الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجال في محنة جماليات المفارقة والصورة الفنية

27 أغسطس 2008 23:38
عند التوغل في نصوص القاص الاماراتي علي محمد راشد ستجد أن براعته في الكشف عن المشهد الحياتي المحلي تشي بوعي شديد في استخدام أدواته التعبيرية في تقديم ''صورة مشهدية'' للمجتمع وشرائح ونماذج عديدة من الناس تنتمي الى واقع المكان، حيث لامسنا ولعه الشديد في تحديد شخوصه من خلال المكان، واستخدام عنصر ''المفارقة'' في تشكيل صورته الفنية التي تحمل العديد من العناصر المبهرة ومقدرة على تجميعها في نسيج فني مؤثر· إشارات دالة كثيرة بينت مدى التصاق كاتبنا بالواقع المحلي الذي بدا واضحا في قصته ''جروح على جدار الزمن'' (1982) ويتحدث فيها عن واقع أسرة تعيش تفاصيل حياتها وتناوله للواقع الحياتي للناس ومجتمع البحر مستخدما ''السرد الوصفي'' وهو مكون أساسي في بناء المسرحية الحديثة، طريقا لتحقيق أبعاد وصور فنية تنسجم مع أحداث الرواية على نحو نجاحه في روايته ''عندما تستيقظ الأشجان'' و''ساحل الأبطال'' وكيف نسج فضاءات واسعة من خلال هذا السرد لتوضيح حكايات شخصياته بأسلوب الاسترجاع الداخلي في المسرح والسينما (تكنيك الفلاش باك) مما حقق له بناء روائيا منضبطا بتنويعات من العرض الجاذب للقارئ في إطار من التشكيل اللغوي واستخدامات جريئة لعناصر البناء الفني في القصة· إن اعتماد علي محمد راشد على الإيقاع السردي الذي تخلله بعض الحوارات ساهم في تحقيق مقدار ممتاز من عناصر الوصف والحكاية وهذا ما سنراه في قصته ''رجال في محنة'' التي نشرها في مجلة ''شؤون أدبية'' العام 1987 والصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في ذلك الوقت وهي محور هذه المقالة تحديدا· يبدو أن مفردة ''البحر'' متلازمة في معظم أعمال علي محمد راشد حينما نقرأ عن عناء البحارة وطقوسهم في رحلات الغوص المريرة كما في ''ساحل الأبطال'' (1987)، كما نقرأ عن شخصيات تاريخية لعبت دورا مهما في تاريخ إمارة رأس الخيمة في بداية القرن التاسع عشر· مستخدما ببراعة كل عناصر المكان الى القيم والمفاهيم والعادات والتقاليد والموروث الشعبي والأعراف والمعتقدات والمهن والحرف الى العلاقات الاجتماعية بين أفراد الماضي والحاضر وبخاصة المجتمع البحري القديم بكل مفرداته وطقوسه· الشخصية المأساوية الشخصية عند علي محمد راشد تتحدد أولاً بسمات البساطة الاجتماعية، وثانيا بذلك التأزم الشخصي الذي يدفعها الى نقطة النهاية أو الذروة دون إخلال بالشكل العام·· كما أن السرد في القصة يمتاز بالقصر والومضة في بعض المواقف و''سلطان'' أبو أحمد البطل المحوري لرواية ''رجال في محنة'' هو شخصية مأساوية بكل المقاييس، تتجلى فيه قوة الفعل رغم نغمة الحزن التي يبدأ بها رحلته وهو النوخذة والبحار العريق الذي يستعد لرحلة غوص مريرة قد تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر سيقضيها بين السماء والماء ويكون خلالها بعيدا عن الأهل والأحبة والجيران في الفريج (الحي)· إنه يشعرنا طوال حواره مع زوجته بأنه مهموم الى حد الشعور بالوحدة والعزلة والقلق خوفا من أن لا تتم رحلته المعتادة الى عباب مياه الخليج· لقد تخلى عنه الرجال ولا بد أن يتمم عدد البحارة على السفينة حتى صباح الغد، وتأتي النقلة الأهم في أحداث الرواية عندما يصر أبو أحمد على الاستعانة بولده الصغير ''أحمد'' ذي الأحد عشر ربيعا في رحلة الغوص بسبب قلة البحارة الرجال وانصرافهم الى سفن أخرى: (أبو أحمد مخاطبا زوجته: أم أحمد نحن أصحاب بحر وهو أول شيء رأته عيوننا، طفولتنا بقربه، وشبابنا على ظهره، وأحلى سنين عمرنا في أعماقه، نتلقط رزقنا من بين أنياب كلاب البحر، إن احمد أصغر من أن بغوص، انه لن يعمل شيئا سوى مساعدة الطباخ أحيانا، وإحضار الماء والتمر للبحارة)· وهنا يوظف الكاتب تقنية الحوار المسرحي بين أبو أحمد وزوجته الرافضة لمشاركة طفلها الصغير في مجازفة الزوج الخطرة، وقد فضل الكاتب استثمار بعض الاصطلاحات المحكية في نسيج الحوار لكي يضفي على عمله نكهة محلية خاصة· إن تسليط الكاتب الضوء على بطله المحوري في اتجاهات عديدة وتحديد الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية لها، كان مهما في تحديد التحولات القادمة للشخصية بما ينسجم مع رؤيته للتركيبة المأساوية بما يحقق توازنا عاما في البناء العام للرواية· البحر عند كاتب الرواية هو المعادل الموضوعي لحركة وسلوك الشخصيات على النحو الذي نجده في معادل ت· اس· اليوت، ففي مشهدية بصرية رائعة ينتقل بنا كاتب الرواية الى عمق البحر، حيث الاستعدادات والطقوس الخليجية المعروفة لرحلة الغوص بحثا عن اللؤلؤ من أهازيج ونهمات بحرية وغناء، وحركة غامرة للرجال البحارة، حركة امتزجت في نهاية المشهد بحزن بالغ وسكون غريب بعد أن سقط أبو أحمد ميتا على ظهر سفينته، لتبدأ مرحلة أخرى من الاقتتال الداخلي بين البحارة على الغنيمة ''اللؤلؤ'' وكيف سيتم توزيعه، وتنتهي معركتهم بخيبة أمل كبيرة بعد اكتشافهم أن غنيمتهم قد سرقت بفعل فاعل، فر هاربا ليتركهم في حيرة أكبر، وليسجل لنا الكاتب ''نهاية مفتوحة'' مثل ذلك النوع من النهايات التي رأيناها كثيرا في المسرحيات المعاصرة· مشهدية بصرية توظيف المشهدية البصرية بحد ذاته جمالية ميزت المشهد الأخير من الرواية في إطار ملحمي كشف من خلاله الكاتب عن واقع الحياة والتفاصيل الصغيرة التي كان يعيشها الغواصون ومستوى معيشتهم والمكابدة والمعاناة لتحقيق لقمة العيش، في تصوير دقيق للحالة التي أقامها على ''حدث مفجع'' وشخصيات ذات هوية واضحة ووثيقة الصلة بالبيئة البحرية، وبين ''اغترابية'' خارجة على النص ممثلة في ذلك السارق الذي حطم حلم الجميع بعودة سعيدة الى أرض الوطن ''الشاطئ''· وقد بدا لنا كاتب القصة متمكنا من أدواته وهو يدير هذا العدد الكبير من الشخصيات الثانوية ''المجاميع'' على ظهر السفينة وبخاصة استخدامه لعنصر المفارقة، وكيف صنع مصائرها من واقع الصورة الفنية وبواسطة الحوار الذي تميز بشاعرية فائقة نجح في أن ينقل إلينا صورة كاملة عن بيئة الصيد والغوص البحري في الإمارات، كما استطاع أن يقيم لنا مشهديات متتابعة وتناميا منطقيا للأحداث، ومن الشخصيات التي اشتغل عليها بدقة شخصية بطل الرواية أبو أحمد الذي جسد لنا بعمق كل مفردات وثقافة البحر في ذلك الوقت، وهو ما أعطى قيمة إضافية للعناصر الفنية الأخرى في الرواية· هذا التصوير الدقيق للشخصيات وربطها بواقعها في إطار فني محكم خلق في ذهنية الملتقي نوعا من التشويق للمتابعة· إن أغلب شخصيات الروائي علي محمد راشد مرسومة بعناية بالغة وهي غير ذلك على تماس شديد مع الواقع والبيئة المحلية، ولعل اختيار المكان ''البحر'' المستخدم في رواية رجال في محنة من أهم مقومات نجاحها، فهو على الدوام يشع بالحيوية والثراء خاصة إذا كان مرتبطا بشخصيات تمارس مهنا بحرية مثل النوخذة أبو أحمد وبحارته وعمق علاقتهم بالموروث البحري المحلي، فقد لمسنا ذلك البعد النفسي للشخصيات من خوف وقلق وجرأة وحماسة، ومفاهيم وطقوس عديدة متصلة بالمكان مثل الأهازيج والنهمات البحرية التي يستخدمها البحارة أثناء رحلة الغوص للتخفيف من قلقهم الوجداني، وكان كل ذلك إطلالة واعية من الكاتب على زمن البحر بما فيه من صور فنية وجمالية بديعة وتقنية سردية وثقافة إنسانية لمجتمع ممتد في ذاكرتنا الجمعية· لقد أطل الكتاب الإماراتيون وبخاصة الرواة على مجتمعهم بمجموعة مهمة من المضامين والأفكار أسهمت في تحديد هوية الرواية المحلية من خلال أجيال متعاقبة، وقد لمسنا ذلك العمق الإنساني في أعمال علي راشد محمد ونجاحه في استخدام تقنية تيار الوعي في التعامل مع الأشكال الفنية وعناصر بناء القصة بجرأة شديدة دون أن يبتعد عن التيار الاجتماعي والمفهوم الابتكاري في طرح المضمون· لقد نجح بالفعل في التقاط ظاهرة البحر وشخصياته، مستفيدا من محيطها الثقافي والاجتماعي والإنساني لخلق عالم يرتبط بالوضع البيئي للحالة، والمحافظة على كينونتها ومفرداتها من خلال لغة الشخصيات والمصطلحات المستخدمة وكأنه يواجه بذلك ثقافة العولمة من خلال القص والسرد الحكائي والأمثال والمعرفة الشفاهية ووصف الحياة اليومية للبحارة وعاداتهم وتقاليدهم بصورة جديدة لافتة للانتباه لا سيما في تصويره للشخصية النسائية ''زوجة أبو أحمد'' الشخصية القدرية، وكيف أنه لم يحاول تحميلها أكثر من مخزونها وارتباطها مع واقعها والشخصيات الأخرى، وبدت لنا في إطار إنساني ظل واردا في ذهن القارئ حتى بعد موت الزوج في تركيب تخيلي لشأنها وهي قابعة في بيتها بانتظار زوجها وولدها الصغير وهي تلوك قلقها عليهما ويعتصرها الخوف على الغائبين·· دون أن يفقدنا الكاتب ذلك الضوء في نهاية النفق من تواصل مهنة الغوص وتوارثها عبر الأجيال من خلال شخصية الابن الطفل أحمد ذات الأحد عشر ربيعا الذي سيواصل رحلة العودة بلا شك نحو ميلاد جديد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©