الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عنف الهوية في العراق

8 نوفمبر 2009 23:43
سربست نبي - باحث في الفلسفة والنقد التاريخي تتكدس في أروقة التاريخ العراقي أفظع صور الاحتراب الداخلي والانقسام الناشئ عن غياب الوعي والرغبة بالانتماء المشترك لدى جميع الأطراف. ولا ريب في أن فرضية التاريخ المشترك والمصير الواحد، تمثّل أكبر إسهام أيديولوجي لتزييف هذا الواقع، وأسوأ استخدام لمطلب التعايش النبيل لأغراض سياسية مُريبة تناقض مستقبل الحياة المشتركة ذاتها، ويُراد به عادة المصادرة على الخيارات الأخرى لتقرير المصير. علاوة على ذلك، فإن هذه الرؤية المسبقة تكرّس أسوأ الأسس لفهم واقع العراقيين ومستقبلهم، وتطيح بكل الطرق المحتملة الأخرى لإدراك الموقف. وبوجه عام، فإن إقحام المجموعات القومية والعرقية، وحتى المذهبية، في هذا الكيان السياسي القائم، أو المجال الجيوسياسي، لم يكن قط خياراً عراقياً في يوم من الأيام، وذلك لسببٍ بديهي جداً، هو غياب الإرادة العراقية المشتركة قبل التأسيس للكيان العراقي، فلا يعقل للإرادة أو الوعي بالاختيار أن يكون سابقاً على الوجود. وهذا يعني، استطراداً، إن إرادة التأسيس كانت إرادة تاريخية متغطرسة واعتباطية إلى حدّ كبير، خارجية ومفارقة للعناصر الجزئية التي ستشكل الواقع العراقي لاحقاً. من هنا فالحديث عن الصراع الأيديولوجي والسياسي بين المكونات المختلفة بوصفه صراعاً عارضاً أو طارئاً على التاريخ المشترك يعدّ فرضاً متخماً بالتفاؤل المضلل، ويتجاهل كلياً الجذور التاريخية والواقعية للانقسام القائم. لا يتأسس الوعي بالهوية المشتركة على الأدعاء الأيديولوجي بوحدة التاريخ والمصير، وإنما يلزم عن اختيار حرّ وعن منفعة مشتركة. لقد فشلت النظم السياسية التي توالت على حكم العراق، في خلق وعي مشترك بالهوية الوطنية، لأنها أصبحت طرفاً رئيساً في إثارة الشقاق والانقسام. وقد تغافلت عن واقع تعدد الانتماءات، لا من خلال حيادية موقفها السياسي بصفتها سلطة حاكمة ممثلة لمصالح العموم، وإنما عبر القمع والقهر السياسيين، ومحاولة فرض نموذج سياسي وأيديولوجي معين. وبإزاء ذلك نجح النظام السياسي الذي اتخذ من أسوأ أشكال الأيديولوجيات العرقية عتبة لصعوده، في ترسيخ ثقافة الكراهية والارتياب بين الجميع، وعمّق لديهم الشعور بالانعزال والحقد المتبادل. وما يبدو جلياً لنا اليوم، أن تصنيف الأفراد في المجتمع على أساس هوياتهم الدينية والمذهبية مازال راسخاً، وبغياب ثقافة المواطنة والمساواة يشكل ذلك قاعدة للصراع المتبادل والاحتراب. وقد صاحب ذلك استحضار القوى الرمزية والأساطير والميراث الطائفي والعرقي، التي شكلت مصدراً ثرّاً للعنف والترويع، من جوف التاريخ لتبرير المواجهات وشرْعنة هذا النزاع. لم يكن ممكناً تكريس هذا التصنيف إلا بوجود سلطة الاستبداد التي اتخذت من نمط أيديولوجي معين، عرقي وديني، واجهة لممارساته السياسية. وبموازاة ذلك لجأت إلى القهر والاستبعاد والإقصاء بحق الانتماءات الأخرى التي عمدت بالمقابل إلى التخندق والانغلاق حول ذاتها، وأصبح الإصرار على هويتها نوعاً من ميكانيزمات الدفاع الذاتي وأسلوباً لإثبات الوجود. لا تزال هذه الممارسات الأيديولوجية تطبع الدولة العراقية بطابعها، إلى حدّ كبير، وتكتنف نظامها الدستوري حتى بعد سقوط نظام الاستبداد. وذلك بقبولها غير المشروط بهويّة دينية ومذهبية وامتياز مكانتها الفريدة، دون غيرها، التي قد تستخدم لتوجيه سلوك الدولة سياسياً نحو الصدام والمواجهة مجدداً مع الانتماءات الأخرى. ولعل محاولة استخدام مصطلحات ومفاهيم سياسية- دينية وعرقية لتعريف هوية الدولة دستوريّاً، ولتحديد مكانة دين أو مذهب أو عرق على حساب الهويات الأخرى، تشكل أكبر مأزق سياسي وأيديولوجي أمام تحديث الدولة ودمقرطتها. عندما يكون هناك فشل عام في القبول بهوية شاملة للدولة، إنما يعكس ذلك درجة التنازع والاختلاف في الوعي بالانتماء لدى جميع الأطراف. وفي هذه الحال يبدو من غير الحكمة اللجوء إلى الدين أو المذهب أو العرق لتحديد هويّة الدولة. إن ما يجب أن تكون عليه هويّة الدولة حينئذ، هو أن تكون دولة المواطنة فحسب. مواطنة مجردة تماماً من أبعادها العرقية، ومن دلالاتها الدينية أو المذهبية، وتكون المساواة قاعدة للعلاقة الناظمة بين الذوات، بدلاً من التصنيف المذهبي أو الديني أو العرقي. وهذه الأولوية هي التي تضمن وعياً متعادلاً لدى الجميع بالانتماء الواحد والمصير المشترك. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «منبر الحرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©