السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هندي في البلاد العتيقة

هندي في البلاد العتيقة
12 ابريل 2012
رغم اختصار المسافات بين البلدان وانتشار المعلومات حول كل بلد على مواقع الشبكة العنكبوتية، ما زال أدب الرحلات قائما ومازلنا نحتاج إلى هذا الأدب، لأنه يطلعنا على رؤى جديدة للمجتمع وللأفراد، وهذا ما نلمسه في كتاب آميتاف جوف “في البلاد العتيقة”. البلاد العتيقة التي يقصدها آميتاف هي مصر.. التي جاءها المؤلف وأقام فيها خلال الفترة بين عامي 1980 ـ 1990 للدراسة وللبحث وهو شاب هندي سافر الى لندن للدراسة وتخصص في الانثربولوجيا وكان عليه ان يتعلم العربية كما ينطق بها أهلها وليس العربية الفصحى، فسافر الى تونس ومنها الى مصر، وتابعه أستاذه في جامعة الإسكندرية الذي أرسله الى إحدى قرى محافظة البحيرة يقيم ويعيش فيها فترة، القرية اسمها “لطيفة” ثم انتقل منها الى قرية أخرى هي “نشاوس”. يلاحظ القارئ ان الرحالة هنا يختلف عن الرحالة الأوروبيين والغربيين عموما الذين زاروا مصر وكتبوا عنها، الرحالة الأوروبي وهو يتابع الأهالي ويكتب عنهم، ينطلق من انه الأكثر تحضرا والأكثر ثقافة، بينما آيتاف لديه روح أخرى، هو يشعر أنه واحد من الناس هنا، لا يفضلهم في شيء، وأنهم مثل أهله، حتى الخلافات لديه استعداد لتفهمها، والتعاطف مع أسبابها. يلاحظ آيتاف ان الموظفين والمتعلمين في القرية هم الذين يتحدثون ويهتمون بالسياسة وبالدين، كان هؤلاء مشغولين بمعرفة دينه وحثه على التدين واعتناقه الإسلام وكانوا يحدثونه في الأمور السياسية وانتقاد الأوضاع، بينما بقية الأهالي مشغولون بزراعاتهم ومحاصيلهم وأعمالهم، لا يلقون بالا إلى الأمور الدينية، هم متدينون ويؤدون الصلوات في مواعيدها، لكن احدا منهم لم يسأله عن دينه وتفهموا تلقائيا انه ليس مسلما ولا مسيحيا ولا يهوديا. بينما ضابط الشرطة الذي التقى به في إحدى جولاته لم يتمكن من أن يستوعب فكرة ان يكون هناك إنسان ليس مسلما ولا مسيحيا ولا يهوديا. بينما استوعب ذلك القرويون البسطاء الذين يبدون أكثر تفهما وتحضرا من أهل المدن. وفي فترة وجوده بالقرية، كان عدد من شبابها قد سافروا الى العراق للعمل وتركوا أسرهم هنا، ثم وقع الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 وكان هو في القرية وتابع مشهد عودة هؤلاء العمالة عبر الصحراء وانعكاس ذلك على الأهالي، اقتصاديا واجتماعيا وتستحق ملاحظاته التي رصدها في القريتين ان يتوقف عندها الباحثون والدارسون لمحاولة فهم أثر هجرة العمالة من مصر على المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. يهتم الباحث بظاهرة الموالد في القرية المصرية، نفس الظاهرة موجودة لديهم في الهند، رآها وعاشها هناك، ويرى ان مصر والهند بلدان عتيقان تاريخيا وأن أوجه الشبه بينهما ليست قليلة، وبين الموالد المصرية التي زارها مولد “سيدي ابوحصيرة”، هو في قرية مجاورة، وقد جاء إلى مصر بعد انتهاء هذا المولد بأيام، فقرر زيارة أبوحصيرة للتعرف على سر الاهتمام به وهذا ما يوقعه في يد رجال الأمن المحيطين بالمقام، الذين لم يستوعبوا انه جاء فقط للاكتشاف وللمعرفة البريئة. في الريف المصري يعرف انهم يقولون كلمة “أنت هندي” للشخص للدلالة على أنه لا يفهم شيئا ولا يعرف الكثير، ويتقبلها هو ويعتبرها فرصة، ومع ذلك فإن هؤلاء الناس اعتبروه خبيرا أجنبيا حين اشترى احدهم ماكينة مياه من الاسكندرية وكانت هندية الصنع، وكان الحاج الذي اشتراها سعيدا بذلك واستدعاه ليلقي نظرة عليها متصورا انه خبير بتشغيلها ويمكن ان يساعد في صيانتها فيما بعد. “آيتاف” لا يهتم بالمدن الكبرى، تحديدا القاهرة والاسكندرية، زارهما وقضى في كل مدينة أياما، ومع ذلك لا يتوقف عند اي من المدينتين، هو يتحدث عن القاهرة، لكن القاهرة في التاريخ وقصة بناء حصن بابليون والفتح العربي لمصر، ومدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص، وسط هذا كله يتوقف عند معبد بن عيزرا وهو معبد يهودي موجود في المسافة بين حصن بابليون وجامع عمرو بن العاص. لا يهتم هو بموقع المعبد ومكانه، يهتم به فقط من حيث انه عثر فيه على أوراق “الجنيزة” وهي وثائق ومخطوطات عبرية ويهودية، بعضها يعود إلى ما قبل الميلاد بحوالي 300 عام، وتحمل الوثائق كذلك مسار وحياة اليهود في مصر. اكتشفت هذه الوثائق في نهاية القرن التاسع عشر وتم تهريبها كلها من مصر عام 1896.. يقدم “آيتاف” قصة هذه الوثائق وقصة تهريبها من مصر، وقد لعب الاحتلال البريطاني دورا كبيرا في ذلك، خاصة لورد كرومر الذي خدم في مصر ومن قبلها في الهند، وكان عنصريا ومتعجرفا في رؤيته للبلدين، ولعب من خلال رجال الطائفة اليهودية وخاصة عائلة قطاوي دورا في ذلك. اما رجال المعبد فقد تمت رشوتهم من قبل الانجليز الذين حملوا الأوراق معهم. هنا لا نكون بإزاء رحالة فقط، بل باحث أيضا، إذ يذهب إلى التاريخ ويتابع أحداثه والوضع الاقتصادي لليهود في العصور الوسطى والعلاقة بين اليهود المصريين وفلسطين ويذهب الى ان اسم فلسطين كان موجودا منذ البداية، قبل الميلاد وكان يسكنها أهلها ومن بينهم اليهود وكانت علاقتهم بمصر طيبة، وتكشف وثائق “الجنيزة” الكثير عن يهود القدس وفلسطين ويتوقف عند التأثير العربي والإسلامي في يهود العصور الوسطى بل في ذلك اللغة العبرية ويتحدث عن التراث العربي اليهودي. وضع “آيتاف جوش” كتابة بأسلوب روائي وصدرت له من قبل ثلاث روايات، لكنه ايضا باحث متعمق، لذا لا يكتفي بتقديم مشاهداته، وملاحظاته حول الناس والحياة اليومية، بل يحاول أن يفتش في جذور الأشياء وأصولها وفي حديثه عن قرى البحيرة، يحاول أن يعود إلى نشأة هذه القرى وتأسيسها، بدءا بحفر ترعة المحمودية في زمن محمد علي، الأمر الذي أدى الى نقل مياه النيل الى هذه المنطقة فنشأت القرى حولها وقريبا منها. ثم يبحث في الأهالي والسكان الذين استوطنوا هذه القرى في البداية ومن أين جاءوا. “في البلاد العتيقة” كتاب ضخم، يمكن ان يقرأ على عدة مستويات، الأول هو أدب الرحلات وأيضا في الرواية الوثائقية أو التسجيلية إن صحت التسمية والثالث مستوى البحث التاريخي والانثربولوجي، وفي كل الأحوال هو كتاب ممتع وشيق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©