الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إميل درمنجم.. زلاّت المحب

إميل درمنجم.. زلاّت المحب
11 نوفمبر 2009 23:12
أعاد د. أحمد زكريا الشلق رئيس تحرير سلسلة “ذاكرة الكتابة” نشر كتاب المستشرق الفرنسي إميل درمنجم “حياة محمد” الذي صدر بالفرنسية عام 1929، وترجمه إلى العربية الكاتب الفلسطيني محمد عادل زعيتر، ونشر بالقاهرة عام 1945 ثم أعيد نشره في الستينيات من القرن الماضي واختفى من يومها. الكتاب لعب دوراً مهماً في حياتنا الثقافية، فقد كان ملهماً للدكتور محمد حسين هيكل في كتابه “حياة محمد” الذي صدر عام 1935، وكان هيكل قد قرأ هذا الكتاب بالفرنسية فور صدوره، ثم بدأ كتابة تعليقات عليه في صحيفة “السياسة الأسبوعية” التي كان يترأس تحريرها ثم وضع كتاباً كاملاً بنفس العنوان. سيرة مستشرق ولد اميل درمنجم في باريس عام 1892 وتخصص في الدراسات اللاهوتيه والفلسفية وعمل بوزارة الخارجية الفرنسية وأجرى بعض الدراسات في تاريخ المسيحية وحياة الرهبنة، ثم حدث التحول في حياته حين انتقل إلى الجزائر وعمل مديراً لمكتبتها، فاتسعت ثقافته لتشمل تاريخ الإسلام، وتعامل مباشرة مع الثقافة الإسلامية في مصادرها الأولى، حتى صار واحداً من المستشرقين المتميزين في المعرفة والكتابة عن تاريخ الإسلام والمسلمين، وشُغل بأوضاع الجزائر ومنطقة شمال أفريقيا كلها، فأصدر عام 1926 “قصص من فاس” وفي عام 1949 أصدر ذكريات الأمير عبدالقادر.. قائد المقاومة الجزائرية في حرب عام 1830 ضد الفرنسيين، وفي عام 1929 أصدر كتابه الذي بين أيدينا، وحقق نجاحاً وطبع عدة مرات بالفرنسية ثم ترجم إلى الانجليزية، وكان لابد أن يظهر بالعربية. وقد لاحظ المترجم عادل زعيتر أنه مع كثرة تأليف المستشرقين لكتب عن حياة الرسول الأعظم في مختلف اللغات، فإن اللغة العربية خالية من ترجمة أي كتاب منها، لأن المستشرقين تجاوزوا ولم يحترموا الحقائق في حياة الرسول، وكان ذلك سبباً فيما اعتبره “زهد كتاب العرب في نقل ما ألفوه إلى العربية” وهو ليس أمراً إيجابياً في حق ثقافتنا العربية والمثقفين العرب. ويرى زعيتر أن كتاب درمنجم هو “أهم الكتب التي ألفها الغربيون عن الرسول الأعظم”. ورغم ما تمتع به المؤلف من صدقية، فإن كتابه لم يخل من زلات. ويقول المؤلف من جانبه “أردت أن أؤلف سيرة ناطقة صادقة للنبي مستندا إلى أقدم المصادر العربية غير غافل عما جاء في المؤلفات الحديثة، وقد شئت أن أرسم للنبي صورة مطابقة لما وصف به في كتب السيرة ولما يجول في نفوس أتباعه. ويحدد المؤلف موقعه بين المستشرقين على النحو التالي: “حالت الأوهام والأباطيل دون درس أصول الإسلام ومبادئه في أوروبا زمناً طويلاً ثم جد في البحث العلمي بعض العلماء في القرن التاسع عشر ومن المؤسف أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين في النقد أحياناً، فكانت مؤلفاتهم عامل هدم ومن المحزن أن كانت النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة”. مصادر إسلامية واعتمد المؤلف في كتابه على مصادر الإسلام الأولى وهي القرآن الكريم ثم الأحاديث النبوية، وسجل أن فيها ما هو موضوع ومنتحل، ويعتمد كذلك على كتب السيرة النبوية مثل سيرة ابن هشام، ولا يهمل المناهج والدراسات الحديثة في الغرب عن حياة وسيرة نبي الإسلام. ويقول “سلكت طريقاً وسطاً بين رواية المتقدمين ومغالاة بعض المستشرقين المعاصرين في النقد، فعولت في كتابي هذا على المصادر القديمة والنقد الحديث”. ويكشف الكتاب عن إلمام واسع بالتراث الإسلامي ومحاولة فهم القرآن الكريم، واطلاعه كذلك على أعمال بعض العلماء المعاصرين مثل الشيخ محمد عبده، ويهاجم بضراوة المستشرق “هنري لامنس” الذي عاش في لبنان فقد كان متعصباً و”شوه كتبه وأفسدها بكراهيته للإسلام والمسلمين” ولا يخفي إعجابه بنبي الإسلام ويقول: “كان النبي صلى الله عليه وسلم وضيئاً جليلاً حليماً، وكان الناظر إليه يشعر بأنه خلق للقيادة وبأن إطاعته واجبة”. ويتوقف بإجلال أمام موقف النبي من أهل مكة يوم الفتح، حين قال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. واستفاد “درمنجم” من دراسة اللاهوت المسيحي، في تأمل العلاقة بين الإسلام والنصرانية، وأوجه الشبه وعوامل الاختلاف، مع الإلمام بطبيعة المسيحية وأحوال النصارى في المنطقة العربية لحظة ظهور الإسلام ولا يجد هوة كبيرة بين الديانتين، ولكن الهوة صنعها المفسرون ورجال الدين من الناحيتين، ثم اشتد سوء الفهم، حين وقعت الحروب بين الديانتين “وعلينا أن نعترف بأن الغربيين كانوا أسبق من المسلمين في إحداث هذا الخلاف، فبعد أن استخف رجال الدين البيزنطيين بالإسلام وازدروه دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة دراسته جاء دور الكتاب والشعراء الطوافين فصاروا يحاربون المسلمين بأسخف التهم”. ويستعرض ما قالوه عن النبي من أوصاف ووقائع كاذبة ومسيئة لمشاعر أي إنسان ناهيك عن أن يكون مسلماً، ويناقش هذه الأوصاف والاتهامات كلها ويخلص إلى القول “لا يستطيع احد أن يشكك اليوم في أخلاق محمد، فحياة محمد شاهدة على اعتقاده صدق رسالته التي حمل أمانتها الثقيلة ببطولة”. ولا يخلو الكتاب مما اعتبره المترجم هنات وقع فيها المؤلف المنصف، مثل القول:إن السيدة خديجة رضي الله عنها استعانت بالشراب المسكر مع أحد أقاربها حتى يوافق على خطبة النبي لها، وغير ذلك من بعض وقائع أشار إليها المترجم في الهوامش. ويصعب القول إنها “زلات” فهي ليست كذلك، ولكن المؤلف أراد أن يعمل العقل وخبرة الحياة في كل ما وجده بكتب السيرة النبوية، وهو في النهاية ابن ثقافته ومجتمعه وهناك في حياة النبي وسيرته أمور ووقائع لا يمكن أن تؤخذ بمنطق العقل، بل بروح الإيمان، ثم تأتي بعد ذلك محاولة التعقل، مثل قصة الإسراء والمعراج فلو طبقنا عليها مناهج العقل الحديث، فلن يتقبلها العقل، فقط يتقبلها المؤمن بقلبه وبضميره وروحه أولاً، ولعل هذا ما دفع مفكراً مثل د. محمد حسين هيكل بعد أن قرأ الكتاب إلى أن يقدم كتاباً مقابلاً، يكتبه مسلم محمل بروح الإيمان والتصديق بالإسلام غير أن هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية الكتاب وجهد الباحث، فقد حاول أن يكون منصفاً وأميناً مع نفسه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©