الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزوج الأسير

الزوج الأسير
13 ابريل 2012
(القاهرة) - خرجت إلى العمل وأنا في الثامنة من عمري، لأن أسرتي تعيش فقرا مدقعا، وتعاني من أجل الحصول على لقمة العيش، لم يقصر الأب في واجباته نحو زوجته وأبنائه السبعة الصغار، يكافح من أجل إشباع بطونهم بالخبز الحاف، وأم لا حيلة لها غير محاولات قدر استطاعتها لتدبير الوجبات بمال قليل، ولم يكن خروجي للعمل أمراً خارجاً عن المألوف في المنطقة العشوائية التي نقيم فيها، وإنما آخرون كثيرون مثلي يعملون من أجل مساعدة أسرهم، لذا لم يكن ذلك يمثل لي أي نوع من الحرج أو التفكير فيه على انه نقيصة، فقط كانت نفسي كطفل تتوق أحياناً إلى اللعب أو نوع من الحلوى أو الشيكولاته، لكن سرعان ما أنسى ذلك حتى أذهب إلى أبعد منه بأنه ليس من حقي ولا يجوز التفكير فيه. مع ذلك لم تكن القروش القليلة التي أحصل عليها ذات تأثير كبير في حياة أسرتي إلا أنها مجرد مساندة أملاً في الزيادة فيما بعد، ولم أشعر حينها بأن أصحاب الأعمال التي تنقلت بينها مستغلون، كثير منهم كانوا قساة القلب يعاملونني بلا رحمة، يكلفونني ما لا أطيق وبما لا يتناسب مع سني، يدعون أنني المستفيد لأنهم يدربونني على مواجهة الحياة وإتقان تلك الأعمال، وتوهمت أن ذلك كله صحيح وتحملت ما ألاقيه من إجهاد شديد والعودة كل ليلة في وقت متأخر خائر القوى، أجر قدميّ، بالكاد ألتهم بعض لقيمات لأرتمي فوق فراشي وأغط في نوم عميق حتى الصباح. ورحت أتنقل من عمل إلى آخر، لم أترك أياً منها برغبتي وإنما اضطر إلى ذلك أو أجبر عليه، حتى حصلت وسط هذه الظروف القاسية على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة، وأيضاً بالعمل في شركة تجارية صغيرة يملكها رجل طيب وبما أنني أدرس في كلية التجارة فقد أسند إليَّ صاحبها الحسابات بجانب مهمتي الأساسية كبائع وحمّال للبضائع التي يتم بيعها للزبائن ومعظمهم يمنحني مبلغاً إضافياً خارج الثمن، فتحسنت حياة أسرتي بشكل معقول، لكن لم يخرجها ذلك إلى حال أفضل كثيراً، ولأن الرجل قد وثق بي، فقد كان يترك الشركة معظم الوقت، وفي لحظة ضعف سيطرت على رأسي فكرة أن أقتطع بعض المبالغ لنفسي مما لا يعرفه الرجل، فهو يربح الكثير بلا مجهود، بينما أحصل على القليل مع كل هذا الجهد والتعب، وأقدمت على تلك الفعلة النكراء، لكن ضميري لم يسامحني وفي تلك الليلة لم يغمض لي جفن ولم أذق للنوم طعماً، كان الفراش البسيط مثل الجمر، ولحسن الحظ كان التأنيب للنفس غاية في الشدة، وفي الصباح الباكر استغفرت الله وأعدت المبلغ كله إلى خزينة الشركة وإن لم يكن كبيراً، بعدها شعرت بالراحة وما سمحت لنفسي بالتفكير في مثل هذا الأمر مرة أخرى، ولم يحدث. وعوضني ربي بالحلال الكثير من الرجل الذي كان يثق بيّ إلى أقصى حد وبدأت حياتنا تتحسن، وإخوتي يكبرون ويساهم كل منهم بعمل على قدر ما يستطيع، وما أن انتهيت من دراستي الجامعية حتى تفرغت للعمل كل الوقت في تلك الشركة وتضاعف أجري ولم أفكر في الالتحاق بعمل حكومي أو وظيفة روتينية لأنني أعلم ضعف الرواتب التي لن تحقق لي ما أصبو إليه، فما أحصل عليه كبير مقارنة بها، وعرفت معه المبالغ الكبيرة التي أعطيها كلها لأمي إلا قليلاً، فتشفق عليَّ وتطلب مني أن أدخر بعضها لنفسي لأنني مقبل على الزواج وأحتاج إلى مبالغ طائلة، لكن هذا الأمر ما زال أمامه الكثير من الوقت. مرض صاحب الشركة واضطررت للذهاب إليه في منزله كل يوم لتقديم كشف حساب له وإبلاغه بما حدث في العمل، ويقدم لي الشكر ممتناً لما أقدم له من خدمات وأنا لا أرى أنني أفعل إلا الواجب، أحياناً اصطحبه إلى الطبيب لأن أبناءه ما زالوا صغاراً، وفي تلك الفترة التي امتدت إلى ما يزيد على العام تعرفت عليهم وعلى زوجته التي كانت كريمة معي وتقدر لي هي الأخرى ما أفعله معهم وأقدمه لهم، فتصر هي وزوجها أحياناً على أن أتناول معهم العشاء أو الغداء، كنت أشعر بأنني أؤدي الواجب تجاه الرجل، وأقف بجانبه في ظروفه الصعبة إلى أن توفاه الله. لم أتوقف عن التردد على منزله لنفس الأسباب السابقة لتقديم كشف حساب يومي لأرملته التي منحتني نفس الثقة التي منحني إياها زوجها الراحل، ولأنها تكبرني بأكثر من خمسة عشر عاماً، فإنها تعاملني مثل أخيها الأصغر، ومنذ وفاة الرجل، فإن التعامل معها لا يستمر لأكثر من دقائق معدودة بما يكفي لإطلاعها على تفاصيل العمل، لكن الأطفال الصغار يحاولون أن يمارسوا عليَّ ضغوطاً بريئة للبقاء معهم بعض الوقت وترحب هي من جانبها وتؤيد دعوة أبنائها الثلاثة، ولدان وبنت في عمر الزهور أحببتهم بشدة وأشفقت عليهم من اليتم المبكر، وكانت تأمر خادمتها بإعداد الطعام، كما كانت تفعل أثناء حياة زوجها، وقد كانت الخادمة بمثابة «محرم» يبرر لي هذا البقاء لبعض الوقت معهم. كان من الطبيعي أن تتحوَّل تلك الزيارات وتأخذ منحى جديداً لم يكن في الحسبان يوماً، ولم يرد على تفكيري على الإطلاق، المرأة تشكو محاولات أشقاء زوجها ممارسة ضغوط عليه للاستيلاء على أموال الأيتام وأنها وحيدة وتطلب مني مساندتها والوقوف بجانبها في تلك المحنة، فأبديت استعدادي لذلك وفاءً للرجل الذي أكرمني وعاملني مثل ابنه وإن لم يكن الفارق بيني وبينه في السن يصل إلى هذا الحد، لكن لم يكن الأمر بهذا الشكل، وأن المرأة بدأت تفكر في أمر آخر لم أدركه إلا عندما وجدت الخادمة في إحدى زياراتي تباغتني بسؤال لماذا لم أفكر في الزواج من تلك المرأة، فاندهشت رغم أنني لم يبد مني أي نظرة أو خروج عن حدود الأدب والأخلاق والالتزام، الارتباك جعلني أتعجل المغادرة وأتحجج بأسباب وارتباطات غير صحيحة، مجرد وسيلة للهروب من الموقف والسؤال الذي لم أجد له جواباً، أو منعني الحياء من الرفض المباشر خشية أن يكون جارحاً أو يفهم على أي محمل آخر. شغلني التفكير في السؤال كثيراً وسيطر على كياني، وفكرت فيه من نواح أخرى وإن لم تكن مطروحة من قبل، وسألت نفسي لماذا الرفض والمرأة ما زالت تحتفظ بكثير من الأنوثة وستحقق لي ما لم أستطع تحقيقه في عمري كله فهي تعرف عني أدق التفاصيل ومن المؤكد أنها ستتحمل كل تكاليف الزواج ثم المعيشة من عائد الشركة، حساباتي أكدت أن تلك صفقة رابحة، لكن المشكلة الكبرى أنها ستكون مرفوضة من الجميع من أبي وأمي وأخوتي، ومن أسرة زوجها الراحل، أما إخوتها فقد يرحبون لأن أختهم ستكون في كنف رجل بدلاً من البقاء وحيدة مع صغارها وقد لا تسلم من القيل والقال لمجرد أنها أرملة صغيرة. وأعدت حساباتي عشرات المرات، بيني وبين نفسي، فلم أجرؤ على الجهر بما أفكر فيه، وفي كل مرة أصل إلى نفس النتيجة، وفي الزيارة التالية وجدت منها معاملة مختلفة، فيها إيحاء بالنظرات تكاد تطلب أو تعرف جواباً عن سؤال الخادمة التي كان واضحاً جداً أنها تشاركها في الرأي وتطلب منها المشورة، وأدركت أنها هي التي دفعتها لتلقي على رأسي السؤال الصعب، فما كانت تستطيع أن تفعل ذلك من تلقاء نفسها، حتى أن الخادمة انتحت جانباً بالأطفال لتتيح لنا الفرصة للحديث في الموضوع، وناقشنا الأمر، ولم أظهر موافقتي بشكل مباشر، وإنما وضعت أمامها الصورة الصحيحة للواقع بأن زواجنا، وإن لم يكن حراماً ولا عيباً إلا أنه مرفوض اجتماعياً، خاصة من أسرتينا، وتساءلت متوجهاً نحوها إن كانت تقبل الزواج بشكل سري، أي أن نتكتّم الأمر حتى حين، فوجدت أن ذلك مطلبها أيضاً لأنها تتفهم رفض الناس لهذه الزيجة وأنهم سيعتبرونني انتهازياً وسيعتبرونها متصابية وقد يتهمونها بعدم الوفاء وربما بالخيانة. وتم الزواج بلا أي شكل من أشكال الاحتفال، إلا العقد الرسمي الذي دونت فيه زوجتي مبلغاً ضخماً كمؤخر صداق لضمان جديتي في الأمر وحتى تتأكد أنني لن ألقي بها بعد ذلك، ولم أناقشها، فلا نية عندي إلا الاستقرار، كنت أقضي معها في شقتها الفسيحة معظم الوقت بعد العمل، وان كنت أتأخر إلى ما بعد منتصف الليل وأحياناً اضطر للمبيت وأتحجج لأسرتي بالانشغال في العمل، ولم يصل الشك إلى نفوسهم لأن ما كانوا يحصلون عليه من أموال كان كافياً للتغطية على فعلتي الخفية. شعر كلانا أنا وزوجتي بالسعادة الغامرة نعيش في أحلام وردية لا نود أن نستيقظ منها، وإن كان شهر العسل بيننا قد استمر لأكثر من عام ونحن على تلك الشاكلة، إلا أننا وقفنا أمام قضية مهمة وهي الإنجاب، فكلانا لا يريده، هي مستغنية بأطفالها، وأنا لا أرغب في طفل بهذه الطريقة الخفية، لأن الناس سيتعاملون معه على أنه ابن غير شرعي، فأدركت أن هناك خطأ ما، لا بد من وضع يدي عليه، الحقيقة المرة التي لم تظهر في حساباتي السابقة أنني بعت نفسي، ولكن لفترة من الوقت، فهي ما كانت تريد إلا رجلاً يهتم بأبنائها الصغار، ولا حق له في أكثر من ذلك، قيدتني بالمبلغ الكبير مؤخر الصداق حتى لا أفلت من يدها، في نفس الوقت لا تريد أن تفرط فيَّ بسهولة، أما أنا فقد هرولت وراء المسكن الفسيح والوجه المليح والطعام اللذيذ، لم أنظر إلى ما وراء ذلك. لم يظهر هذا كله واضحاً إلا بعدما دب الخلاف بيننا بسبب الصغار الذين ضقت بتصرفاتهم ولم أعد أتحملها مثل ذي قبل، فأريد أن أستريح من عناء العمل، ولم أستطع مجاملتهم أو مجاملتها على حساب نفسي، تتهمني بأنني تغيرت ولم أعد الرجل الحنون الذي عرفته، وأتهمها بالخداع، أتغيب لأيام فتطاردني وأعود. أجدني مكبلاً بالقيود، أعيش في الظلام، بلا ماضٍ ولا مستقبل في ظل هذه الظروف، لست قادراً على التخلص من هذا الوضع، ولا أجد أمامي بديلاً عنه، المؤكد أنني أخطأت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©