الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجمال الرهيب...

الجمال الرهيب...
12 ابريل 2012
ترجمة وإعداد: جهاد هديب لا تنتمي الأعمال النحتية للفنان رون مْيوك (1955 أسترالي المولد وبريطاني الجنسية) إلى الواقعية السحرية أو نوع منها ولا تستمد جمالياتها منها، بل هذا ما تحدثه الصدمة الأولى التي يرى فيها المرء أعمالا لهذا الفنان ذي المخيلة الغريبة وغير المتوقعة والتي تكاد تعزّ على التوصيف، لأن ثمة دائما ما هو “توصيف أول” كلما شاهد أحدٌ عملا له، ولأن هذه الأعمال تتوفر على جاذبيتها الخاصة. إذن، هي جمالية “التوحش” البرّي وليس الفطري أو الغريزي، أي أن الفنان هنا يوظف معارفه وخبراته الفنية والحياتية في النظر إلى العالم، وربما إلى الوجود بأسره، ما يعني أن “التوحش” بوصفه فكرةً وصفةً هو موقف، بل وإدراكا لما يتخيله ثم يقوم بإبداعه أيضاً. ربما، ذلك ما سوف يحدث لدى أي ناظر إلى منحوتات ميوك البشرية ليس بسبب أحجامها غير الاعتيادية، كما هي عليه في النحت الكلاسيكي تماماً وغير الكلاسيكي إلى حدٍ ما، فحسب بل أيضا بسبب ما تحدثه لدى المتلقي من صدمة يحدثها ذلك الألم النازف من أعضاء الجسد وكذلك الدفق التعبيري المصاحب والصاخب من فرط ما أنه صامت بحيث من غير الممكن احتمال صراخه الأخرس. الألم وصراخه الأخرس في منحوتات ميوك يأخذ تعبيره في المنحوتات عبر إحداث الفنان لـ”تشوهات جمالية” من ذلك النوع الذي لا يمنح الناظر إليه على أنه جمال اعتيادي إنما تكرار التجربة عبر تأمل صور تلك المنحوتات المُلتقَطة كي تجسِّد الأبعاد الثلاثة للتمثال تجعله يعتقد كثيرا أن جمالية “التوحش” هذه هي إعادة إنتاج للمعادل الموضوعي لحياة الأفراد في مجتمعات الاغتراب المعاصرة. فأفعال من قبيل الولادة أو مرور الزمن على الجسد في مراحل مختلفة من العمر ليست حالة وجودية مطلقة إلى درجة التجريد لكنها نسبية تماما لبساطتها ولوصف المرء جوّانيا بالمعنى السيكولوجي على حدٍّ سواء، فضلا عن ذلك العُري كله الذي يشعر المرء معه بـ”عُري/ ـه” الآخر فيه. هكذا، فإنه بدءا من ذلك الطفل الوليد متضخِّم الحجم، المعلّق إلى جدار الصَلْب والذي يمارس سلوكا طفل وليد دون أي توتر، إلى المرأة الأقل حجما مما هي عليه في الواقع، التي تبدو عجوزا مريضة وقد التفَّتْ على نفسها كما لو أنها جنين، فإن مجمل أعمال مْيوك تستدعي من الناظر إليها قدرةً غريبةً لتحمُّل الصدمة التي يسببها الذهول من التفاصيل وكذلك من التدفق النفسي العاطفي لهذه المنحوتات، فهي “أعمال فاتنة إلى حدٍّ بعيد، وجرى تبسيطها إلى حدّ أنها تفضح حاجتنا إلى الاعتراف بشرعية إنسانيتنا”، تقول الناقدة سارة تانغي، حتى لو تمّ “إحباط محاولة الصدمة في إحداث أي أثر في داخل الناظر إليها” تضيف في معرض تقديمها حوار صحفي سبق أنْ أجرته مع مْيوك وضمته إلى موقعها الإلكتروني. نشأ الاهتمام بأعمال مْيوك منذ فترة مبكرة من دراسته الجامعية، في حين انتبه إليه النقد والصحافة الثقافية إلى حدّ أنّ صيته قد ذاع عالميا مع تمثاله “رجل ميّت” الذي أنجزه العام 1998 عاريا تماما ومكسوا نصفه الأعلى بحراشف رقيقة أو ما هو أشبه بها، كما أنه يمنح الناظر إليه أنه بمثابة ذكرى غامضة عن والد الفنان، ربما. كان هذا التمثال قد عُرض لأول مرة في معرض: “إحساس ـ فنانون بريطانيون شبّان” الذي اختاره للمعرض وعرضه مع أعمال أخرى لفنانين شبّان آخرين غاليري “ساتشي” عام 1997 وذلك في الأكاديمية البريطانية للفنون بلندن. وعن “رجل ميّت” فقد أنجزه مْيوك بعيدا عن تطبيقات الدرس الأكاديمي للفن وبعدما صقل العديد من مهاراته الخاصة في عالم الإعلان التجاري وفن صناعة نماذج الشخصيات في عالم الرسوم المتحركة، وبالتالي فقد كان هذا التوجّه الفني هو أيضا نتاج تأثيرات خاصة من الفنانة البريطانية باولا ريغو الشهيرة في حقل صناعة نماذج الشخصيات الكرتونية التي هي أمه بالتبني ومبدعة شخصية “بينيشيو” – المعروف عربيا بالفتى ذي الأنف الخشبي – هل أمكن لهذا التأثير في فن مْيوك أن يتمثل في تجسيده الجوهري للحقيقة والخيال معا؟ ربما، لكن ما حدث آنذاك هو أن “ساتشي” قيِّم المعرض ذاك قد أصبح مولعا بأعمال هذا الفنان ما فتح الطريق أمامه واسعا ليتفرغ لمخيلته ونحته. منذ ذلك الحين أنجز مْيوك العديد من التماثيل التي رسخّت من حضوره العالمي كنحّات مختلف وصاحب تجربة غير مسبوقة، كانت تماثيله من السيليكون والفيبرغلاس والإكريللك وقد أفرغها في قوالب من الطين. وقد عرض “رجل ضخم” في معرضه الشخصي في متحف هايشورن وفي حديقة النحت في واشنطن ولاحقا في متحف الفن الحديث بسيدني والمتحف الوطني في لندن حيث ما زال هذا التمثال مملوكا له، وكذلك عرض تمثاله “امرأة حبلى”، بارتفاع ثمانية أقدام وذراعين متصالبين ونظرة تنحدر إلى الأسفل، وقد تمّ شراؤه من قبل المتحف الوطني الأسترالي في مدينة كانبيرا لقاء قرابة الأربعمائة وستين ألف دولار أميركي وهو الثمن الأعلى الذي يُدفع مقابل عمل فني لفنان أسترالي لا يزال على قيد الحياة. يقول مْيوك: “لا أحاول أن أخلق حضورا واقعيا لأعمالي بحيث يصبح من الممكن تصديق واقعيتها أو الثقة بوجود هذه الواقعية (في حين) لا ينبغي عليها أن تكون أكثر من مجرّد أشياء من الممكن إدراكها عبر الحواس والعقل. أيضا هي ليست أشخاصا أحياء لكن من الممتع أن تقف قبالتها وأنت غير أكيد مما إذا كانت كذلك أم لا”. بهذا المعنى، فإن مْيوك يدرك جيدا أثر صنيعه الفني على متلقيه، خاصة عندما ينظر إليه للمرة الأولى، كما أنه يدرك أن الناظر إليه مرة سيعود ثانية ليكرر هذه التجربة الجمالية المتحققة في تماثيل هي واقعية مئة بالمئة مثلما أنها تخييلية مئة بالمئة كذلك. في أي حال، فإنه بعيدا عن كيف أنجز مْيوك منحوتاته ولماذا وماذا يريد منها في سياق رؤية تأويلية ما فإن من الصعب على المرء أن يقوم بتصنيف أعمال مْيوك، وكذلك هي الحال إنْ أراد المرء خوض جدل حولها يتعالى على الواقعية، فنيا وحسيّا، وكذلك على الخداع البصري في الفن. لكن من الممتع بالفعل هو مناقشة منزلة صنيع هذا الفنان في تاريخ التصوير راهنا، تبعا لما تنطوي عليه من تفرّد أكيد وإخلاص في أسلوبية الأداء ميزتا أعماله عن المفارقة الفنية في أعمال أقرانه من الفنانين من معاصريه، هذه المفارقة التي باتت تبعث على الضجر، في حين كان يقوم هو باستكشاف “استراتيجيات الواقعية”، وفوق ذلك كله فهذا الفنان هو أستاذ التوترات الأوركسترالية التي أساسها أمران: الجاذبية والإقصاء. تستدرج تماثيلُهُ إلهامَ التشوهات على سطح الجسد وكذلك الشعر والأوردة ومن ثَمَّ التعبير وتأخذك في رحلة طوبوغرافية عميقة في النفس البشرية. إنْ تحدّق طويلا بما يكفي في أعماله فسوف تختبر الجمال الرهيب. ربما لأن احتمال الصدقية في واقعية هذه الأعمال أمر وارد تماما، وهذا الاحتمال يخلق مسافة فاصلة بينك وبينك ما يعني أنه يمثل اختراقا لحالتنا الوجودية الإنسانية السائدة. هذا باختزال وتكثيف ما تخلص إليه تقريبا سارة تانغي بعد حوارها مع رون مْيوك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©