كتاب أصدره «الأرشيف الوطني» خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب الذي اختتم في الأول من مايو الجاري، احتفالاً بمئوية المؤسس القائد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وتأكيد أن الإمارات ترسخ مكانة الثقافة والفنون بأبهى أبعادها في عام 2018.. عام زايد. يحمل الكتاب عنوان «أم كلثوم في أبوظبي»، وجاء عبر مراجعة المصادر الصحافية، والإرث السمعي والبصري لشواهد حضور سيدة الغناء العربي، إلى جانب عدد من الدراسات المفصلة حول مسيرتها الفنية، قدمها باحثون وكتاب وروائيون وهم: ناصر عراق، وإلياس سحاب، والدكتور أحمد إبراهيم مصطفى عبدالله، ليأتي الكتاب متضمناً رحلة فوتوغرافية زاخرة بالتفاصيل والحكايا لكل من انضم للحفلين اللذين أقامتهما كوكب الشرق: الأول بتاريخ 28 نوفمبر 1971. والثاني بتاريخ 30 نوفمبر 1971. ويشكل الكتاب وثيقة مهمة لتاريخ الإمارات الثقافي والحضاري، بحسب معالي الأديب محمد المر، الذي ساهم في رصد تفاصيل اللحظة الساحرة، لحضور كوكب الشرق، عبر الكتاب المتفرد بالصور الفوتوغرافية الخاصة بالحدث، والتي تعد بدورها المرجعية التاريخية الأبرز في الكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©