الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جورجيا··· ديمقراطية في طور التكوين

جورجيا··· ديمقراطية في طور التكوين
2 سبتمبر 2008 00:52
إن أقصى ما يعلمه الأميركيون عن جورجيا -إن علموا عنها شيئاً خلال الشهر الماضي- كونها دولة صغيرة بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقاً، وأن رئيسها ''سكاشفيلي'' الشاب الذي تلقى تعليمه في أميركا، قاد ثورة ''وردية'' في عام ،2003 استطاع أن يطيح بواسطة مظاهراتها الشعبية العارمة بإدارة ''إدوارد شيفرنازدة'' الفاسدة؛ وفي حين تؤيد الأغلبية الجورجية توجهات ''سكاشفيلي'' الموالية للغرب، إلا أن الكثيرين يشعرون بالظلم الواقع عليهم جراء تبنيه لنمط الرأسمالية الغربية المسعورة؛ وبسبب هذه التوجهات نشأت فجوة كبيرة بين الأغنياء والمعدمين، بينما اتسع التمييز في الحصول على العمل بين المواطنين، اعتماداً على مواصفات الشباب وطلاقة التحدث باللغة الإنجليزية، أكثر من الاعتماد على الخبرة المهنية والمهارة؛ ومن مظاهر هذا التمييز غير العادل انتشار ظهور المسؤولين الحكوميين بملامحهم الطفولية الصبيانية، وهم يتجولون في الشوارع على متن السيارات متشاغلون بهواتفهم الجوالة الحديثة، بينما يتعين على المدرسين والعلماء والمتقاعدين عن العمل، البحث عن عمل إضافي يمكنهم من زيادة دخلهم ومواجهة متطلبات الحياة وتكلفتها المتزايدة· لقد عبرت مشاعر الغضب الشعبية -نوفمبر من عام 2007- عن نفسها في شوارع العاصمة تبليسي، فما كان من الحكومة إلا أن انقضت انقضاضاً وحشياً كاسراً على المتظاهرين، أدهش المواطنين الجورجيين أنفسهم قبل الغرب الذي فغر فاه تعجباً من هذا السلوك الغريب الصادر عن دولة تزعم لنفسها توجهاً ديمقراطياً؛ فقد كانت تلك المظاهرات وردة الفعل الحكومية العنيفة إزاءها، فرصة لا تعوض لطلاب الصحافة الذين كنت أدرسهم من الشباب دون سن العشرين، القادمين إلى الفصول الدراسية من مختلف أنحاء جورجيا؛ فقد هجروا فصول الدراسة وذهبوا إلى الشوارع لتغطية الأحداث التي كانت تجري من حولهم وبالقرب منهم؛ وقد شاهدوا بعيونهم كيف تغطت سماء الشوارع التي كانت تجري فيها المظاهرات الغاضبة، بغيمة كثيفة من الغازات المسيلة للدموع، وكيف كان يضرب رجال ملثمو الوجوه المتظاهرين دون رحمة ويلهبون ظهورهم بالسياط؛ وبدافع شغفهم لممارسة تخصصهم وتطبيقه، مصحوباً بالخوف على مستقبل ديمقراطية بلادهم الناشئة، عاد هؤلاء الطلاب تارة أخرى إلى فصول الدراسة، حيث كتبوا عما شاهدوا بشتى الأشكال الصحفية ثم نشروه في صحيفة حائطية لا علاقة لها بدراستهم الأكاديمية· ومن جانبي بدت لي جورجيا ما بعد العهد السوفييتي هذه، أقرب إلى ديمقراطية فتية لم يكتمل نضجها بعد؛ فلا يزال المجال متاحاً لانتقاد الحكومة والإشارة إلى أخطائها، غير أنه وفيما لو تمادت هذه الانتقادات في علنيتها، فإنها تعرض صاحبها للعقاب الحكومي؛ أما في مجال الأداء الاقتصادي، فعلى رغم الحديث الذي تروج له الحكومة عن إدارتها لاقتصاد البلاد على نهج الاستثمارات الغربية، إلا أن أصحاب الأعمال الجورجيين يقولون إن حزب ''سكاشفيلي'' الحاكم لا يكف عن طلب التبرعات منهم؛ إلى ذلك عادة ما يوصف منتقدو الحكومة بأنهم ''عملاء الكريملن'' في إشارة إلى سوء علاقة جورجيا بجارتها الكبرى روسيا· وحتى قبل الغزو الروسي الأخير لجورجيا، ظلت فزاعة ''الخطر الروسي'' شماعة تعلق عليها حكومة ''سكاشفيلي'' كافة أفعالها المنافية للديمقراطية، من تعليق للحريات المدنية، وحتى إطلاق الرصاصات المطاطية على المتظاهرين والمحتجين على أدائها؛ وهو ما أفاد حكومة ''سكاشفيلي'' في حملات علاقاتها العامة؛ ففي ''متحف الغزو السوفييتي'' بوسط العاصمة تبليسي، تعرض هناك صور مرعبة للقائد السوفييتي السابق ''جوزيف ستالين''، إلى جانب عرض شرائط فيديو خاصة بالثورة الوردية التي تبرز صعود نجم ''سكاشفيلي'' فيها· غير أن تصويت كل من فرنسا وألمانيا في شهر مايو من العام الجاري بالاعتراض على ضم جورجيا إلى عضوية حلف الناتو مخافة إغضاب موسكو، على رغم معارضة واشنطن لهذا التصويت، كان موقفاً صادماً حتى بالنسبة للناخبين الجورجيين الذين لا يصوتون لـ''سكاشفيلي'' عادة؛ وليلة ذلك التصويت كنت في منزلي حيث قال لي جاري الجورجي: ''في نظر عامة الروس، ليس مهماً بالنسبة لهم أن يدركوا أن بلادهم تصنع الثلاجات أو السيارات، إنما الأهم أن يعرفوا أنها تصنع السلاح؛ وليس مما يسعد الروس أن يسمعوا بأن جيرانهم يقفون أنداداً لهم، إنما يهمهم أن يدركوا أن الجيران يخافونهم''· وعلى رغم قوة العلاقة التي تربط الجورجيين بالروس، إلا أنهم يخافونهم فعلاً؛ والغريب أن روسيا كانت منقذة لجورجيا ومهددة لها باستمرار، تدافع عنها وتحميها، بقدر ما تقهرها وتخضعها لنفوذها؛ ذلك أن الاتحاد السوفييتي السابق فرض هيمنته على جورجيا حتى لحظة انهياره، إلا أنه وفر لمواطنيها الغذاء والوظائف والتعليم، إضافة إلى توفيره الأسواق اللازمة لبيع بضائعهم ومنتجاتهم· لم تنج الصحافة الجورجية من تعديات حكومة ''سكاشفيلي'' عليها؛ بل تواصلت حملاتها القامعة لحرية الصحافة في واقع الأمر؛ وضمن هذه الممارسات أغلقت القناة الصحفية الوحيدة المعارضة للحكومة، بينما لقي مالكها المنافس لـ''سكاشفيلي'' مصرعه في ظروف غامضة في منفاه؛ أما الطلاب الذين يتخرجون من برنامج الصحافة الذي أدرّس فيه، فيستقيلون من عملهم التلفزيوني الذي يلتحقون به الواحد بعد الآخر، ما أن ترفض القناة التلفزيونية الحكومية، بث شرائط الفيديو التي سجلوها عن العنف الحكومي في مواجهة المحتجين والمتظاهرين· لكن وعلى رغم مشاعر الإحباط هذه، إلا إن غالبية المواطنين لا تأمل في اندلاع ثورة جديدة أياً كان لونها؛ فالكل يتطلع إلى تحقيق قدر من الاستقرار في بلادهم، أصبح صعباً تحقيقه الآن، في ظل غياب أي بادرة لانسحاب عسكري روسي قريب من جورجيا· تارا باهرامبور- جورجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة ''لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©