الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد بوعزة: الإمارات عوّضت التراجع الثقافي

محمد بوعزة: الإمارات عوّضت التراجع الثقافي
12 ابريل 2012
يقول الناقد والأكاديمي المغربي، الدكتور محمد بوعزة إن الرواية الخليجية استطاعت أن تفك عزلتها سواء على صعيد الإبداع والنقد والتتويج، وتنطلق من محليتها لتخترق آفاقا أوسع عربية وإنسانية. والدكتور بوعزة حاصل على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، 2002 ، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، الرباط. وهو عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، وعضو مركز المتخيل المتوسطي. بالإضافة إلى دوره في تأسيس بعض المجلات الثقافية وعضويته في هيئاتها الإستشارية. في هذا الحوار الذي أجريناه مع الباحث والناقد المغربي الدكتور محمد بوعزة، بعد عودته من دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث استضافه برنامج “في حضرة الكتاب” بتلفزيون الشارقة، يتحدث الدكتور محمد بوعزة عن مشروعه النقدي، وإستفادة النقد العربي من النقد الغربي، وما تعرفه الرواية العربية والخليجية من تحول وتطور ملحوظ ، كما يتحدث عن النهضة الثقافية التي تعرفها دولة الإمارات العربية المتحدة. ? كيف تقدم مشروعك النقدي؟ ? ما حاولت اقتراحه في تجربتي النقدية هو صياغة مقترح معرفي موسع للخروج بالسرديات من مأزقها البنيوي. وهو الاقتراح الذي انبنت عليه أطروحة كتابي “هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في الرواية العربية” بتقديم تصور معرفي يدرج السرد ضمن أنساق الثقافة والمتخيل والتاريخ. السرد في هذا السياق المعرفي تشكيل عالم متخيل، تحاك ضمنه استراتجيات التمثيل، وصور الذات عن ماضيها وكينونتها وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه.. كما يصوغها بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وأنهاج تأويله له. يفيد هذا التصور أن السرد له جانب استطيقي دينامي وجانب ثقافي دنيوي مشبع بالترسبات الرمزية، حيث تستحضر سياقات الهوية والمتخيل وسياسات التمثيل وتجاذبات المعرفة والقوة. وبقدر ما تحفظ القراءة للسرد منجزه الاستطيقي، فإنها تقوم بتفكيك هندسة سياساته في إنتاج المعنى ونصيات الكتابة، واستكشاف القوة الانتهاكية الرمزية لفعل السرد في انتهاك النسق والانزياح عن مراكز القوة النصية. هذا العمق الرمزي الضارب في جنيالوجيا المتخيل، هو ما يجعل السرد أكثر من مجرد حكي حكاية للتسلية. إنه تمثيل تجربة وبناء استراتيجيات بتوسل وساطات استطيقية. وإن القوة على ممارسة السرد كما تؤكد استراتيجية شهرزاد في ألف ليلة وليلة، حيث يستحضر الحكي كاستراتيجية لمواجهة القتل، ذات أهمية قصوى في بناء الاستراتيجيات وتشييد الهوية وسياسات تأويلها لتاريخها الخاص. هذا البعد الخطابي للحكي هو ما أسميه ما وراء الحكاية، أي الشفرة التأويلية التي تفكك البنى المضمرة لأي استراتيجية نصية. إن اعتبار السردية نسقا تشييديا يتضمن مهمة معرفية، هي حاجة النقد كخطاب فكري إلى إنتاج المعرفة وتشييد الوعي والمتخيل الاجتماعي ونقده عبر الاشتغال على النصيات والخطابات، وهو ما يفرض توسيع مفهوم السردية لإنجاز دراسات مقارنة بين أنساق الفهم والتأويل في السرد العربي، وبين ما يناظرها في الخطاب الفكري والفلسفي والإيديولوجي. لكل ذلك توخى المشروع توسيع البحث السردي بالبحث في الأبنية المعرفية والتأويلية للسرد، باقتراح مفاهيم الاستراتيجية السردية والتأويل السردي، بما يخدم النقد ويجعله نسقا تشييديا مشاركا بفعالية نقدية في الدينامية المعرفية والثقافية. ? أصدرت مؤخرا كتاب “استراتيجية التأويل: من النصية إلى التفكيكية” حول إشكالية التأويل. هل لك أن تحدثنا عن الكتاب؟ وما الذي يمثله التأويل في مشروعك النقدي؟ ? هذا الكتاب النقدي، كما وصفه الباحث محمد شوقي الزين هو “مغامرة تأويلية في قراءة التأويل”، يطرح الأسئلة الفلسفية والنقدية الكبرى حول تعددية المعنى بتعددية القراءات وسياقات القراءة ذاتها، وإشكالية التأويل كقراءة تواجه مشكل حدود التأويل. هل ترسم لممارستها حدودا يقف عندها الـتأويل، أم تتلبس هوية الرحل ولا تعترف بالحدود، بحيث يغدو التأويل صيرورة انتقال من قراءة إلى أخرى، ومن علامة إلى أخرى، في مغامرة تفكيكية لا تعترف بالحدود. يقارب الكتاب هذه الإشكالية من خلال قراءة طباقية تقدم مشروعين مختلفين/ متعارضين للمغامرة التأويلية: مشروع يسلم بالحدود هو برنامج التأويل السيميائي عند إمبرتو إيكو، ومشروع التأويل التفكيكي عند دريدا، الذي لا يعترف بالحدود. ومن خلال هذه القراءة الطباقية يورط المشروعين في مواجهة صدامية، تكشف استراتيجية كل مشروع واحتمالاته وحدوده. ومشروعية التأويل في خطابي لا تنبع فقط من الضرورة النصية التي بموجبها يتحدد التأويل كإستراتجية ضرورية للوصول إلى ما لا يصرح به النص، أي المستوى العميق لماوراء الحكاية، بل من الضرورة الأنطلوجية الفلسفية التي تجعل من التأويل مسألة علاقة الكائن بكينونته. المناهج النقدية ? كيف تقيم استفادة النقد العربي من المناهج النقدية الحديثة، رغم الاختلاف الثقافي الذي نمت في سياقه هذه المناهج والنظريات؟ ? الأثر العابر للحدود هو ما يؤسس صيرورة الهوية وليس الجوهر المتعالي. وكما هو الشأن في مختلف التواريخ والثقافات فإن التعرف على تجارب الآخر والتفاعل معها بروح الاختلاف الخلاق، شكل فضاء فترة زمنية فاصلة في الإبداع والفكر. وعلى الرغم مما يفرضه سياق المثاقفة من إكراهات ابستيمولوجية، فإن النقد العربي استطاع أن يستفيد من تجارب النقد الأدبي الحديث وأن يستثمره في تجديد أسئلة ورهانات الخطاب النقدي بالمقارنة مع النقد التقليدي، خاصة منذ بداية الثمانينات، حيث سيدشن النقد العربي منعطفا منهجيا جديدا بالمقارنة مع المرحلة السابقة التي استمرت إلى حدود هزيمة 67، تمثل في نزوعه المنهجي إلى بناء النسق. سيساهم هذا الانفتاح في ضخ دينامية جديدة في حركة الخطاب النقدي، تمثلت في الاهتمام بالمقتضيات النظرية والمنهجية والابستيمولوجية التي كانت تطرحها المناهج الحديثة مثل البنيوية والألسنية والسيميائيات، حيث سيأخذ الخطاب النقدي في التحرر من رواسب مرحلة الانطباعية والمنهج التاريخي والإيديولوجي، في سياق معرفي وضعي يراهن على دينامية المعرفة، بفعل تأثير نزعة علمية وضعية ورغبة في الخلاص من الضغوطات الإيديولوجية. هذه الدينامية الجديدة عبرت عن نفسها بالانتقال إلى مقاربات وقراءات تهتم بتحليل النصوص بحد ذاتها، وتعنى ببنياتها الأدبية وتقنياتها الشكلية. لكن هذه المرحلة ستقع في استلاب ما أسميه إغراء النسق، حيث الإيمان بالمنهج على حساب النص، وبالنظرية على حساب التطبيق. بينما المطلوب هو استحضار الوعي النقدي الذي يوظف المنهج بوصفه وسيلة، وليس غاية في ذاته. فالمنهج كأي وسيلة مرتهنة بنسبية كفايتها وفاعليتها، وهو ما يفسر تعدد المناهج وتنوعها. هذا التعدد يؤكد نسبيتها، وأن لا أحد منها استطاع أن يفرض نفسه كمنهج أوحد شمولي لمجمل منجزات تاريخ النقد. عبر تاريخ المعرفة لم يوجد نسق كامل يدعي المعرفة الشاملة بالنص، فذلك من قبيل ما يسميه كارل بوبر بأسطورة الإطار. إن ما هو أساسي في مسألة “النظرية” و”المنهج”، هو طبيعة الوعي الذي يتحكم في تدبير النظريات والمناهج. هذا الوعي الذي يتحدد بمجمل العلائق التي تكون تجربة الناقد، بحيث لا تمثل المثاقفة سوى جزء من تجربته يعيد إنتاجها وفق ما تتطلبه إشكالات سياقه الثقافي لتكتسب سمات التجربة الجديدة، بحيث نصبح بصدد ما أسميه النظرية الهجينة بالمعنى الثقافي الإيجابي، التي تتشكل في “الفترة الزمنية الفاصلة” للاختلاف الثقافي، وتنفي وجود نسق مغلق يتمتع بجوهر متعال على أشباح الآثار والتأثيرات. محدودية المثاقفة ? في هذا السياق ما هو دور المثاقفة في تجديد مفاهيم النقد العربي وطرقه المنهجية والمعرفية؟ ? أشرت في جوابي السابق إلى دور المثاقفة في إعادة طرح أسئلة المنهج والنظرية في النقد العربي من منظور نموذج المعرفة الوضعية. غير أني أعيد هنا لأؤكد مرة أخرى أطروحتي، وهي أن المثاقفة لا تمثل سوى مسار واحد في تجربة النقد العربي الحديث، إلى جانب مسارات أخرى أكثر أهمية وتعقيدا، أقصد المسارات الاجتماعية والإيديولوجية والتاريخية. للأسف الكثير من الأطروحات التي تتناول ظاهرة المثاقفة في الفكر العربي الحديث، تسقط في القراءة الخطية التي تفصل بين هذه المسارات المتداخلة، بينما هي كما تؤكد التجربة التاريخية من منظور التحليل السوسيو ثقافي متداخلة ومشتبكة. أحيانا كثيرة يأخذ هذا الاشتباك صورة عنف ابستيمولوجي من الداخل في اتجاه الآخر، أو من الآخر في اتجاه الداخل، غير أن هذا التقاطب لا ينفي وجود أصوات على الهامش متحررة من عقدة سياسات الهوية، تبني استراتجياتها وفق سياسات الاختلاف. لذلك كانت دائما قواعد الاشتباك تتغير بتحول السياقات، وبالتالي تتعدد استراتيجيات التلقي وتتطور في اتجاه أفضل للفهم والتأويل. وما هو مهم في سياق المثاقفة هو تبني إستراتيجية نقدية في التلقي تتأسس على بلورة موقع آخر للخطاب، يسمح بإعادة صياغة الأسئلة والرهانات من موقع خطاب ثقافي بديل. موقع مختلف لخطاب هجين ومزدوج، هو موقع الاختلاف الثقافي الذي يقطع مع أسطورة المحاكاة، بحيث يكون تلقي النظريات مختلفا، وخاصا بشروط الخطاب الثقافية والتاريخية. بدون هذه الإستراتيجية النقدية التي تغير موقع الخطاب وبؤرة إشكالاته، يكون ثمة خطر أن تظل المثاقفة آلية وفي اتجاه واحد. ? الرواية العربية اليوم في أوج مراحلها، بما تعرفه من تطور جمالي وثقافي، وهو ما جعلها تحتل الصدارة وسط الأجناس الأدبية الأخرى، كيف تقيم واقعها وآفاقها؟ ? استطاعت الرواية العربية على الرغم من حداثة مسارها بالمقارنة مع مسار الشعر العربي الذي يمتد لقرون سحيقة في الذاكرة واللاوعي والتراث، أن تتحول إلى “ديوان العرب” في الزمن الحديث بتعبير حنا مينة، حيث انتزعت لنفسها موقع الصدارة بين الأجناس الأدبية. وهناك ظاهرة آخذة في الانتشار هي تحول بعض الشعراء العرب من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، مما يؤكد هذه المكانة. هذا التحول الثقافي في نسق التلقي يمكن تفسيره في جانب أساسي بطبيعة جنس الرواية. ذلك أن الرواية بصيرورتها المنفتحة والمفتوحة قادرة على تشخيص التحولات التي تعرفها المجتمعات الحديثة، وهذا ما أسعفها على احتلال هذه الصدارة، إلى جانب عوامل أخرى اجتماعية وثقافية. وتاريخ الرواية العربية الحديث يؤكد هذه الصيرورة المنفتحة. فقد استطاعت أن تطور من تقنياتها السردية وأشكالها التعبيرية واستراتيجياتها النصية، وهذا ما جعل الخطاب الروائي يتميز عن الخطابات الأخرى السياسية والإيديولوجية، بقدرته على النفاذ إلى عمق التصدعات التي تختمر في الترسبات العميقة للكينونة العربية، ويلتقط الأسئلة المكبوتة، ويوفر لأصوات وذوات الهامش موقعا لتمثيل هشاشتها ونقش أصواتها. هنا تكمن قيمة الرواية العربية في استعادة الهامش والمنسي، أي في المراهنة على قوى المستقبل وصوت الحرية. المشهد الخليجي ? كيف ترى المشهد الروائي في دول الخليج؟ ? الملاحظ أن تراكما روائيا مهما يتم في الخليج العربي منذ العقدين الأخيرين، حيث استطاعت الرواية الخليجية أن تفك عزلتها سواء على صعيد الإبداع والنقد والتتويج، وتنطلق من محليتها لتخترق آفاقا أوسع عربية وإنسانية. وإذا كانت الرواية العربية تعرف تطورا ديناميا، فإن جانبا أساسيا من هذا التطور النوعي ينجز حاليا في ما كان يعرف بالأطراف، في المغرب العربي ومنطقة االخليج. وهو رأي أتفق فيه مع سعيد يقطين وجابر عصفور. هذه الدينامية الروائية بالخليج العربي تختط منعطفا متميزا في مدونة الرواية العربية، من حيث خصوصية المتخيل الرمزي والحكائي المرتبط بالمخزون الاجتماعي والثقافي والبيئي للمنطقة، أو من حيث تنوع التجارب والأصوات والأشكال. وميزة هذا المنعطف الروائي أنه أضاف أفقا جديدا لخيال الرواية العربية، سواء على مستوى مرجعيات التخييل أو الثيمات وصور التمثيل. أفق مخيلة ترتبط بمكنون ذاكرة الفضاء والميراث الشفوي والثقافي وطبيعة التحولات الحضارية التي عرفتها وتعرفها المجتمعات الخليجية في انفتاحها على ضرورات التحديث، والتي مست الهوية في كيانها الأنطلوجي، وما طرحته من أسئلة مصيرية تتعلق بالهوية والمستقبل. وقد تميزت الرواية الخليجية بجرأتها في تشخيص هذه التحولات المصيرية، لا سيما في مستوى تفكيك سلطة النسق الأبوي، وتجاذبات قوى التقليد وقوى الحداثة، عبر تصوير تحولات نمط العيش، في انتقاله من نمط العيش التقليدي (بيئة الصحراء والبحر) إلى نمط العيش الحديث في إطار ما يعرف بطفرة النفط، وتشخيص صور التجاذبات الاجتماعية والنفسية والثقافية المرتبطة بتكلفة هذه التحولات. لذلك أرى أن الآفاق ما تزال واعدة بالجديد والمختلف في مسيرة الرواية الخليجية للانكباب على فهم هذه التحولات في صور العيش والكينونة والفعل، التي تحتاج إلى مزيد من الاستكشاف والتحليل. ? زرت مؤخرا دولة الإمارات العربية المتحدة ، ما رأيك في هذا البلد وما الذي تقدمه دولة الإمارات للثقافة العربية؟ ? ما أثارني في هذه الزيارة الثقافية هو مظاهر التحديث في البنيات التحتية وجودة بنية الخدمات، ومشاريع الإعمار الضخمة. لكن المهم في مسيرة التحديث هذه، أنها لم تسقط في ما يسميه هيدغر “نسيان الكائن”، لأن الإنسان يمثل محور هذه التنمية وغايتها. في هذا المنظور يأتي الرهان على الثقافة كاستراتيجية أساسية في خوض رهان التنمية، لأنه لا يمكن تحقيق التنمية بدون الاهتمام بالرأسمال البشري والإنسان ثقافة وتعليما وتربية وذوقا وإحساسا. وهذا ما يلاحظ على مشاريع الثقافة في الإمارات، في اهتمامها الشمولي بجميع مستويات وأشكال الثقافة، المكتوبة والسمعية والبصرية والترفيهية، الميراث والحداثة، الثقافة العالمة والثقافة الشعبية (الإبداع، العلوم، الترجمة، السينما، التشكيل، المعمار، الفلكلور، التراث، البيئة، المهرجانات...). وما يهمني كمثقف عربي، أن هذه المشاريع توطد العمق العربي للثقافة الإماراتية بانفتاحها على روافد الثقافة العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه، بما تطلقه من مبادرات الشراكة والدعم والتعاون مع هذه الأقطار. في هذا السياق استطاعت الإمارات بما تملكه من إمكانيات وبنيات أن تعوض إلى حد ما التراجع الذي حل ببعض المراكز الثقافية التقليدية في الوطن العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©