الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتباهي بقلبه

المتباهي بقلبه
27 أغسطس 2008 23:37
حسب سعدي يوسف كان لمحمود درويش أن يتباهى بقلبه عندما مرض للمرة الأولى، ''فأين يمكن للشاعر أن يمرض في موضع غير هذا''؟! ولهذا يحق لمحمود أن يتباهى بقلبه اليوم أيضا وهو يندثر وينحسر ويتلاشى ويتحاشى، فدرويش لم يرحل بالأمس فحسب، كما زعمت الأخبار· لم يرحل درويش، ولكن اللغة كانت تتجاسر على الصمت المطبق، وكان الغيم ينسى رطوبته الأليفة، وكانت الأمهات تنتحبن على بوابة المشفى الأميركي، كي لا يسقط الزيتون في أرضٍ لها المستقبل كله، وليست لأولادهن أوأحفادهن· لم يرحل درويش لكن الخيول صهلت كي لا يعلو من الحضيض صوت خفيض: ''حيّ على المفاوضات''· رحل درويش في المشفى الأميركي عنوة وليس مصادفة، كي يعلن من عاصمة ابتلعت ادوارد سعيد من قبل، أن تلك البلاد لطالما استكثرت علينا الرجوع لتراب لا يصدأ مهما طال الانتظار· رحل درويش· حسنا، كان عليه أن يغادر قبل اليوم بدهر، ولكنه شاء أن يثبت للعالم أن موته يجب ألا يكون بلا شاهدة يتم حفرها في المنفى، من أجل وطن هو اللجوء وهو المنفى وهي الحق المحفوظ في المتحف الدولي الحديث· ''هل رحل درويش حقا''؟ أجيبوا يا من تسهرون أمام الشاشات، وأنتم تتناولون ''الوجبات الخفيفة'' بلا اكتراث· ملامح منجز شعري إدريس الخضراوي يذكرني الإجماع الجماهيري حول فداحة غياب الشاعر العربي الكبير محمود درويش عن عالمنا، بذلك الإجماع الذي تعرفنا عليه في كتب التراث العربي، والذي نالته شخصيات كان لها أبلغ الأثر على الجماليات العربية والإنسانية: طرفة بن العبد وأبو تمام والبحتري والمعري والمتنبي والتوحيدي والجاحظ· وإذا كان لهذا الإجماع من دلالة فإنه يحدّثُ عن أن درويش حالة استثنائية في الإبداع العربي الحديث، بكل ما تعنيه الكلمة من معاني الفرادة والمغايرة والاختلاف· ولا يمكن لهذه الاستثنائية المغادرة لحقلنا الثقافي والإنساني إلا أن تلقي بظلال من القتامة عليه، خاصة وأننا أحوج في هذا الزمان العصيب إلى من يضخ الدم في وجودنا، وفي لغتنا، وما قدمه درويش للشعر العربي الحديث لا يناظره في الأهمية والقيمة والجلال سوى ما قدمه الشعراء في العصور القديمة· شعرية درويش التي يتعالق فيها الحب والوطن حد الانصهار لا تدعك تلمس ذلك البعد الدرامي والملحمي المتولد عن هذا التعالق إلا وقد تملكك السؤال عن أيهما أنجب الآخر: درويش أم الحب· وواضح أن درويشا شيد متخيله على قراءة النصوص القديمة المؤسسة والرموز البدئية التي طورت فيه إحساساً بالإنتصار وحتميته بعيدا عن المواضعات السائدة والفجة· لذلك إن اشتغاله المضني على هذه الثيمة جعلها تتعين مساراً من النصر إلى التدهور، ومن التدهور إلى التسامي، عبر استعارات ومجازات لا تنقصها السخرية· بهذا المعنى يمكن أن يقرأ إنجاز درويش، خاصة فيما يفعمه من عواطف ومشاعر تبدو أبعد وأقوى من أن تفسر في ضوء سياقات محددة تتصل بالالتياع والشوق· إن حب درويش هو على الأصح نمط من التموضع إزاء الذات والوطن· ولأنه تموضع قاس ومؤلم ونبيل، فقد خصه بكل ما يفعمه بالألق والتوتر والمعنى· لذلك آثر ألا يذعن لكل ما من شأنه التشويش على هذه العلاقة، أو الحد من تأثيراتها على الأراضي الشعرية التي يرحل إليها أو يحاورها· ودرويش عاش في قصائده لأجل الحب، رغم أنه حرم منه بسبب الحصار والمنفى· وعشق حبه إلى درجة القداسة، حتى لكأنه يبدو أشبه بالأبطال التراجيديين الذين في خيباتهم تتجلى الروح الإنسانية في عذوبة معانيها وجلال رسالتها· الجمع بين النقيضين في الحب هو ما يميز درويش كذلك· الحب بما هو ارتباط وحنين وتوق إلى الأرض والبشر، لكنه في بعده التملكي، يغدو نمطاً من الإلغاء والاستبعاد والإرجاء، كأنما القصيدة تتعين في آخر المطاف مركزه· أو هي إذا شئنا الأرض التي يتآلف عليها النقيضان وقد صارا ذاتا واحدة· هي صورة الحب كما جسدها كذلك الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وجعلها إحدى مداخله لرسم الصورة التي لم يكف عن ملاحقة ألوانها وظلالها، حتى بدت له في ذلك السلوك التجردي الرافض للأوهام والمتشبث بذلك الحب الذي أدركه حرقة وهلاكاً وإقامة على حد الموت· حتى لكأنه يصوغ بذلك الدليل والبرهان على أن لا حقيقة أسمى في النهاية من الحب· كاتب وناقد مغربي مات وماتت·· كل في كفن سهى صوفي نحيب الكلمة يشق الطريق من رام الله إلى الشام، يمزق صمت الموت، يستأذن من ولولة الأصوات التي أخذ صوته من حناجرها استراحة عاشق، فعلمها كيف يكون الحب وكيف تكون الهزيمة وكيف لا نكون عشاقاً إلا بدواوينه، تحط على عتبات لقاءاتنا مرساة مدن تلتقي على حضن غيمة، يقرأ لها كلماته، يعتذر عن عجزه في كتابة قصيدة، درويش قتله وأهداه ديوانه: ''اتركني أنوب عنك في صلبها على أعمدة الشعر''، قالها ومضى، يحط رحاله على عتبات لقاءات أخرى، لم يعرف درويش أن العشق ناب عنه في هزيمتنا، لم يعرف أن الصوت استعار صوته في الآه الساقطة حزناً من حروفه، لم يعرف أنه وحد القدس والشام في رواية هزمها موته فأجل لقائي به· مات درويش قبل أن أعترف له أني من صنع صوته، في صوته كان مخاض الحرف الأول، ومن ديوان ''كزهر اللوز أو أبعد'' سقط الغيث من الغيث فسقى حقول الياسمين حتى عربشت على حدود المستحيل بين أوطاننا، فخجل التاريخ من نفسه، ترك باب العبور مفتوحاً لتدخل منه حروف العشق على هودج درويشي· درويش، كنا نحبك أنت، لا مجازك، صوتك الخارج من رحم الزيتون والبرتقال أنبت في ذاكرتنا وطناً علقته على أعمدة الكون، فكان لنا بمعزة الأبن المخطوف الساكن على بعد مستحيل، فمَن مِن بعدك سيغني عوضاً عن ذاكرتنا ''نشيدنا الوطني''، راهنت ذات يوم على أنه ''لو نجح المؤلف في كتابة مقطع في وصف زهر اللوز، لانحسر الضباب عن التلال، وقال شعب كامل: هذا هو، هذا كلام نشيدنا الوطني''، خسرت الرهان يا صوت فلسطين· من بعدك لن تنهض الحروف من مراقدها، موت الحرف في الحرف هو قدر الشعراء والمؤلفين، زهر اللوز سيظل بلا إنصاف، لن ينحسر الضباب عن التلال، ولن يغني شعب كامل نشيداً وطنياً واحداً، سقطت النقاط عن الحروف يوم رحيلك، لم يعد بإمكان الصوت أن يستعير منك قصيدة، سيخجل العشاق من أخذ ورثك الشعري هدايا لنسائهم· موتك هزمنا كما هزمنا الحب في قصيدتك: ''يا حب لا هدف لنا إلا الهزيمة في حروبك·· انتصر أنت انتصرْ، واسمع مديحك من ضحاياكَ: انتصر، سلمت يداك، وعد إلينا خاسرين وسالماً''· درويش، سأفضي لك بسر صغير، تلك البنت التي قلت لها ''ليتني كنت أصغر'' كبرت في جنازتك، لم تسهر حتى الصباح، ليسود ما تحت عينيها ''خيطان من تَعَبٍ متقن يكفيان لتبدو أكبر ''كان يكفيها أن ترى نعشك لتكبر، فيا ليتك لم تحزن لأنك لم تكن أصغر· شاخت العاشقات والحروف يوم افتقدتك، فكنت في حضورك وغيابك إله الشعر الذي لا يكبر ولا يصغر· سيدَ المشهدِ الشعري سميح محسن بِما علّمتَنا من مفرداتِ اللغةِ وجماليِّاتِها، أيُّها الشاهدُ على فصولِ الأسطورةِ والملحمةِ، نحاوِلُ الآنَ الاقترابَ من غيابِكَ القاسي· لا لرثائِكَ يا سيدَ المشهدِ الشعريِّ، وتاجَ فلسطينَ وحداثتِها المُحْبَرَّةِ بالدمِ، ولكنْ، لِنَفْهَمكَ أكثرَ مما مضى· وقد مضيتَ من بيننا وحدكَ، وبهدوءٍ أشبه بهدوئِكَ الدائِمِ وأنتَ تغادرُ خشبةَ المسرحِ بعدَ إلهابِنا بالحماسةِ، وتجريعِنا بما تفيضُ بهِ قصائدُكَ من المعاني الجميلةِ في إعادة رسمِ تضاريسِ الوطنِ وجمالياتِهِ المُبْهِرَةِ، وفي تحدي الموتَ الذي وضعتَ سيناريوهاتٍ خاصةً بكَ لاستقباله· لقد كنتَ معلِّمَنا في المقاومةِ والشعرِ وإبداعِ أشكالَ الحياةِ معاً· فقد تفَتَّحت عينا جيلِنا على مَشْهَدَّي الهزيمة والانبعاث، هزيمةِ الساسةِ والعسكرِ في حزيران اللاهبِ وإضاعةِ ما تبقى من الأرض/ الوطن والحلمِ بالعودةِ إلى كرملكِ الذي أحببتَه أكثرَ من أي شيء آخر، وانبعاثِ الثقافي الذي صرخَ في وجهِ الهزيمةِ ليرفضَها، ويستنهضَ روحَنا المقاوِمة· ولا تزالُ لكلماتِكَ المباشرةِ (سجِّل أنا عربيّ) صداها المدوي في آذانِنا، وآذانِ مَن جاؤوا مِن بَعدِنا رغم احتجاجكِ القلقِ على مطاردةِ تلكَ القصيدةِ لكَ في قراءاتكِ الشعريةْ اللاحقة· ألستَ المتسائِلَ على مسرحِ جامعةِ الكويتِ في الخالدية عام 1982 عندما طالبكَ جمهورُكَ بقراءةِ سجِّل أنا عربي: ''إلى متى ستظل هذه القصيدةُ تطاردني؟!!''· آنذاك تَفَهّمنا جمهورَك وفهمناك· لقد حَمّلناكَ وزملاءَك من شعراءِ (داخلِ تلكَ الأيامِ) عن قصدٍ فضيلةَ قصيدةِ المقاومة· كانت مقاصِدُنا يا محمود نبيلةً، ونابعةً من بابِ ردِّ الجميلِ لكم أنتم القادمونَ من غيابةِ الجُبِّ لتمدونا بجرعاتٍ من نسائمِ اكتشافِ معاني الحرية· إلا أنكَ حاولتَ تحريرَ المعنى، ففهمناك، وهناك من فهمكَ وكأنك تريدُ التحررَ من المعنى، فآثرتَ الاستمرارَ في التوضيحِ حتى في آخرِ لقاءاتِكَ الصحفية· خلال مسيرتِكَ الشعريةِ وتربعِكَ على عرشِ القصيدةِ العربيةِ مدةَ خمسةِ عقودٍ من الزمن، استعطتَ بدونِ منازعٍ حل لغزِ المزاوجةِ بين صوتِ الوطنِ وهمومهِ وقضاياه ومعاركه الكبرى والصغرى، وبين صوتِ الفن· لقد أمسكتَ بمنتهى البراعةِ، وباقتدارِ الصانعِ الماهرِ الخيطَ الرفيعَ بين المبنى والمعنى، وانتصرتَ للاثنينِ معاً، فانتصر الاثنان بكَ معاً، الوطن والقصيدة· لذا قلتُ أننا تفهمنا جمهورَك الذي طالبك بقراءةِ (سجل أنا عربي) وفهمنا احتجاجَك المرتبطَ بتطويرِ مشروعكِ الشعريِّ، وتطويرِ فهمكَ لمعاني المقاومة التي رفضتَ تقييدها في وعاءٍ جاهزٍ وضيِّق وشِعاري· كثيرون من الشعراءِ التاريخيين، ومنهم مَنْ أعلنت طوالَ حياتكَ انحيازكَ لإبداعِهم، حملوا القصيدةَ لتوصلَهم إلى مقعدٍ في سدةِ الحكم، أي أنهم وظّفوا قصائدَهم ومشروعَهم الشعريَّ لهدفٍ أعتقدُ أنكَ لا تراهُ نبيلاً، أما أنتَ فقد حملتَ فلسطينَ في قصائدك، وجعلتَها مركزَ مشروعكِ الشعريِّ الذي ظلَّ خاضعاً للتجديدِ حتى نهاياتِ قدرتكَ على استخدامِ أدواتِ الكتابة، وكم جميلُ الاعترافَ بأن هناك الملايينَ من البشرِ عرفوا فلسطينَ من خلالِ قصائدك· واحسبني الآن أنك، وخلالَ مشروعِكَ الرائدِ الرائعِ، أنكَ كنتَ تخاطبُ نفسَك لحظةَ الكتابةِ أن فلسطينَ وجمالَها ومأساتها ومستقبلَها وقديستَها توجبُ علينا تقديمها في أبهى صورِ الشعرِ، فكنتَ القادرَ على فعلِ ذلك وبامتياز· لقد خسرناكَ يا محمود درويش· كما خسرنا من قبلك غسان كنفاني، وناجي العلي، وإميل حبيبي، وتوفيق زياد، وإدوارد سعيد، وآخرين من أعمدة ثقافتنا الوطنيةِ ذاتِ الأبعادِ الإنسانية· سنكابر ونقولُ أنكَ رحلتَ بجسدكَ عنا، وأن تراثكَ باقٍ فينا· نعم، نحن سوف نستمر بقراءتك لأننا محتاجون لقراءة الجمالِ الشعريِّ والتعلم منك، ولكن رحيلك أوقفَ مدادَ مَعينِ الإبداعِ الخارقِ والاستثنائي· أنا لن أكابرَ وأقول إن شعبنا قادر على توليد محمود درويش آخر لأنك كنت استثنائياً، والاستثنائي لا يتكرر لأنك أنت أنت، وغيرك غيرك· أيها المَجيدُ والمُجيدُ لقد انتصرتَ في حياتكِ شاعراً ومثقفاً وطنياً وإنسانياً من الطرازِ الأول· لقد استطعتَ باقتدارِ تغليبَ الثقافي على سطوةِ السياسي، فلمْ تأبه بمنصبٍ بل كنتَ تتركُ المقاعدَ للمتزاحمين عليها عندما كنتَ تشعرُ أن مشروعَكَ الشعري في خطر، أو أن موقفاً سياسياً قد يُمَرَّرُ في حضورك، فانتصرتَ على نفسك، وعليهم· شاعر فلسطيني ـ رام الله
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©