الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شيء من الشغف...

24 ابريل 2014 09:34
بدأ ولعي بقراءة القصص والروايات وأنا في المرحلة الثانوية. هذه القراءة النهمة حرّضتني، في أواخر الستينيات، على أن أجرّب كتابة القصة.. لكن بسذاجة المبتدئ. إنك تبدأ بغايات معينة، كأن ترغب في التعبير عما يوجد بداخلك.. أفكارك وعواطفك ومشاعرك وهواجسك. ثم تضع لنفسك هدفاً سامياً، فيه الكثير من الادعاء والسذاجة أيضا: أن تغيّر واقعك، حالماً بعالم أفضل، بغد أفضل. مع ولوجك أكثر، وغوصك أعمق، في تجربة الكتابة، وتعرّفك أكثر على الاتجاهات الثقافية والفكرية، وتوسّع مداركك بشأن الحياة وأشكال الفن، تبدأ في إعادة النظر في كتاباتك واهتماماتك.. لا تعود الكتابة وسيلة أو وظيفة، بل تصير حياة أخرى تمارسها بشغف، وتدرك بأنها وحدها التي تعطي وجودك معنى وقيمة. سرد لا يضاهي سرد الجدّات لأني كنت مولعاً بالرواية، في البداية، أظن أن هذا هو الذي وجّهني إلى كتابة القصة القصيرة.. إضافة إلى تأثري العميق بالحكايات التي كانت جدتي ترويها لنا ونحن صغار. كانت تسرد الحكاية بطريقة فيها الكثير من التشويق والدراما، كانت مذهلة في السرد، من خلالها أحببت السرد. لكن المفارقة أنني، منذ أن شرعت في كتابة القصة، لم أكترث كثيرا بالسرد.. أعني السرد التقليدي، ربما لأني على نحو غير واع، شعرت بأنني لا أستطيع أن أضاهي الجدّة في السرد، أو ربما لأني شعرت بالامتلاء في السنوات التي أمضيتها، وأنا أصغي إلى سردها. أحببت الشعر كثيرا أكثر من القصة والرواية، لكنني لم أجرب كتابة القصيدة، لم أشعر بأني قادر أو مؤهل لفعل ذلك، أردت أن أكون شاعراً في مجالي الخاص. إملاءات التجربة لا أعتقد أن الكاتب يختار أن يكتب بهذه الطريقة أو تلك، بهذا الأسلوب أو ذاك.. التجربة هي التي تفرض أو تملي اللغة والأسلوب، أو الشكل. إذا كانت هناك مغايرة في نصوصي، فإنها نابعة من استفادتي المبكرة من منجزات الحداثة الأدبية والفنية، من وعيي بالحساسية الفنية الجديدة واشتغالي على عناصرها وتقنياتها. على سبيل المثال، منذ البدايات لم أكن واثقا بأن السرد الكلاسيكي سوف يثري نصوصي أو يساهم في دعم وتعزيز رؤيتي، لذلك جعلته يأخذ منحى آخر، مستثمرا جوهره الشعري. من الضروري أن يعتني الكاتب بأدواته وتقنياته، وتجديدها، فمن خلالها يجدّد تجربته ويعمّق رؤيته. سذاجة البدايات أو براءتها في بداياتي كانت تتملكني فكرة تغيير الواقع والمجتمع عبر الكتابة، وكان ذلك ضرباً من البراءة والسذاجة اللتين ترافقان البدايات عادة، ويفرضهما مناخ سياسي واجتماعي معين. كنا جميعا، آنذاك، نظن أن الكتابة قادرة في لمحة على اجتراح المعجزة المرتقبة، كنا في الحقيقة نحلم، وكان حلماً جميلاً ونبيلاً وطفولياً، لكننا خذلنا هذا الحلم، أو اتضح أنه محض وهم كبير. الكتابة، وكل الأشكال الفنية، لا تقدر أن تغيّر الواقع. قد تقول للإنسان شيئا عن واقعه، عن معنى ذاته ووجوده، أن تعمّق وعيه، وأن تصقل حسه الجمالي. وإذا استطعت أن تحقق بالكتابة بعضا من هذا، فإنك تكون قد أنجزت شيئاً له قيمة وأهمية. عبر الكتابة، تحاول أن تتصل بالآخرين، لكنه اتصال على المستوى الإبداعي، بمعنى أن تتوجّه إلى قارئ واع وثريّ المخيلة. نحو المغامرة الفنية كل كاتب يختبر نوعا من التطور، أو التحوّل في تجربته. لقد بدأت كاتبا للقصة التقليدية، لكن سرعان ما استفدت من منجزات القصة الحديثة آنذاك، فابتعدت القصة عندي عن الحدود المتعارف عليها أو المسلم بها إلى أفق مفتوح على المغامرة الفنية. لم تعد عناصر القصة التقليدية (من لغة وسرد وحبكة وحوار وشخصيات) تستجيب إلى ما أريد التعبير عنه وإلى رؤيتي الفنية، بل تشكل عوائق أمام كتابة أسعى إلى استشرافها، تتمازج فيها الأنواع وتتلاشى التخوم المصطنعة التي تفصل بين الشعر والنثر – مثلا - ويتخذ فيها السرد بعداً مختلفا، وحيث تتولد جمالية جديدة أو مغايرة. شعرية النص أن يتسم نصّ بالشعرية، أو أن يتخلل الشعر أنسجة النص، فذلك ليس تهمة يتوجب على الكاتب أن يدحضها أو يتنصل منها أو يدافع عن نفسه تجاهها، فالشعر جوهر كل كتابة، كل فن، بمعنى أنه متجذر ومتأصل في كل فعل إبداعي. من الخطأ الاعتقاد بأن الشعر يخص القصيدة وحدها. هذا فهم قاصر لمعنى الشعر وطبيعته. فالسرد يمتلك خاصية شعرية، كذلك الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية والمنظر الطبيعي. الشعر موجود حولنا وفي كل مكان، فلماذا تستكثر أن يوجد في القصة أو الرواية؟ من الضروري أن ندرك بأن الشعر يوسّع تخومه، وراء حدود الاتصال اللفظي، لمعانقة أشكال أخرى من التعبير الفني.. بمعنى آخر، الشعر أفق مفتوح على مداه، ليشمل كل فعالية إبداعية. من الأخطاء الشائعة في الأوساط الثقافية العربية اعتبار الشعر ملكية خاصة يتوارثها كتّاب القصائد وحدهم، ولا يحق لروائي أو تشكيلي أو سينمائي انتهاك هذا الحق والسطو على المخزون الشعري الذي يحرسه كتّاب القصيدة ببسالة. هكذا يظنون، هكذا يرون، هكذا يريدون احتكار (أو بالأحرى استعمار) الشعر وإغلاق منابعه عن مبدعي الأشكال الأخرى. لكن الشعر، في جوهره، لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد، في الصورة السينمائية، في اللوحة، في الطبيعة، في الحياة اليومية. ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره. ولأن الشعر متجذر في الصورة والنثر، فإنه ينبثق وقتما يتم استدعاءه، ليس بصعوبة وليس قسراً أو افتعالا. اختراق التخوم الفاصلة نصوصي الأدبية لا تعتمد على السرد الكرونولوجي، أي القائم على التسلسل الزمني، ووفق المفهوم الأرسطي للتعاقب من بداية ووسط ونهاية، في مجرى طولي يبدأ من نقطة محددة لينتهي عند نقطة أخرى، دون أي تقاطع أو تداخل أو تمازج من قِبل عناصر أخرى تنتسب إلى مصادر، مثل الذاكرة والمخيلة، لها بعدها الزمني الخاص المختلف تماما عن المنظور الواقعي. نصوصي، في مجملها، هي نتاج المخيلة والذاكرة.. بمعنى أن للسرد خاصية التركيز والتكثيف والتشظي، والذي بدوره يستلزم بالضرورة بعداً زمنياً يقوم على التكثيف والاختزال الذي ينسجم مع حالات التشظي والتفكك. روايتي «رهائن الغيب» – على سبيل المثال - تتحرك ظاهريا، من خلال التعاقب الزمني، على مدى فترة زمنية محددة، لكن عمقيا، ولأنها نتاج ذاكرة ومخيلة، فهي تكون بمثابة ساحة تتداخل فيها الأزمنة، مخترقة التخوم الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو متخيّل، ما هو حقيقي، وما هو وهمي أو حلمي. في هذا العمل «رهائن الغيب» أردت أن أتناول فترة محددة من حياتي، مجتزأة من سيرة حياة ومن سيرة مكان. مختارا العام 1963، أي عندما كنت في الثالثة عشرة من العمر. اختياري لهذه المرحلة من العمر لم يكن عشوائيا، أو لأن أحداثا دراماتيكية وقعت آنذاك، لكن لأن في هذه السن يختبر الإنسان أول كل شيء: أول العنف، أول الحب، أول الجنس، أول الوعي السياسي، أول الانتماء، أول البحث عن هوية. إذن، بمعنى ما، هي سيرة كل فرد مع اختلاف التفاصيل والمظاهر، فالجوهر هو نفسه. حي الفاضل، مثل غيره من الأحياء، كان يعج بالشخوص والأحداث، يغص بالتناقضات والاختلافات، يحفل بالقصص والطقوس، وقد حاولت أن استفيد من هذا في بناء العمل ورفده بما يكفل له حيويته وطرافته. كونية الأشياء في نصوصي، المكان ينسلخ عن واقعه المحلي ليكتسب بعدا كونيا، فلا يعود الشارع هو نفسه الشارع الذي نعرفه، ولا البيوت، ولا الدكاكين، ولا الشواطئ.. كلها تتحول وتحمل دلالات مغايرة. هذا نابع من قناعتي بأن كل كائن، كل مكان، ما إن يدخل في النص، حتى يتحوّل ويصبح كونيا، ولا يعود ينتسب إلى الواقع الذي أستلّ منه. الواقع نفسه يتحول ويعاد خلقه المرّة تلو الأخرى. في الكتابة أنت لا توثق لكن تخلق بعناصر، من أهمها المخيلة. في «رهائن الغيب» تبدو الأماكن واقعية ظاهريا، لكن لأنها نتاج مزيج من الواقع والذاكرة والمخيلة فإن الكثير منها يكتسب بعداً تجريديا، أو خاصية حلمية. نافذة تطل على الروح أي نص هو بالضرورة انعكاس لذات الكاتب ورؤاه وتجاربه الشخصية ومعرفته الثقافية وأحلامه وذكرياته وتخيلاته. الكتابة، بالنسبة لي، ليست قناعا أو نتاج مخيلة محضة بل هي نافذة تطل على الروح.. مرآة للنفس تعكس الدواخل والأعماق. الذات، أو شظايا من السيرة الذاتية موجودة في النص، لكنها قد تنتحل أشكالا أو شخوصا أو أفكارا. كتابي «مدائح»، على سبيل المثال، هو نتاج تجربة حب معاشة، إذ كيف تقدر أن تكتب المدائح ما لم تحب بعمق. عناصر المخيلة والذاكرة هي أيضا ذاتية وموظفة لدعم التجربة الشخصية كما في «رهائن الغيب».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©