الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيقونات فلسطينية

إيقونات فلسطينية
12 ابريل 2012
من عمق الدّاخل الفلسطيني، الحار المتوثّب، الطافح بالمرارة، والمندلع بالأحلام، تنطلق تجربة الشاعر الفلسطيني (يوسف المحمود) لتعزّز روح الصمود والمقاومة. أمّا القصيدة التي يكتبها فهي قصيدة لا تقوم على التحريض، ولا تستمدّ شعريتها من الشعار السياسي الذي ترفعه، كما تعوّدنا عليه في الكثير من النماذج الشعرية القادمة من فلسطين. إنّها قصيدة تذهب بنا إلى البسيط والعادي في الحكاية الفلسطينية، وتحديداً إلى المحور الذي يدور حوله الصّراع والمتمثّل بالأرض. إنّها تحفر عميقاً، في طبقات تلك الأرض السحرية المعجّنة بالأحلام. ولعلّ الطبيعة الفلسطينية أن تكون، هي المسرح الأكثر فتنةً الذي تتحرّك في أمدائه تلك القصيدة. وبالتّالي فقصيدة يوسف المحمود قصيدة تحتفل بسحر هذه الطبيعة، في أعراسها الجديدة، وولاداتها المتكرّرة، الأمر الذي يشير إلى طارئيّة الاحتلال من جهة، وإلى جسارة الرّوح الفلسطينية وانتصارها من جهة أخرى. في ديوانه الجديد “أعالي القرنفل” الصّادر هذا العام عن (الدّار الأهليّة للنشر والتّوزيع في عمّان)، و(الاتّحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله)، يطوف بنا الشاعر الفلسطيني يوسف المحمود في أرجاء تلك الطبيعة السّاحرة، ويحتفل على طريقته الخاصّة بها. إنّه يرقص ويغنّي بين الأشجار وفوق التلال، يهيم على وجهه كالمجنون من قسوة الجمال، يشرد ويتقافز من صخرة إلى أخرى كالفهد: “وفي كلّ يوم أعودُ في المساء وأنا أجرّ حبلاً طويلاً من النّجوم خلفي تبرق عيون القطيع وتفوحُ منّي رائحة البراري ومن جديلتيّ يتساقطُ النّوّارُ كالمطر”. هنا تبدو الطبيعة الفلسطينية طبيعةً سيّدة متمردة، إذ لا شيء يعكّر هدوءها، أو يخدش جماليّات تلك المشاهد البريّة الفائرة بالروائح والألوان. حتى جنود الاحتلال الذين هم مجرّد حالة وضيعة طارئة، فإنّهم غالباً ما يختفون عن سدّة المشهد، فلا تظهر هناك حواجزهم ولا دبّاباتهم ولا طائراتهم. وسط هذا الجلال المعرّش الذي نسجته يدا الطبيعة، وحدها تبرز تلك الكائنات البسيطة الآسرة ككائنات جسورة تخطف الأنظار: زهور الخرفيش والقندول والياسمين والأقحوان والرّمّان والقرنفل، أشتال النّعناع والشّومر والزّعتر، أشجار اللوز والتّفّاح والتين والمشمش، الظباء والخيول، الفهود والذّئاب، الوعر والجبال العالية ذات السّنام الحجري، الليل، القمر، وهدير البحر. هذه المفردات التي يستخدمها يوسف في قصائده، هي معجم الطبيعة الفلسطينية بامتياز. فجأةً، وسط هذا الجمال الكاسح، تتقدّم الفاجعة، لتحصد كلّ شيء: “كانت خطانا ترنُّ على حافة النّار حين سمعنا نواح البساتين خلف خطوط الظّلام البعيد وحين سمعنا صراخ الهواء الذي يتقصّف بين الغصون وصوتَ ارتطام الجماجم بالطّلقات الكثيفةِ كنّا نجرُّ الخطى مثل أسرى نساقُ إلى الذّبح”. تلك هي الحرب الضارية المفتوحة التي يشنّها الأوغاد الصهاينة، على الإنسان الفلسطيني وعلى الطبيعة الفلسطينية معاً، إنّهم يؤمنون في أعماق أنفسهم أنّ تلك الأشجار التي زرعها الفلسطيني على سبيل المثال، هي أشجار عدوّة أيضاً ينبغي إبادتها. ثمة يد يرفعها الصهاينة للقتل وبناء السجون، وثمة يد أخرى تتحرك لهدم البيوت وتجريف البساتين. في مشهد ساحر ومؤلم في الوقت نفسه، مشهد محتدم ومجنون، يُعَدُّ سابقة في الكتابة الشعرية، ينتقل الشاعر يوسف المحمود ليرسم الأرض في لحظة اغتصابها، التي هي لحظة ألم قصوى: “فجأةً الجبال السّبيّةُ صاحت بنا وكانت تعضُّ السّماء بأسنانها الحجريّةِ ثمّ تشيرُ لنا بيدٍ من غبارٍ وقشٍّ ورمّان كالتّماثيل صرنا نحدّقُ”. لقد وقفت الجبال تولول وتعض السماء، وكانت في ذروة ألمها وهياجها، ثمّ مدّت يدها باتجاه أصحابها، وفي هذه الحركة ثمة معنى متخفّ: يمكن أن يشير إلى طلب النجدة، أو التعبير عن حالة الذهول الكاسحة، والسؤال الجارح: ما العمل؟ ووسط حالة القنوط تلك، يقول الشاعر: كالتماثيل صرنا نحدّق. مقابل هذا المشهد المأساوي، يحتشد الديوان بعدد كبير من مشاهد الحبّ، وكأنّ الشاعر يتصدّى من خلال تلك المشاهد لكل عوامل القتل. بالحب يقاوم الشاعر الموت وينتصر عليه، ولذلك فحين يحضر الحب، يغيب المحتلّ، وتغيب معه آلته الدّمويّة. في مشهد من مشاهد الحبّ الساحرة، يأخذنا الشاعر يوسف المحمود إلى الماضي السّحيق، ليطل بنا على عاشقين يلتقيان في إيلياء الكنعانية التي هي (مدينة القدس): “قبل سبعة آلاف عام التقينا في حقول السّوسن قرب حدائق القرنفل يومها كانت الأشجار تمشي وكانت الريح تتكلّم أنا وأنتِ وقفنا صامتين لم يكن في البراري غيرنا”. هكذا يؤسطر الشاعر يوسف المحمود الحبّ، ويسيّج العاشقين بتلك الغلالة الشفيفة من بذخ الأسطورة، فلا يطالهما رصاص المحتلّ. لنلاحظ هنا السّطر الأخير الذي يختم به الشاعر المقطع (لم يكن في البراري غيرنا)، لقد حضر الحب إذن وغاب المحتلّ، وكأنّ علاقة الحب بالمحتلّ علاقة ضدّية باستمرار. المحتلّ يمثّل كل معاني القتل والفتك والدمار، إنّه مناقض لطبيعة الحبّ، حيث فعل الحب فعل نشوة واغتباط وحياة. أيضاً المحتل لديه قوّة الغطرسة، التي هي قوّة غير إنسانية، ليس لها مقوّمات البقاء، وذلك بعكس العشّاق الذين يمتلكون قوّة الحب العظيمة الخالدة. قصيدة أعالي القرنفل: بين القصائد ثمّة قصيدة تحمل عنوان المجموعة، وهي هنا (أعالي القرنفل)، ومن خلال قراءتها ربّما نستطيع سبر أعماق هذه المجموعة. تأمّل الاسم هنا (أعالي القرنفل) يمكن أن يشكّل لنا المفتاح الأوّل الذي يمكننا من الولوج إلى القصيدة. كلمة أعالي تشير عادةً إلى موقع مرتفع، قد يكون قمّة جبل مثلاً. القرنفل هو نوع من الورد المعروف. أمّا أعالي القرنفل فيشير لنا بحديقة قرنفل في مكان مرتفع. العنوان أيضاً قد يكون رمزيَّاً هنا، ونستطيع أن نجد له تأويلاً مناسباً، فنقول عنه إنّه المكان الباذخ الأثير المحروس بسطوة الورد، أو قوّة الجمال. وبالتالي فهو يحمي من يدخله، أو يلتجئ إليه. ننتقل إلى نص القصيدة، في القصيدة يقول الشاعر: “بيتُها في أعالي القرنفلِ قرب تلال الرّياح في المساء احتمينا بهِ حذَرَ المدفعيّةِ والطّائرات”. في هذه القصيدة ثمّة أجواء معركة، قصف تشنّه المدفعية والطائرات المعادية، وثمّة مجموعة مطارَدَة من المقاتلين أو الأصدقاء، التجأت إلى بيت تلك السّيّدة/ الحبيبة، ذلك البيت المحاط بحديقة القرنفل. لقد تمّ اختيار بيت الحبيبة بالذات دون سائر البيوت والأمكنة، للاعتقاد بأنّه يمكن أن يمنح الأمان للقادمين إليه، والسبب في ذلك لعلاقة ذلك البيت بالحب. وفي الحب باستمرار نجد تلك الطاقة الجبّارة التي تسند روح الإنسان وتجعلها عصيّة على الكسر. يواصل الشاعر القصيدة فيقول: “كان صوت الرّصاص يلاحقُ قهوتنا ويهشّمُ بعضَ الكلام كان صوتُ الرّصاص ونبحُ المدافعِ يدنو من الوردِ خلفَ النّوافذِ يدنو من الدّفء والماءِ وبعضُ الشّظايا ترنُّ على الدَّرج الخارجيِّ وتسقطُ قرب الرُّخام”. عندما التجأت زمرة الأصدقاء إلى البيت، واصل الأعداء قصفهم المحموم، فكان الرصاص يتساقط هنا وهناك، وكانت شظايا القنابل تتناثر في المكان، ولكن ما الذي حدث؟ يقول الشاعر: “بيتُها في أعالي القرنفلِ ها نحنُ فيهِ احتمينا بهِ وابتعدنا إذا عن عيون الجنود”. لقد نجت تلك الثلّة من الرفاق من موت مؤكّد. وقد تحققت تلك النجاة بفعل وجود عنصرين حاسمين: الحب والجمال. لقد انتصر الحبّ والجمال في نهاية الأمر. يعتبر هذا الديوان الجديد ليوسف المحمود إضافةً نوعيّة ليس إلى الكتابة الشعرية الفلسطينية فقط، ولكن إلى الكتابة الشعرية العربية أيضاً، وذلك لما فيه من مشهدية عالية تستفيد من جماليات السينما، والذي تمكّن المحمود فيه من بعث تلك الإيقونات الباذخة للمكان الفلسطيني، في بعده الريفي، بعدما مرّت عليها يد المحتلّ وعاثت بها تخريباً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©