الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روسيا لا تعيش بلا رأس.. ثالث

روسيا لا تعيش بلا رأس.. ثالث
11 نوفمبر 2009 23:05
ربما لم يعرف التاريخ دولة كروسيا فتنت بالتوسع الجغرافي والتمدد الجيوسياسي. فهذه الدولة غيرت ثوبها الجغرافي وبدلت حدودها عدة مرات خلال الألف سنة الماضية. في كل مرة كانت روسيا تتقدم إلى مناطق أكثر عمقاً وتتعايش مع شعوب وحضارات أكثر تنوعاً فتضم داخل أسوارها الحديدية مئات الملل، ومئات أخرى من الألسن واللغات. ولعله لهذا السبب يمكن استحضار روسيا في الخريطة الذهنية كمفهوم “مكاني” لا “قومي”. في هذا الإطار يراجع كتاب صادر حديثاً بعنوان “استعادة روسيا مكانة القطب الدولي”، التنافسات الروسية الحالية مع مراكز القوى العالمية حول البحر الأسود، وبحر قزوين، وبحر البلطيق، والصراع على السيادة في شمال المحيط الهادئ مع اليابان، والتنافس مع الصين للسيطرة على آسيا الوسطى (التركستان سابقاً) فضلاً عن تشابك المصالح في أوروبا الشرقية، فربما تندهش أن كافة هذه المشاهد تستند على ميراث طويل من ممارسات مشابهة جربت قبل ثلاثة قرون على الأقل. بل إن ممارسات الوضع الداخلي في روسيا بين الكرملين والمعارضة، والاستحواذ على السلطة والاستئثار والتباين الطبقي بين المعدمين و المتخمين، وغير ذلك مما يدور في روسيا اليوم وهو بعينه الذي عاشته روسيا قبل عدة قرون، وان اختلفت المسميات وظواهر الأشياء. هل يعني هذا أن التاريخ يكرر نفسه؟ هل يعني هذا أن “الحتم” الجغرافي يسيطر على مستقبل روسيا فلا يعطينا فرصة لاستشراف مستقبلها إلا باستحضار ماضيها؟ أما زالت روسيا تقدم نفسها على الساحة الدولية كدولة “ولدت لتحارب”؟ هل ستبقى هذه الدولة تعشق الصراع، وتتقن المراوغة والمناورة، وتكسب المعارك حتى لو ضحت ببعض الخسائر الآنية؟ وبوسع أي جغرافي سياسي معاصر أن يضع مكان شرق أوروبا أفغانستان أو بحر قزوين أو آسيا الوسطى أو الخليج العربي أو حتى بحر العرب وسواحل القرن الأفريقي. بل بوسع هذا الجغرافي أن يستبدل المواقع الجغرافية بأدوات مناورة حديثة. فمن يتحكم في “أنابيب النفط والغاز” أو “تجارة السلاح” أو “زرع القواعد العسكرية” أو “تنصيب الحكومات الموالية” أو “القوة الناعمة” هو القادر على السيطرة على العالم. كلمة روسيا يعرض هذا الكتاب كيف تكاد لا توجد مشكلة جيوسياسية في العالم إلا ولروسيا كلمة فيها. ورغم النظريات الجيوسياسية المتعددة التي ظهرت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوقعت ظهور عالم متعدد الأقطاب، تتكاتف فيه اليابان وألمانيا والصين والهند وفرنسا أمام الولايات المتحدة، تمضي السنوات ولا نجد أمامنا قوة جديدة تناور على المستوى الجيوسياسي غير روسيا. لكن في أي طريق تناور؟ هل تحضر روسيا نفسها من جديد لإشباع شهوات التوسع القديم؟ أم أنها رضيت بلملمة حبات المسبحة المنفرطة؟ هل ما زالت روسيا تلك الدولة الفتية القادرة على المناورة مع من يحاصرونها اليوم من الجنوب والغرب؟ وما أسلحة روسيا في العصر الحديث؟ هل فرغت روسيا من مرحلة تجميع الحجارة التي تخلفت عن انهيار الاتحاد السوفياتي فأعادت ترصيص بعضها واستخدمت البعض الآخر كمصدات لهجوم الأعداء؟ أم أنهالا تزال توازن بين قوى الطرد وقوى الجذب التي تتنازعها بين الداخل والخارج؟ وأي ملامح لمستقبل روسيا؟ إن الصورة المعرفية، عن تلك الدولة التي ستفرض نفسها على العالم وبشكل بالغ التأثير خلال العقود (بل القرون) الماضية. تتناول ثلاثة فصول، يحمل الأول منها عنوان “زمن تجميع الحجارة” ويعرض للأساس الجغرافي السياسي للدولة الروسية من خلال دراسة المسار التاريخي لصعود روسيا إلى القطبية الدولية، ومقومات هذا القطب من الناحية الديموغرافية، فضلاً عن دراسة “روسيا من الداخل” انطلاقاً من أن هذا الداخل هو أحد المفاتيح الأساسية لفهم سلوكيات روسيا الخارجية. أما الثاني فيحمل عنوان “العودة لساحة المعركة” ويبحث في مكانة الجيش الروسي ومحاولات إصلاحه ومناوراته في اتجاهات مختلفة، فضلاً عن مكانة روسيا في سوق السلاح. واستخدام روسيا لأنابيب الغاز كوسيلة للتحكم في أمن الطاقة في مناطق نفوذها السابقة. ويأتي المحور الثالث ليعالج التنافس الروسي الأميركي فيما يمكن تسميته بالحديقة الخلفية وأساليب كل طرف لإضعاف الطرف الآخر، وتداعيات ذلك التنافس على العالم العربي. وتختتم هذه الورقة برؤية مستقبلية. وليس من مفر الاعتراف بأن ما تضمه هذه الورقة لا يغطي سوى بعض فسيفساء اللوحة الجدارية، فالباحث في “استعادة روسيا مكانة القطب الدولي” يجد نفسه أمام شبكة بالغة التعقيد يتداخل فيها السياسي بالديني، والاقتصادي بالديموغرافي. ولأن الكيان الجغرافي لروسيا أقرب إلى قارة منه إلى دولة، فإن البحث فيها والكتابة عنها تذهب بأي كاتب إلى “التعميم” وإلى “إطلاق الأحكام الشاملة” وهي محاذير جاهدت الورقة التي بين أيدينا كي تأخذها بعين الاعتبار. خلط أوراق صعود وهبوط الدول العظمى سنة من سنن الكون، وانهيار الإمبراطوريات علامة من علامات حيوية التاريخ، فالأيام تدور، والدولة على نحو ما ذهب ابن خلدون كالإنسان تتلقفه أيادي الشباب والنضج ثم الشيخوخة والموت. وبوسعنا اليوم تعيين عشرات المراكز النووية التي كانت تشكل دولاً عظمى وأقطاباً بارزة في السيطرة على العالم، فمصر واليونان وإيطاليا كانت بمعايير الجغرافية السياسية للعالم القديم دولاً عظمى وامبراطوريات على البر والبحر، وأخضعت تحت لوائها عشرات الشعوب والممالك والإمارات. وفي إعلام العصور الوسطى هيمنت الخلافة الإسلامية بجسارة على أكبر خريطة جيوسياسية عرفها التاريخ قبل أن تظهر القوى العظمى الجديدة في القارة الأوروبية في العصر الحديث بريادة انجلترا وفرنسا، ثم أخيراً ظهور القطبين الكبيرين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة منذ منتصف القرن العشرين. ولقد تعرضت الجغرافيا السياسية في العقدين الماضيين لعملية واسعة مما يمكن تسميته التشويش والمبالغة فضلاً عن خلط أوراق المسلمات التي تأسس معها هذا العلم قبل قرن من الزمن. فمع تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991 تعمد الإعلام الغربي، المدعوم بجهود أكاديمية لمعاهد الأبحاث ومراكز التفكير، استخدام مفردات مدوية على غرار “سقوط التفاحة العفنة” و”توابع الزلزال” و”انحدار الفكر الشيوعي” وانتحار الامبراطورية الحمراء” و”نهاية التاريخ”. وقد جاء هذا التشويش وخلط الأوراق ضمن حرب إعلامية ونفسية هدفها إقناع دول العالم (والداخل الروسي) لأسباب اقتصادية وعسكرية بأن روسيا قد انتهت بالضربة القاضية ولا أمل في رجوعها، وأنها لم تعد تتجاوز مكانة دولة عادية من دول العالم الثالث أو في أحسن الأحوال “دولة ذات نفوذ إقليمي” تعاكس القطب الأميركي الأوحد. وقد تركت هذه الحملة الإعلامية والنفسية المراقبين في العالم غير قادرين على توصيف مكانة روسيا اليوم، إذ تتأرجح المرتبة التي تتخذها هذه الدولة في التقييم الجغرافي السياسي بين عدة مستويات. فقد عرفت كدولة عادية ذات نفوذ محلي منشغلة بترتيب بيتها من الداخل وصراعها مع القوى الهادفة إلى إصابة البناء الفيدرالي بالتفسخ. وقد شاع هذا التوصيف خلال الفترة بين 1992 وحتى 1996. كما صنفت روسيا كدولة إقليمية ذات نفوذ عابر للحدود على المستوى العسكري والدبلوماسي والاقتصادي. وقد راج هذا التوصيف في نهاية عقد التسعينيات ومطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.ثم بدت روسيا دولة ممانعة، وهو مصطلح ظهر منذ غزو الولايات المتحدة للعراق في 2003 حين وقفت روسيا موقفاً رافضاً للغزو ولم تشارك فيه، لكنها لم تقم بأي خطوة لعرقلته أو مواجهته. كما عرفت باسم روسيا بوتين، وذلك حين استعادت هيبتها داخلياً وعادت بالتدريج إلى ساحة المنافسة الدولية خلال عهد الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين (2000 ـ 2008). وقد رافق ذلك إطلاق روسيا القيصر فلاديمير على نفس الفترة. وقد جاءت هذه التسمية نسجاً على تسمية روسيا خلال عقد التسعينيات باسم “روسيا يلتسين”. دولة كبرى ما زالت روسيا تملك معالم الدولة الكبرى على المستوى الجغرافي السياسي. فهي كبرى دول العالم مساحة وتحتل المرتبة الثامنة في قائمة أكبر دول العالم سكاناً. ولديها موارد طبيعية وبيئية شاسعة الانتشار، ويندر أن يغيب اسم روسيا عن قائمة الدول الخمس الكبرى في إنتاج الخامات المعدنية، وتتصدر دول العالم في إنتاج موارد الطاقة وبصفة خاصة الغاز الطبيعي. كما أن لديها رصيداً متيناً من البنية الأساسية للقوة البشرية التي تلقت درجات عالية من التعليم والتقدم العلمي والحضاري. وكل هذه المقومات كفيلة بأن تمثل المواد الخام التي يمكنها تحويل روسيا إلى واحدة من دول العالم الكبرى. كما تمتلك روسيا المقوم “الروحي” لأية دولة تتطلع إلى السيادة العالمية، ذلك المقوم الذي أطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا الروسي “جوملييف” اسم “الباسيونارنست” أو “الولع بالسيطرة على العالم” إذ يبدو الشعب الروسي على دراية بذاته ويمتلك وعياً تاريخياً بالدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه في العالم. إن واقع روسيا اليوم يثبت أنها لم تتجاوز بعد هذه المفاهيم الموروثة من القرنين الماضيين. فهي في حاجة إلى رأس ثالث علّها تنظر إلى الجنوب، وفرصتها في العلاقات التي يمكن أن تبنيها مع دول الجنوب كبيرة للغاية، إذ ليس في العالم العربي وعالم جنوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية أية علاقات عدائية أو إمبريالية سابقة، وهي فرصة كفيلة بأن تضمن لهذا التحالف الروسي الجنوبي نقلة نوعية تخلق عالم متعدد الأقطاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©