الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معركة بين مؤلفين حول كتاب واحد

معركة بين مؤلفين حول كتاب واحد
11 نوفمبر 2009 22:54
في مكتبة دير الاسكوريال قرب مدريد في إسبانيا توجد مخطوطة عربية تضم بين دفتيها كتابين في البلاغة، تشير حسب ما جاء في مقدمتها إلى أن مؤلفها اسمه أبو الحسن نصر بن الحسن المرغيناني من علماء بلاد ما وراء النهر والمتوفى في منتصف القرن الخامس الهجري. الكتابان هما أولاً “المحاسن في النظم والشعر” والثاني يحمل عنوان “البديع”. ولكي نكمل قصة هذه المخطوطة لابد أن نشير إلى أن هذه القصة جاءت في مقدمة كتاب صدر حديثاً عن دار الكتب الوطنية التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان “البديع” لمؤلفه جمال الملك أبي القاسم علي بن أفلح العبسي المتوفي 536هـ وبتحقيق وجمع الباحث السوري إبراهيم صالح. تستكمل القصة سردها بأن الباحث إبراهيم صالح وجد أن كتاب البديع في المخطوطة لا يعود لأبي الحسن المرغيناني بالرغم من وجود اسمه عليه، بل يعود إلى جمال الملك بالرغم من عدم وجود اسمه عليه. أما كتاب “المحاسن في النظم والشعر” فلا خلاف عليه كونه ثابت للمرغيناني بأدلة قطعية لا سبيل إلى دفعها بحال. اشكالية القضية فعلاً هي أن المحقق حتى لو كان في القرن الواحد والعشرين فإنه قادر على تصحيح خطأ وقع فيه نسّاخ في القرن الخامس الهجري وهو قريب من زمن تأليف الكتاب. لنحاول أن نكمل قصة هذا المحقق مع كتاب “البديع” الذي كتب عليه اسم أبو الحسن المرغيناني وهو ليس له وإنما هو من تأليف الشاعر جمال الملك. يبدو أن النسّاخ كتب اسم أبو الحسن المرغيناني على تأليفه كتاب “المحاسن في النظم والشعر”، وبما أنه أراد أن ينسخ كتاب “البديع” فقد ألحقه بالأول اعتباطا فلم يذكر اسم مؤلفه، وبذلك أصبح الكتابان لأبي الحسن حيث لم يضع اسم المؤلف الآخر الشاعر جمال الملك، ولهذا اهتدى الباحث إبراهيم صالح إلى هذه المعلومة من خلال شكوكه ومعرفته بأسلوب وطرائق المرغيناني في التأليف ومنها أولاً أن الكتابين يبحثان في علم البلاغة وهنا تساءل صالح: لماذا يؤلف عالم واحد كتابين في علم واحد؟ وثانيهما أن صالح قد خبر اسلوب المرغيناني في كتابه “المحاسن في النظم والشعر” الذي يبدو فيه شديد الثقة بنفسه حيث تتكرر لديه عبارة “قال نصر” أو “قال نصر بن الحسن” وهذا غير موجود في البديع، وثالثها أن إبراهيم صالح يعرف أن المرغيناني كان يأتي بالشواهد البلاغية من شعره وشعر غيره ومن نثره ونثر غيره وهذا لم يحصل في كتاب البديع وأخيراً وهذا هو المهم الذي يمكن أن يلغي نظرية انتساب “البديع” للمرغيناني أن الشواهد الشعرية في البديع لشعراء توفوا بعد وفاة المرغيناني فكيف يستشهد الأخير بشعراء أتوا بعد وفاته؟ وقف إبراهيم صالح عند ثلاثة أبيات وردت في نهاية كتاب البلاغة يقول فيها المؤلف: استغفر الله من نظم القريض فقد اقلعت عنه، فمالي من أربِ إذ لست انفك في نظميه من فزع أمسى ينغص عندي لذة الأدبِ إذا صدقت بهجري الناس خفتهم وإن مدحت خشيت الله من كذبي مفتاح القضية وهذه الأبيات الثلاثة هي التي قادت إبراهيم صالح لتخطئة نسّاخ القرن الخامس الهجري الذي نسب كتاب البديع للمرغيناني وهو ليس له.. ولكن كيف حصل ذلك؟ تساءل إبراهيم صالح عن قائل هذه الأبيات، بل لنقل: شكك بنسبها إلى المرغيناني وبعد أن رجع إلى أمهات كتب تاريخ بغداد وعيون الأخبار وجد أن قائلها هو “جمال الملك، أبي القاسم علي بن افلح بن محمد العبسي وهو من شعراء مدينة الحلّة التي تقع بين بغداد والكوفة على نهر الفرات في برّ الكوفة والتي اختطها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس توفي سنة 495هـ والتي نسب إليها الشاعر المعروف صفي الدين الحلي”. قارن الباحث المحقق إبراهيم صالح بين هذه الأبيات الثلاثة وأسلوب جمال الملك الذي يميل للبذاءة والسباب والشتم أي “شديد الهجاء، بذيء اللسان”، كما قال العماد الأصفهاني في الخريدة (العراق 52/2). ويعضده في ذلك ابن خلكان وابن شاكر. واستند إبراهيم صالح على نسب هذه الأبيات الثلاثة إلى جمال الملك لأنها وردت منسوبة إليه في “خريدة القصر” للعماد الأصفهاني وفي “عيون التاريخ” لابن شاكر الكتبي وفي “البديع” لابن أفلح وفي “ذيل تاريخ بغداد” لابن النجار، وبذلك توثق من أن الكتاب عائد إلى جمال الملك دون غيره وإنما نسخه النسّاخ الذي لم يعرف اسمه مع كتاب المرغيناني “المحاسن في النظم والنثر” ونسب كليهما إلى الأخير وأهمل اسم جمال الملك الذي أُعيد على يد إبراهيم في هذا الكتاب الجديد الذي تولت دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة طباعته. سيرة الشاهد ولكن من هو أبو القاسم علي بن أفلح بن محمد العبسي الذي أطلق عليه الخليفة العباسي المسترشد بالله لقب “جمال الملك”. العبسي ولد في الحلة في 443هـ وكان قد خدم دبيس بن علي بن مزيد أبو الأعز الأسدي أمير العرب وصاحب المكانة الرفيعة عند الخلفاء والملوك حيث توفي الأخير في 474هـ، وكان العبسي فظيع المنظر حتى قال فيه الشاعر قمر الدولة ابن دباس هذين البيتين الغريبين في التهكم والسخرية: هذا ابن أفلح كاتبٌ متفردٌ بصفاته أقلامه من غيرهِ ودواته من ذاتهِ والعبسي ابن أفلح كان نابغة في الشعر، اتصل بأمير الحلة دبيس بن علي بن مزيد وعمل كاتباً لديه. ثم انتقل إلى بغداد واتصل بالخليفة العباسي المسترشد بالله الذي أجزل له العطايا ورفعه إلى أعلى المراتب فنال جوائز كثيرة إلا أنه ظل على صلة بالحلة وأميرها دبيس، بالرغم من أن المسترشد بالله لقبه بـ”جمال الملك”. الغريب أن إبراهيم صالح لم يقرأ سبب تسميته بـ”جمال الملك” التي يشم منها رائحة التهكم والسخرية من قبح العبسي ابن أفلح، لكن مع هذا فقد بنى العبسي بيتاً في بغداد لا يضاهيه بيت وعندما اكتشف تعاونه مع والي الحلّة الذي كان يكاتبه، هدم المسترشد بالله داره وكان قد بناها بـ20 ألف دينار وكان طولها وعرضها 60 في 40 ذراعاً، والتي أجريت بالذهب وعمل فيها الصور. يتدخل المحقق إبراهيم صالح في التعاطف مع الخليفة المسترشد بالله إزاء قضية تواطؤ العبسي ابن أفلح مع دبيس وبالرغم من عدم أخلاقية هذا التواطؤ في الظاهر إلا أن تدخل المحقق الحيادي العارف بصنعته ومهمته التاريخية، الفاحصة ليس ضرورياً هنا حتى أن إبراهيم صالح يقول في مقدمته لديوان “العبسي ابن أفلح” وكتابه “البديع” اللذين جمعها معاً: “فهذه الواقعة هي التي حركت فيه خبث طويته، وجعلته يكاتب دبيساً ويحن إلى أيام دبيس الجد، ونسي أنه على الباغي تدور الدوائر، ولست مبالغاً إذ قلت: إن ابن أفلح يصدق فيه قول الشاعر: إذ أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا” شاعر مقتدر في ديوان العبسي ابن أفلح نجده شاعراً مقتدراً وصدق ما قاله فيه العلماء ابن النجار وابن الجوزي والعماد والدمياطي وسبط ابن الجوزي وابن شاكر وابن تغري بردي والإمام الذهبي من أنه “كاتب، أديب، فاضل، عالم، كامل، شاعر، مجيد، مسترسل بليغ، له ديوان شعر ورسائل ويكتب خطاً حسناً”. إلا أنه كما جاء عند ابن الجوزي والإمام الذهبي “كثير الهجوِ”. ألف العبسي ابن أفلح كتاب “البديع” وجمع شعره بنفسه ونقحه وأهمل منه الكثير فخرج ديوانه إلى الناس، وله رسالة بعنوان “مقدمه ابن أفلح البغدادي” في أقسام علم الفصاحة والبلاغة ذكرها ابن الأثير في المثل السائر، وله حماسة ابن أفلح، وديوان ترسّل. أما مقدمته النثرية في صدر ديوانه فهي تحفة فنية في النثر البليغ أخذت من الفصل الأخير من كتاب “البديع”. ومن شعره: قالوا: انحنى كبراً، فقلت سفاهة لمقال من لم يتئد في قيلهِ سكن الحبيب شغاف قلبي ثاوياً فحنوت معتكفاً على تقبيلهِ أما كتابه “البديع” فقد قرأ فيه كل وجوه البلاغة البديعية من تشبيه وتضمين ومشاكلة وتخلص واستطراد واستعارة ومبالغة وتسميط، كما قرأ أدوات الشاعر من نحو ولغة العرب وتعريف وعروض وتقطيع وإكثار من الحفظ وإشباع المعنى وأنماط الأغراض والتفريق والإجماع بينها. محمد الشحي: ما يهمنا هو الحقيقة التاريخية والكشف العلمي يقول محمد الشحي مدير إدارة النشر في دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث: إن دار الكتب الوطنية في توجهها للبحث في الأصول من خلال طبع الكتب النادرة والتي تنطوي على إشكاليات معرفية وتحقيقية ما هو إلا توجه صحيح، فهذه مهمة صعبة وفيها من الجهد الشيء الكثير. وأضاف الشحي: إن كتاب “البديع” قد طبع ضمن الاحتفال بمئوية الشيخ زايد الأول “زايد الكبير” 1909 ـ 2009 وإحياء لذكراه أصدرنا سلسلة طويلة من الكتب وسنستمر في إصدار هذه السلسلة التي تتضمن كتباً في التراث العربي واللغة العربية والرحلات الاستشراقية إلى الخليج العربي التي تثير الكثير من المعارف المطموسة حول كيفية فهم الاستشراق والرحالة الغربيين إلى واقعنا في القرون السابقة، وكيف نقلوا هذا الواقع إلى العالم و تصورهم عنه، ووصفهم له، ومعايشتهم لأحداثه. وقال: كتاب “البديع” ينطوي على إشكالية ظلت غائبة لأكثر من 1000 سنة تقريباً وهي ضياع اسم مؤلفه وقد ألحقه النساخون إلى أبي الحسن نصر بن الحسن المرغيناني، وهو من علماء بلاد ما وراء النهر وهو ليس له وإنما هو من تأليف الشاعر البغدادي جمال الملك، أبي القاسم، علي بن أفلح العبيسي المتوفى في سنة 536هـ وهو من شعراء بلاد الرافدين خلال القرن الخامس الهجري. وأضاف: ولهذا فإن فضل التحقيق الذي قام به الباحث إبراهيم صالح بأن أخرج الكتاب من نسب خاطئ إلى نسب صحيح، أي أنه ردّ الكتاب إلى صاحبه الأصلي، وأقول هنا إن لدار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث فضلاً وسبقاً حيث طبعت هذا الكتاب المهم وحلّت بطباعته إشكالية ظلت غامضة لما يقرب من ألف عام. وقال الشحي: نحن في دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث لا ننتصر لهذا المؤلف على ذاك وإنما ما يهمنا هو الحقيقة التاريخية التي يقدمها الباحثون والمحققون في عصرنا الراهن والذين يتوصلون إلى حقائق مهمة تحيل الالتباس والغموض إلى وضوح وبيان، وهذا ما حصل لكتاب البديع الذي نسب خطأ للمرغيناني وظل على هذا الحال 1000 سنة حتى جاء إبراهيم صالح وعدّل النسب إلى ابن أفلح العبسي. وأضاف محمد الشحي: ومن خلال ذلك أقول إننا نرحب بأي منتج أو كشف علمي يتعلق بموروثنا العربي بما يسهم في الكشف عن الغموض وتجلي الحقيقة وسنرحب به ونساهم في إظهاره للناس، ونحن نشعر بعد أن قدم لنا هذا الكتاب الذي صحح غموضاً بأننا أسهمنا بجزء بسيط في حركة الثقافة العربية والتحقيق في أصول الكتب القديمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©