الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نهاية الطريق

نهاية الطريق
11 ابريل 2013 21:12
نورا محمد (القاهرة) - ذنبي الوحيد في هذه الدنيا أنني كنت أكبر إخوتي وأخواتي السبع، فتحملت ما لا تطيق الجبال لا إحساس من الآخرين أو من أفنيت عمري وضحيت بكل حياتي من أجلهم، فقد خرجت إلى العمل مبكراً وأنا ما زلت تلميذاً بالمرحلة الإعدادية كي أساعد في تحمل أعباء الأسرة الثقيلة وأشقائي كلهم صغار ومطالبهم كثيرة وإمكانات أبي محدودة أو معدومة، فهو موظف بدرجة عامل في الحكومة وراتبه لا يكفي الخبز الجاف لكل هذه الأفواه واستمرت أحوالي على هذا المنوال عاماً بعد عام ورغم قسوة الظروف إلا أن أبي كان مصراً على أن نكمل جميعاً تعليمنا وكان يسميه «السلاح» الذي يجب أن نتسلح به في المستقبل وعلى حد تعبيره، فإنه كان يردد دائماً بأنه لا يملك ما يورثه لنا ويجب أن تكون الشهادات العلمية عدتنا وعتادنا. دخلنا مرحلة كفاح ضد الفقر ومصروفات التعليم والاحتياجات العامة التي كانت تتزايد كلما انتقلنا من عام دراسي إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى، تكبر معنا النفقات ولم يكن هناك من يتحمل ذلك إلا أنا وأبي حتى أضطررت إلى التوقف عن التعليم عند الثانوية العامة وعملت موظفاً في زمن كانت كل الشهادات لها قيمة وحينها لم يكن صعباً أن أحصل على وظيفة بتلك الشهادة وهذا ما شجعني على التوقف عند هذا الحد، بالإضافة إلى إمكانية استكمال التعليم لاحقاً أو أثناء العمل. الأمور تسير بنا يوماً بعد يوم بين شظف كثير ورخاء قليل غير أن ميزتنا أننا لا نتصرف إلا في حدود إمكاناتنا وهذا كان منبعه الرضا بما نحن فيه، لكن عرفت أنا وأبي طريق القروض والاستدانة واللجوء إلى أصحاب الشركات الذين يبيعون بالأجل بعدما تمت خطبة أختي أكبر واحدة من البنات وتبعتها الثانية ثم الثالثة في أوقات متلاحقة لا نكاد نلتقط أنفاسنا من الديون التي قبلها وتتداخل المديونيات في بعضها، لكن ما يجعلنا مضطرين، لذلك أن المتقدمين لأخواتي مناسبون جداً وكلهم من الشباب المتميزين وكنا حريصين على تزويج البنات في الوقت المناسب مهما كلفنا ذلك من أعباء ولا نجعل المال سبباً في عرقلة هذا الأمر. لم يبق من البنات إلا صغراهن وما زلت طالبة في الثانوية العامة وأمامها أربع سنوات في الجامعة حتى تتزوج، لذا أمامنا فرصة لأن أتزوج أنا فقد بلغت التاسعة والعشرين ويلحقني أخواي في العمر قبل أن يفوتنا قطار الزواج استأجرت شقة بجوار شقة أبي لا يفصل بينهما إلا أمتار معدودة وقد كانت سعادتي كبيرة بهذه الميزة وأنني ما زلت قريباً من عائلتي ولن أبتعد عنها وسنظل قريبين ولا نتفرق. تزوجت فتاة من أسرة طيبة ساهمت معي في تكاليف العرس والأثاث ولحسن الحظ أنها كانت موظفة وساعدتني على أعباء الحياة الزوجية فيتبقى من راتبي ومن عملي مبلغ لا بأس به أساعد به عائلتي، وخاصة في سداد الديون، لكن ما حدث كان أكبر مني فقد توفي أبي بعد أسبوع واحد من المرض وانتقل إلى جوار ربه وشعرت بأنني انكشف عني الغطاء وباليتم مع هذه السن فمهما كانت متاعبي فقد كان هو الذي يتحمل المسؤولية ولم يجعلني يوما أشعر بضيق ويحاول أن يخفف عني وأصبحت الآن وحيداً في المواجهة وأمامي مهام ثقال. لم يكن أمامي اختيار وتحملت مسؤولية الجميع من الألف إلى الياء وتزوج أخي الذي يليني ثم أختي ثم الأخ الأصغر، ولكن ذلك بالقروض والديون فلو أننا انتظرنا إلى أن ندخر المبالغ المطلوبة للزواج ما تزوج أي منا ونحن في تلك الظروف ولا نملك عقاراً ولا أرضاً كي نبيعها كنت حريصاً على أن يظل بيت أبي مفتوحاً وبيت العائلة للجميع وأن تكون لأمي كلمتها وأقضي معها معظم الوقت، وكثيراً ما نبيت أنا وزوجتي عندها كي لا نتركها وحدها، ويسعدني هذا الكنز من سيل الدعوات التي تدعوها لي باستمرار ليل نهار خاصة في الفجر ودبر كل صلاة، وقد كان لذلك أثره فبرغم الديون التي تكبلني والأعباء التي تثقل كاهلي كنت أشعر بالرضا ولا يصيبني الهم والغم مثل الكثير من الناس. وازدادت أعبائي أكثر بعد أن قاربت على التخفف فقد توفي أخي في حادث سيارة وهو في الثلاثين من عمره تاركاً ثلاثة أطفال وبنتا رضيعة وأعلنت أرملته من البداية أنها لن تتزوج ولن تترك أولادها تحت أي ظرف وسوف تكافح من أجلهم مهما كلفها الأمر مع أنها في الثامنة والعشرين من عمرها وقد وعدت فأوفت وصدقت ولم يكن أمامي اختيار إلا الوقوف بجانبها وتحملت مسؤوليتهم جميعاً بجانب مسؤولية أسرتي وكنت قد رزقت أنا الآخر بطفلين. ولم أشعر بالسنين الطويلة التي مرت رغم قسوتها إلا وأنا أرى الصغار شباباً، وقد تخرجوا في الجامعات ويلتحقون بالوظائف مما جعلني فقط أتوقف أمام نفسي أنني لم أعد قادراً على بذل مجهود مثل ذي قبل وانتهى المطاف إلى أنني عدت وحيداً أنا وزوجتي بعد أن تزوج ابنانا وأحدهما سافر مع زوجته للعمل في الخارج والآخر يسكن منطقة بعيدة وتناثر أبناء إخوتي كذلك كل حسب ما أراد له الله في عمل أو مسكن. أمراض الشيخوخة كلها تجمعت عند أمي وانتقلت مبكراً إلى زوجتي وها أنا اقترب من الستين وأعود من عملي أحمل الفاكهة لأمي وأطمئن عليها وأعطيها الدواء وأظل بجانبها إلى ما بعد العشاء، ثم أعود إلى بيتي لأطمئن على زوجتي التي أصبحت تتحرك بصعوبة بعد أن أصيبت بالروماتويد والسمنة وأصبح وزنها زائداً على الحد، وأخيراً توقفت عن الذهاب إلى العمل، فأقوم بواجبي نحوها أقدم لها هي الأخرى الطعام والشراب والدواء ولم أكن أشكو أو أتذمر من هذا الذي يحدث كل يوم بجانب أنه لا يمر أسبوع من دون التوجه إلى الطبيب بإحداهما، لكن ما كان يحز في نفسي أنني لم أجد أحداً من كل من ربيتهم وأفنيت حياتي من أجلهم يقف بجانبي لا ليساعد بمال أو مجهود، وإنما يبيت ليلة مع أمي التي تحتاج إلى من يكون معها في الليل ولا أستطيع أيضاً أن أترك زوجتي، فهي في ظروف أكثر صعوبة. جمعتهم يوماً لأشرح لهم ما يرون وما يعرفون وتعهدوا بأن يتولى كل منهم المبيت ليلة مع الأم لكن سرعان ما تفلتوا ولم يفوا بما تعهدوا به ولم أعتد الشكوى، فمضيت فيما أنا فيه مستعيناً بالله وحده أطلب العون منه وقد وهنت قواي وضعفت مع التقدم في العمر وأتوكأ على عصاي ولم يكن ممكناً أن أجتمع أنا وأمي وزوجتي في بيت واحد لأن زوجتي ثقيلة لا تتحرك وتتأوه كثيراً ولا تريد أن تزعج أمي بآلامها وأمي لا تريد أن تترك بيتها الذي عاشت فيه حياتها كلها وأيضا تستقبل أحياناً أحد أفراد العائلة الذين يأتون بين الحين والآخر لزيارتها على استحياء واحترمت رغبة الاثنتين لأن كلاً منهما في النهاية حريصة على راحة الأخرى وخصوصياتها وللحقيقة لم يكن هناك اختلاف بين أمي زوجتي طوال حياتهما وهذا مما كان يريحني نفسياً. هل تصدقون لو قلت لكن إنني ذقت طعم اليتم مراً عندما توفيت أمي مع أنني قد بلغت من العمر عتيا وتخطيت الستين وشعرت فعلاً بأنني افتقدتها حينها تجمع الأبناء والأحفاد وكانوا كثيرين ولا أعرف أسماء الصغار منهم وأعترف بأنني لم أعد قادراً على تذكرها وأنا في هذه السن وبقي الجميع أياماً في شقة أمي لم يغادروها وطال مقامهم عن المعتاد وعما كانوا يتحججون به من ضيق الوقت والظروف والأعمال وكانت الحقيقة المرة انهم كلهم طامعون في الشقة وكل منهم يريدها لنفسه الأغنياء منهم قبل المحتاجين، حيث إن ثمنها كبير فهي في منطقة عتيقة وسط المدينة ومساحتها شاسعة وهي مطمع فعلاً لكن لم يخطر هذا على تفكيري في أي لحظة. أنا لست في حاجة إلى الشقة وقررت من البداية ألا أدخل في نزاع مع إخوتي وأخواتي بأي شكل حتى عندما فاتحني بعضهم في الأمر أعلنت أنني متنازل عن حقي وأخرجت نفسي من الموضوع ويكفيني أن أهتم بأمر زوجتي المريضة وبأحوالي وأعاني أنا الآخر من بعض الأمراض ولا أجد من يحملني إلى الطبيب وأتحامل على نفسي لأذهب بزوجتي إلى الطبيب وهي في اشد الألم. واشتدت الخلافات بين أشقائي وشقيقاتي الورثة الذين لم يجمعهم إلا الخلاف ولم يصلوا إلى اتفاق بينهم واضطروا إلى الذهاب إلى المحاكم، ولكن قبلها حذرهم المحامون من أنهم جميعاً ليس لهم أي حق في الشقة لأن أياً منهم لم يكن مقيماً معها قبل وفاتها وان الوحيد صاحب الحق فيها هو أنا فراح إخوتي يتوددون إليّ لأول مرة ويسمعونني معسول الكلام ويأتون إلى بيتي محملين ببعض الفواكه والهدايا وقد جاءني العناد لحظة وقررت أن أحصل على الشقة ولا أعطيها لأي منهم، ولكن مثلي الذي اعتاد العطاء لا يأخذ إلا حقه فقمت ببيع الشقة وإعطاء كل واحد نصيبه كاملاً. توفيت زوجتي وبقيت وحيداً بين أربعة جدران فلم أجد من كل هؤلاء واحداً يزورني أو حتى يتصل بي بالهاتف فقط أخشى أن أموت فلا يشعر بي أحد لأن ابني الأول ما زال في الخارج والثاني في مدينة بعيدة، فها أنا الذي كان في ضجيج وانشغال طوال حياته أصبح في هدوء قاتل وفراغ شديد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©