الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عدن الكوسموبوليتية..

عدن الكوسموبوليتية..
11 نوفمبر 2009 23:13
يلاحظ الباحث مسعد عمشوش في كتابه “عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين” أن الطابع الكوسموبوليتي لعدن، الذي يتجسّد في تعدد الأجناس البشرية التي تعيش فيها، هو أول شيء جذب انتباه الرحالة الفرنسيين، ودونوا انطباعاتهم في الكتابات الممتدة من 1855 إلى 1951، وهي الكتابات التي يتناولها الباحث ويورد مقتطفات منها. بداية يستعيد عمشوش، في كتابه الصادر عن جامعة عدن، الإشارات التاريخية التي ذكر فيها العديد من المؤرخين والباحثين “أنّ سكّان عدن يتكونون، منذ فترة ما قبل الإسلام، من خليط من النّاس ينتمون إلى أصول عرقية مختلفة، ويمارسون جميعهم التجارة، ويشكلون عدة جاليات يعيش كل منها في معظم الأحيان في حي خاص به”. وحسب الباحث، فإن المصادر نفسها أوردت أن “أغلب سكّان عدن في القرن الأول للهجرة وقبل الإسلام كانوا من غير العرب الذين انصهروا في بوتقة اللغة العربية”. وفي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين “كان كثير من سكان المدينة لا يستخدمون العربية، إذ إن تعدد اللغات فيها كان من أهم الأمور التي تشد انتباه الرحالة الفرنسيين. فأرثر دي غوبينو وبول نيزان يشبّهان عدن ببرج بابل لكثرة اللغات والعملات المستخدمة فيها، وكذلك ألفرد بارديه”. وظل الطابع الكوني للمدينة إلى منتصف القرن العشرين، وإذ يعنون فيليب سوبو انطباعاته بـ”عدن القطب المغناطيسي” فإنه يصف المشهد المتنوع للأزياء من خلال تعدد السكان بقوله: “في الشوارع حشود ملونة من البشر تمشي الهوينى: عرب بعمائمهم، هنود بكوافيهم الصوفية السوداء، يهود بطرابيشهم الحمراء، صوماليون بلون الأبنوس، وقد بدوا في مآزرهم المخططة الفاقعة الألوان وعصيهم الطويلة في غاية الأناقة، ويمنيون وقد غطى وجوههم غبار الفحم، وبعض الإنجليز الذين يشبهون، في سراويلهم الكاكية القصيرة، صبية عمالقة”. وإلى جانب ما سبق، يذكر الرحالة: الفرس الذين تميّزوا بالتجارة، وفئة (الأخدام) وهم السود في اليمن، الذين يمثلون الموقع الأدنى في السلم الطبقي، أو أنهم يتبادلون الموقع نفسه مع اليهود. تناول الباحث عدن في كتابات: فيكتور فونتانيه، لويس سيمونان، أرثر دي غوبينو، ألفرد بارديه، هنري مونفرد، بول موراند، فيليب سوبو، إضافة إلى بول نيزان مؤلف الكتاب الشهير “عدن العربية”، وكذلك رسائل رامبو من عدن، وكتابات أندره مالرو. في الكتاب يبرز الباحث الملامح البارزة للمدينة، كالملمح الهندي، الذي اعتبرت معه عدن وكأنها مدينة هندية، حيث كان الهنود عام 1861 “بغالبيتهم المسلمة، يشكلون أوسع جالية في عدن”. وكان “الهنود الفارسيون” من أبرز ملامح المدينة، وهم “أولئك الزرادتشيون الذين يتحدثون الأردية ويعبدون النار، وقد فروا من إيران بعد الفتح الإسلامي مباشرة إلى الهند”، وذلك “هرباً من قمع المسلمين المتعصبين هناك”. ومن خلال دراسة الباحث ونصوص الرحالة نلاحظ مدى اتساع الحرّيات الدينية التي كانت في عدن، إذ ضمت: كنس اليهود وكنائس المسيحيين ومساجد المسلمين، ومعابد الهندوس والفرس الزراديتش، وغيرها. وهناك، بالطبع، الملمح الأوروبي للمدينة، حيث عدن الأوروبية، التي يصفها بول نيزان أنها “صورة مركّزة لأمنا أوروبا، بل أنها أوروبا مكثفة جداً”، كانت مقراً لأهم الشركات العالمية كفياني مازاران ـ بارديه وأنتوني بس، وهي المقصد السياسي والتجاري العالمي المتزايد مع الاحتلال البريطاني في سنة 1839. ومع التواجد الأوروبي ظلت عدن وجهة النشاط الاستخباري والاستكشافي والتبشيري للجمعيات الدينية والخلايا الماسونية. وانتعشت فيها النوادي والمسارح والمنتجعات والمدارس. وكان عدد اليهود فيها سنة 1861، حسب سيمونان، يقرب من 1500 وهم في مستويات طبقية عديدة، فمنهم الأغنياء والتجار الكبار كمناحيم ميسا، ومنهم الفقراء المحتقرين من كل الفئات الأخرى. ويبدو، كما يلاحظ الرحالة، وجود تمييز عرقي بين سكان المدينة، وأشار بعضهم إلى نزاعات نشبت بين بعض الفئات لأسباب عرقية، إلاّ أن مصالح الحياة المشتركة كانت تسود في أغلب الأحيان. وتحدد هذه المصالح، وبالذات التجارية والسياسية منها، أسس الكثير من العلاقات الاجتماعية. يمكن القول إن “عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين”، كما يقدمها الدكتور مسعد عمشوش، تبدو كنزاً إنسانياً هائلا ضاع كحلم، لكنه حلم ما زال يراود كل من يفتقد الزمن الإنساني الجميل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©