الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل وامرأة

17 يونيو 2010 21:00
يباغتني الحنين إليهم، يأتيني على غرة، يخرج وجوههم من ثنايا ذاكرتي، يعيدها إليّ، أراهم، أحدثهم، ألمسهم، أشتم رائحتهم وأذوي.. رجل وامرأة صنعاني في طفولتي، في بيتهما السعفي البسيط مشت خطواتي الأولى، يأتي بهم ذكر الصيف، القيظ، الغربي ونسايم الهبوب.. يخرج جدي عملاقاً من عقل طفولتي، يهديني حبات «الهمبا» التي يحضرها معه من «النخل»، يمرجحني فوق أرجوحة صنع حبالها من ليف النخل حتى تشققت كفاه، علقها بحبل لتتدلى أسفل «منامته» المرتفعة، أجلس على اللوح الخشبي، يمرجحني وينطلق صوته العذب يغني«يا طير طاير ضحى سلم على بلادي». جدي، «أبويه العود» كما كنت أسميه، علاقتي الأولى بنفسي وهويتي التي تتلمذت على يديه، أجلس قربه وهو «يسف الخوص» يناولني بعض الحبات، أقلد حركة يديه لأصنع «جفيري» الأول، و«مهفتي» الوحيدة. أعشق صوت أذان المغرب حين ينساب من حنجرته، يؤذن على طرف عريشه الذي لم يرض النزوح عنه إلى البيت الحديث، أراقبه وهو يتناول رغيف الرقاق وأحاول تقليده، قبل أن يسألني «ما سورتك» يحاول أن أسمع له ما حفظت من جزء عم. في المساء، تضحكني قصصه التي يبدأها «بما يقول المتمثل» وينهيها بلعبة الظلال التي كان يجيدها، يضع «الفنر» ويرسم بيديه ظلالاً كبيرة، جميلة مبهجة لصغيرة لم تتخط العاشرة بعد. قبل الفجر، قبل النور، قبل أن تغمر الدنيا غلالة الضوء الأولى، تستيقظ جدتي، تذهب لتوقد النار، تسخن الماء لجدي على «الحطب»، على النار التي «تشبها» بالخوص الجاف وحطب السمر، ولا تطفئها إلا بعد العشاء. توقظني للحياة، لالتقاط «الخلال» المتساقط طوال الليل من «عذوج النخل»، تحدثني عن السنع، ترسلني لإحضار حبات «اللومي» من تحت الخرس، وحين أعود بسرعة، تمسح على رأسي وتقول «هبة ريح». جدتي التي تركت الحكايا والقصص لجدي، كانت لا تتحدث إلا بالحكمة، لا تتكلم إلا لتقول شيئاً تطبعه في عقلي ويبقى إلى أن كبرت وعقلت وفهمت ما كانت تقول. جدي وجدتي، رجل وامرأة، يتسربان من ذاكرتي إلى قلبي المفجوع برحيلهما قبل سنوات عدة، صارت ذكراهما تحاصرني في عملي، كلما كتبت شيئاً عن التراث والتاريخ، أجدهما أمامي، كلما حاولت أن أبحث عن معلومة تراثية يخرجان لي، أعثر عليهما في مواضيعي، في عناويني، في الصور الأرشيفية الكثيرة، لأحيان كثيرة أعتبر نفسي محظوظة، أنا لم أسمع عن التراث مثل غيري، لم أره في المتاحف مثل أغلب من هم في عمري، أنا عشته وتتلمذته في بيت جدي الذي كان يرفض الانتقال إلى الحضارة إلى أن رحل منذ سبع سنوات، علمني ذلك الرجل تاريخ وطني، ومنحني هدية أن أعيش الزمن الذي رحل بكل تفاصيله وحكاياته وأشيائه البسيطة الجميلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©