الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

الصين «قاطرة» القرن الآسيوي (3 - 3)

الصين «قاطرة» القرن الآسيوي (3 - 3)
14 نوفمبر 2009 01:51
لفت انتباهي وأنا بصدد إعداد هذا الملف عن الصين وتجربتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمناسبة الذكرى الـ 60 لميلاد الجمهورية الشعبية، موقف شخصي رواه مايكل ويستر وهو أميركي قضى سنوات طويلة في هذه البلاد المذهلة، ما أتاح له إلماماً واسعاً بخلجاتها وعنفوانها، وإعداد وإصدار واحد من أفضل الكتيبات التعريفية بها. كان بطلا هذا الموقف الطريف، ويستر نفسه ووالدته السبعينية التي قدمت للمرة الأولى إلى الصين مأخوذة بأشواق أمومة لا تحدها حدود إلا من محاذير ترسخت في ذهنها متصلة بالندرة بل الافتقار لأبسط ضرورات الحياة اليومية في بلاد مكبلة بقيود شيوعية يحرسها حرس قديم. روى ويستر كيف صعقته الدهشة وهو يرى أمه وهي تفرغ حقيبتها من متعلقات شخصية جلبتها من بلادها. كانت الحقيبة معبأة بورق المراحيض ومواد صحية أخرى من مطهرات وصابون. عثرت المرأة على “قاع المدينة” ففوجئت بواقع مغاير تماماً، حيث لاقت مشقة في الاختيار بين كم هائل من كافة ضرورات الحياة يفوق ما هو متوافر في بلادها، استمتعت المرأة بمطاعم الصين بمذاقها الفريد وركبت القطارات السريعة التي تطوي ناطحات السحاب في شنغهاي وبكين، بل إنها ذهلت بالشوارع الفسيحة التي تغص بدور الموضة وعروض الأزياء الحديثة مقارنة بالسترة التقليدية التي اشتهرت بها الصين. موقف في غاية البساطة لكنه شديد الدلالة والتكثيف مختصر لماضي وحاضر ومستقبل الصين. إنها تجربة إنسانية غنية بالدروس والعبر بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، ولا يمكن اختزالها في سطور، لكننا سنحاول الاقتراب من خطوطها العريضة بقدر الإمكان.. مثقفون ومفكرون متمردون ينحتون في الكواليس مشروعاً قابلاً للتصدير النموذج الصيني يخلط أوراق العولمة ويفتح آفاقاً لعالم جديد شهدت الصين مُنذ إقرارها سياسة الإصلاح والانفتاح أواخر السبعينات من القرن الماضي، طفرات اقتصادية واجتماعية نادرة في التاريخ البشري، مسفرة عن تحولات نوعية وبنيوية عميقة في المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن المشهد الثقافي الفكري الفني ليس استثناء، مع الأخذ في الاعتبار الإرث الحضاري الصيني الضارب بجذوره في أعماق التاريخ. لم يقتصر تأثير تلك التحولات الشاملة على المجتمع الصيني فحسب، بل تمدد وتغلغل في كافة بقاع العالم وأبلغ دليل عبارة “صنع في الصين” التي تغص بها الأسواق والمنازل والدواوين الحكومية. ورغم الاهتمام العالمي بحالة النهوض الشامل في هذه البلاد العريقة، لا تحظى الحياة الثقافية الفنية الفكرية الصينية، باهتمام موازٍ بما في ذلك أوساط المفكرين والمثقفين الذين ينتجون الفكر والمعرفة وينحتون الأطر النظرية للمشروع المجتمعي في البلاد فضلاً عن استشراف دورها المستقبلي على الساحة العالمية. في ضوء هذه المعطيات، يتبادر إلى الذهن تساؤل منطقي مؤداه: هل الصين في طريقها إلى إعادة صياغة وتشكيل المشهد الثقافي الفكري الفني في العالم، على غرار تجربة الغرب التي سبغت وجه العالم منذ تفجر الثورة الصناعية مروراً بالحقبة الاستعمارية وانتهاء بعصر التكنولوجيا الحديثة؟. ولابد من الملاحظة، أن الغرب زحف على البلدان الأخرى مستعمراً، بينما يتنامى نفوذ الصين وحضورها في كل مكان، تحت شعار “التنمية السلمية” والمصالح المشتركة. الإجابة عن هذا التساؤل قطعاً، لن تكون بالإيجاب أو النفي، غير أن قراءة في المشهد الثقافي الفكري الصيني الحالي، بما يستند إليه من مقومات مادية وبشرية هائلة وبنية تحتية متعاظمة وإرث حضاري متجذر، قد تلقي الضوء على مآلات هذه التجربة. فعلى سبيل المثال، اعتمدت بكين استثمارات هائلة في مجالي التعليم بمختلف مستوياته، والتأهيل النظري والعلمي. وتفيد بيانات رسمية أن إجمالي الدارسين في المراحل التعليمية نهاية عام 2008 بلغ 300 مليون طالب وطالبة فيما تجاوزت نسبة الالتحاق بالمدارس 99,5 في المئة وشمل التعليم الإلزامي لمدة 9 سنوات 95 في المئة من الأطفال في سن الدراسة - ومنذ بداية مرحلة الإصلاح والانفتاح عام 1979، ابتعثت الصين 1.4 مليون طالب للتحصيل في مختلف التخصصات بالخارج، بما في ذلك اللغات. واعتباراً من 2004، أنشأت البلاد 256 معهداً ومدرسة في أكثر من 80 بلداً في حين يتلقى أكثر من 40 مليون شخص دراسات في اللغة الصينية، كما أدرجت نحو 8 آلاف مدرسة على نطاق العالم، اللغة الصينية ضمن مناهجها الدراسية. هُناك عدد كبير من الجامعات والأكاديميات والمعاهد المتخصصة في مجالات العلوم والهندسة والدراسات الاجتماعية. وتُوجد بالبلاد 2825 مكتبة عامة تحتوي على أكثر من 500 مليون عنوان بينما تضم المكتبة الوطنية 25 مليون نسخة و3500 مخطوطة منقوشة على العظام و1,6 مليون مرجع كلاسيكي، إضافة إلى حوالي 12 مليون نسخة من الكتب والمجلات والدوريات بلغات أجنبية وعشرات البنوك للمعلومات الإلكترونية. كما يتوافر حالياً 1800 متحف و400 ألف موقع أثري تاريخي مع اهتمام بالغ بالتراث غير المادي. كما لا تخطئ العين الرعاية الرسمية التي توفرها الدولة لمجالات الفنون والإبداع والرياضات. وربما تكفي الإشارة إلى أوبرا بكين الشهيرة التي أبدعت وأخرجت أكثر من ألف عمل فني مستوحى من التراث الصيني الفني والرقصات الفولكلورية المعبرة عن 56 قومية يتألف منها سكان البلاد. لنأخذ على سبيل المثال الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ببكين باعتبارها مؤسسة رائدة في مجال البحوث والدراسات وإنتاج المعرفة، فهي تضم نحو 50 مركزاً تعنى بأكثر من 260 حقلاً من حقول المعرفة، ويتألف طاقمها من قرابة الأربعة آلاف باحث يحملون مؤهلات أكاديمية رفيعة في تخصصات مختلفة. بالمقابل، تشير إحصائيات إلى أن المتفرغين للبحث والدراسات في مراكز الرأي ببريطانيا بأسرها لا يزيدون على بضعة آلاف، في حين لا يتجاوز عديدهم 10 آلاف باحث في الولايات المتحدة. وإلى جانب أكاديمية العلوم الاجتماعية، هناك عدد كبير من المعاهد المتخصصة في إنتاج المعرفة بشتى ضروبها من طب وهندسات وتكنولوجيا وعلوم اجتماعية وإبداعية. ساهم توافر المؤسسات العديدة المتخصصة في تأهيل جيش جرار من العلماء في الصين مع استعداد رسمي لتوفير كافة المعينات المتصلة بأغراض البحث وإنتاج المعرفة برصد موازنات ضخمة للمجال الأكاديمي. يشير استطلاع للرأي شارك فيه 520 عالماً وباحثاً صينياً إلى أن أبرز المنجزات العلمية لعام 2008 تمثلت في إطلاق المركبة “شنتشوه – 7” بنجاح كأول خطوة للسير في الفضاء وتسجيل اختراق مهم في مجال بحوث تكنولوجيا الجيل المقبل من الإنترنت وإنتاج أول خريطة جينية صينية في حقل الطب البيولوجي وإنجاز بناء مشروع مصادم إلكتروني متطور “بوسيترون كولويدر” ببكين وهو من أحدث نظرائه في العالم، بالإضافة إلى تشغيل طلائع القطارات السريعة وانضمام الحاسبة الإلكترونية “شو قوانج – آي – 500” إلى مرتبة العشرة الأوائل في العالم من جنسها والتي وضعت البلاد في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة لجهة سرعة أجهزة الكمبيوتر. كما أكملت الصين بناء تلسكوب “لاموست” الذي يتميز بخصائص تكنولوجية جعلت منه الأكبر بمعدل جمع الطيف والأكبر من حيث الرؤية الواسعة البعيدة، بجانب إطلاق أول تجربة لأول طائرة مدنية من الجيل الحديث وإنجاز مكرر الكم الحاسم في تكنولوجيا اتصالات الكم البعيدة والقضاء على الآفات الحشرية في المناطق الزراعية بشمال الصين. صحيح أن المظهر الخارجي يوحي بأن الحياة الفكرية والثقافية والإبداعية الصينية تتألف من شرائح أيديولوجية وأوساط فئوية تأتمر بإشارات الحزب الشيوعي الصيني الحاكم ومؤسساته النمطية داخل فضاء مغلق مهما اتسع. وقد تجد هذه الفرضية سنداً بالنظر إلى علاقة المثقف والمفكر بالسلطة وانخراط البعض في خدمة الأنظمة الشمولية. غير أن الواقع يكشف عن معطيات مغايرة، أقلها أن السلطات الصينية وفي مقدمتها المكتب السياسي للحزب الحاكم لا تتخذ قراراً استراتيجياً إلا بعد استمزاج آراء قادة الفكر المتبحرين في المجال المعني. ويرى بعض المثقفين والمفكرين الذين يرتبطون بعلاقات متأزمة مع النظام الحاكم، أن البقاء في البلاد وعدم الهروب للخارج خياران لا بديل عنهما في ضوء النجاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تم إحرازها في البلاد لكونها تحدد الملمح العام لمستقبل الأمة. ولا يقتصر الجدل والخلاف الفكري على أروقة الحزب الحاكم فحسب، بل يبدوان أكثر حيوية في الجامعات والفضاءات الأخرى المعنية بالبحوث والتحصيل والمؤسسات الفكرية والمنابر الثقافية والأدبية والإعلامية والإنترنت. كما يدور جدل فكري وثقافي بصوت عال حول سياسات الدولة وخياراتها الاستراتيجية وقضايا الحريات والحقوق المدنية وحكم القانون بما في ذلك الإصلاح. وقد شهدت السنوات الماضية ظهور مدارس فكرية تعرف بـ “اليسار واليمين الجديدين” وهي وليد شرعي لعملية الإصلاح التي اعتمدها الحزب الشيوعي الصيني، هاتان المدرستان تصطرعان في قضايا المساواة والتنمية المتوازنة الشاملة وكيفية صياغة أفضل السبل للملاءمة بين مكتسبات الانفتاح والاندماج في السوق الاقتصادية العالمية، وتجنيب البلاد مما يعرف بـ “الفوضى الخلاقة” اتعاظاً بتجربة الاتحاد السوفييتي “العظيم”. كما نجد مفكرين آخرين يقفون على النقيض من العولمة، مستندين إلى الأطروحات الفرنسية التي عارضت هذا النظام لمخاوف حول الخصوصية الثقافية والحضارية، بل لا يستنكفون طرح بديل مسيج بـ “ستار حديدي” بمواصفات صينية بحتة. الجدل الفكري الثقافي في الصين كان يمكن أن يتحول إلى حاضنة تعيد إنتاج سياسة ورؤى الحزب الحاكم، إذا ما استند إلى منطلقات ذاتية عاطفية أو أوهام أو نفاق، بل على النقيض من ذلك، كونه أصبح جزءاً من صميم العملية الإصلاحية في المشهد الصيني العام بكل تفاصيله وهو معين ومكون في الخيارات المتاحة لصناع القرار. ولعل من النماذج الأكثر دلالة على تأثير أطروحات المنظرين والمفكرين في عملية صنع القرار، ما دار من جدل حول أهداف النمو الاقتصادي وما جلبه من ثروة في وقت كانت فيه الدوائر الرسمية منهمكة في صياغة الخطة الخمسية الحادية عشرة للتنمية في البلاد. تكثف النقاش في أوساط المفكرين والمنظرين السياسيين والاقتصاديين حول تساؤل مؤداه، ما هي الغاية من الاستثمارات، وهل هي لمجرد مراكمة الثروة في أيدي الصفوة، أم استنباط أنموذج للتنمية ينهض بالمواطن في كل أنحاء الصين؟ خرجت الخطة في 2005 بشعار “المجتمع المتجانس” وللمرة الأولى منذ تدشين سياسة الإصلاح، لم يضع صانعو القرار التنمية الاقتصادية كهدف في حد ذاته، بل تركزت حول دولة الرفاهية بحلول 2020 مخصصة موارد ضخمة للمعاشات وخفض معدلات البطالة والرعاية الصحية والتعليم ومكاسب للمرأة عند الولادة خاصة في المجتمعات الريفية. هناك بطبيعة الحال عوامل أخرى داخلية تضافرت لتدفع بدورها إلى تبني فلسفة مجتمعية أكبر في العملية التنموية، غير أن هذا لا ينفي الدور المتعاظم الذي يلعبه قادة الرأي والفكر في بلورة غايات جديدة للتنمية والمساهمة في إدماجها في الخطط الاقتصادية للبلاد. وثمة مفكرون ومثقفون يعملون مباشرة كمستشارين للرئيس هو جينتاو من مواقعهم في مراكز البحوث والرأي وهم معنيون ببلورة الأطر النظرية لمسيرة الإصلاح والتنمية الاقتصادية، ويلاحظ أن دور هذه المراكز يتخطى القضايا الداخلية، ويسدي خدمات لعدد كبير من الحكومات الأجنبية التي تتقاطر وفودها إلى بكين للتعلم من هذه التجربة النهضوية الكبيرة. خلاصة القول إن الأنموذج الصيني في التنمية الاقتصادية التي تضفي مشروعية على النظام، غير كثيراً في مفردات الجدل الذي يدور حول العولمة، بإثباته أن الأنظمة التي توصف بـ“الشمولية” يمكنها تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالبلاد إلى مصاف الدول الأكثر تأثيراً في المعادلة الدولية مقابل فشل العديد من الأنظمة الليبرالية التعددية.. والتساؤل الذي يعيد طرح نفسه مجدداً: هل نحن على عتبة العصر الصيني؟! الطعام وآدابه في الثقافة الصينية المطبخ الصيني ليس استثناءً من سنة التطور والحيوية اللتين يتميز بهما هذا المجتمع منذ آلاف الأعوام، ومع استلهامه كافة العناصر الإيجابية الوافدة من الثقافات الغذائية الأخرى، يحتفظ المطبخ الصيني بخصائصه المتميزة لجهة الأصالة والثراء والتعدد. وقد ظل الطعام يلعب دوراً محورياً في كافة أوجه الحياة بالمجتمع الصيني ابتداءً بالصحة والطب والأنشطة التجارية مروراً بالاحتفالات والمآدب الضخمة. ولعل الشاهد الأكثر دلالة على هذا الدور الحيوي، يتمثل بالأسلوب الذي يحيي به الصينيون بعض. ففيما درج الناس في معظم ثقافات العالم، يحيون بعضهم بعضاً بالتساؤل عن الصحة وترديد عبارات المجاملة والأماني الطيبة، يكتفي الصينيون بالتساؤل عن ما إذا كان الشخص تناول طعامه لدى استقبالهم له. وللطبيعة الجغرافية الصينية الساحرة بتدرجها من السهول المنبسطة إلى جبالها الشاهقة ومناخاتها لمتنوعة، تأثير بالغ على هذا الاهتمام، فبهذا التنوع المناخي والمساحات الشاسعة والمحاصيل الغذائية الوفيرة والمنتجات الحيوانية والمأكولات البحرية، يستمد المطبخ الصيني ثراءه وتميزه ما يجعل منه مثيراً للشهية والإقبال على الطعام. يهتم المطبخ الصيني بالمدخلات الغذائية الطازجة والنكهة والمواد المشهية، كما طور الصينيون تقنياتهم الخاصة في معالجة الطعام ما يتيح استخلاص أفضل ما في مكونات الطعام مهما كانت محدوديتها لجهة التنوع والمحتوى. ومع ثرائه وإغرائه، يمكن أن يكون المطبخ الصيني للوهلة الأولى، أكثر تعقيداً في آدابه بل قد يجلب الإحباط والحرج في بعض الأحيان. فقد يتعرض المرء الغريب لزلات محرجة في السلوك الاجتماعي عند الصينيين، لكن آداب تناول الطعام تُعنى في المقام الأول، بإضفاء لمسات حضارية وإشعار الضيف بأقصى درجات الاحترام والتقدير. يقضي “إتيكيت” تناول الطعام في الثقافة الصينية، بالبدء بتناول كوب من الشاي قبل تناول المشهيات والأطباق الرئيسية. كما تقضي تقاليد المآدب بالاهتمام أولاً بمن من حولك على طاولة الطعام قبل الالتفات إلى الكوب الخاص بك. ويعيب الصينيون على نحو أكبر، اهتمام الشخص بصب الشاي لنفسه من دون الالتفات لغيره من الذين يشاركونه طاولة الطعام. ومن آداب الطعام المحبذة لدى الصينيين المبادرة بسكب قطرات من الشاي على الأكواب المترعة الخاصة بالضيوف في إشارة إلى أن المضيف يحرص دائماً على أن تكون أكواب وأطباق ضيوفه ملأى باستمرار. ويقضي الإتيكيت الصيني بعدم توجيه رأسي العودين اللذين يستخدمان في تناول الطعام، باتجاه أي فرد من الجالسين حول الطاولة، كما لا يحبذ إمساكهما في وضع رأسي عند التقاط حباب الأرز لأن ذلك يوحي بالعيدان التي تحرق في مراسم الجنازة، ويحرص الصينيون على إعداد كميات أكثر مما يكفي في الولائم ولا ينبغي للضيف الشعور بالحرج لدى طلب المزيد من الطعام لأن الصيني يستملح الظهور بمظهر الرجل الكريم اللطيف. وغالباً ما يشكل السمك الطبق الرئيسي على المائدة عندما يكون الضيف من أصحاب المناصب الرفيعة أو الوضعية الاجتماعية المرموقة - وقد يفاجأ الضيف في هذه الحال أو ربما يبدي اشمئزازاً، إذا ما أصر مضيفة على إهدائه رأس سمكة لأن الصينيين يعتبرون الرأس أطيب وأشهى ما في السمك ولا يجودون به إلا لمن يفضلونه على أنفسهم. ومن التقاليد الراسخة في آداب الطعام، أن يقدم الضيف لضيوفه أطباق طعام تزيد على عدد المدعوين وكل واحد منها ممتلئ بصنف مختلف. وعلى خلاف عادة الغربيين في إقامة الولائم المشتركة على أن يتكفل كل فرد بكلفة حصته، فالتقاليد الصينية تقضي بأن يتحمل المضيف كلفة الوليمة وليس غريباً أن تشاهدهم يتجادلون ويتجاذبون الأطراف في محاولة لنيل قصب السبق وشرف تحمل كلفة إطعام المدعوين. مسجد نيوجيه مستودع للتراث العربي الإسلامي في شرق الصين يقف مسجد نيوجيه وسط بكين بفنه المعماري الرفيع وكنوزه الأثرية النادرة، شاهداً على عظمة الحضارة العربية الإسلامية ويدون تاريخ بلوغها أقاصي المشرق خلال قرونها الأولى، ويعد المسجد الأشهر والأقدم والأضخم من بين 70 مسجداً في العاصمة الصينية، أنه شاهد مادي على تطور الإسلام وانتشاره في تلك البقاع وحاضن لآداب وفنون الثقافة العربية الإسلامية، بما يختزنه من مخطوطات ومنحوتات وتحف فنية أصيلة، ودليل على قوة تمسك الصينيين بدينهم ومثابرتهم على أداء شعائره وطقوسه. ويضطلع المسجد في الوقت الحديث بتنفيذ سياسة الدولة في مجال الشؤون الدينية الخاصة بالمسلمين. شيد مسجد نيوجيه عام 996 ميلادية بمزاوجة منسجمة بين فنون العمارة الصينية والطراز العربي الإسلامي ويقع في حي شوان دو جنوبي بكين مستمداً اسمه من الشارع الذي يقع عليه (نيوجيه) التي تعني “جادة البقرة”، وتشير الروايات إلى أن اسم الشارع يعود لكون المنطقة كانت تشتهر بذبح الأبقار لمقابلة الطلب المتزايد للمسلمين على اللحوم الحلال في ضوء تمسكهم بعدم تناول المنتجات الحيوانية الأخرى المعروضة في الأسواق. وتشير المخطوطات والمراجع إلى رجل دين عربي يدعى قوام الدين زار الصين وبرفقته ثلاثة من أبنائه هم صدر الدين وناصر الدين وسعد الدين وذلك في عهد حكم أسرة لياو، بغرض نشر الدعوة الإسلامية، عرض الامبراطور على الشيخ وأبنائه مناصب رفيعة في البلاط لكنهم أحجموا عن الوظيفة العمومية وآثروا التفرغ لخدمة الإسلام فسمح الحاكم لهم بتشييد مسجد ومنحهم ألقاب “أئمة مسلمين” تصدى الابن الأوسط ناصر الدين لبناء المسجد الذي كان متواضعاً في حجمه، لكنه شهد أعمال ترميم وتوسعات لم تنقطع إبان عهد الأباطرة وبعد قيام جمهورية الصين الشعبية كان آخرها عام 2005 بكلفة 25 مليون يوان على نفقة الحكومة الصينية. يشغل المسجد والمباني الملحقة به نحو 10 آلاف متر مربع تحتل المباني منها 4 آلاف متر مربع، وتغلب على واجهاته الخارجية ملامح العمارة الصينية من أفاريز مرتفعة وديكورات خشبية جميلة، ما يجعل منه يبدو للوهلة الأولى أشبه بالقصور الكلاسيكية المحلية لكنه يتميز بالزخارف الإسلامية الداخلية التي تحف بكل الجدران، تتألف قاعة الصلاة من ثلاثة إيوانات متوازية وخمسة فضاءات أخرى وتتسع لأكثر من ألف مصلٍ في وقت واحد خلال الأيام العادية، أما المحراب فقد تم سقفه بمقصورة سداسية تزين جدرانها نوافذ عليها زخارف إسلامية. هناك مقصورتان صخريتان أمام قاعة الصلاة إلى الجنوب والشمال يليهما منبر خشبي مطرز بخشب منحوت وتعلوه الزخارف، كما يشتمل المسجد على مقصورة خارجية تسمى “منارة” وتستخدم لرصد الأهلة وخاصة هلال شهر رمضان، هناك أيضاً قاعات عديدة ملحقة بمسجد نيوجيه للوضوء والغسل وتعليم مبادئ الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن، وقاعات مخصصة للنساء إضافة لأخرى خاصة بالمخطوطات والآثار الإسلامية الأخرى، يوجد بالركن الجنوبي الشرقي في باحة المسجد ضريحان صغيران عليهما نقوش تفيد أنهما يعودان لرجلي دين يدعيان الشيخ أحمد البرطاني القزويني المتوفى في 1280 والشيخ علي بن عماد الدين البخاري وتوفي عام 1283. ويفيد القائمون على أمر مسجد نيوجيه، أن الحكومة الصينية شيدت قاعتين خاصتين بمراسم الزفاف والجنازة للمسلمين الذين لهم أيضاً مقبرة خاصة بهم. تحيط بالمسجد المباني الشاهقة، لكن ما يلفت الانتباه، هو اكتظاظ المنطقة بالمحال التجارية التي تبيع الأطعمة والمواد الغذائية الحلال، ويوجد محل تجاري “سوبر ماركت” ضخم يحمل اسم الشارع نفسه وهو مدعوم من الحكومة الصينية ويوفر أكثر من 9 آلاف من أنواع الطعام الحلال، وذكر صاحبه أن مبيعات المحل تبلغ أكثر من 65 مليون يوان صيني في العام ويوفر وظائف لأكثر من 160 عاملاً. هناك دار للمسنين بالحي توفر الإقامة للعجزة المعوزين في غرفة مساحتها 20 متراً مربعاً لكل شخص ومجهزة بكافة ضرورات الحياة بما في ذلك مستشفى لعلاج المرضى من هذه الفئة التي تجري معاملتها كذوي احتياجات خاصة. تأثر مسجد نيوجيه بما حل بمحنة ما عرف بـ”الثورة الثقافية” وأغلقت أبوابه تماماً لكن الدولة الصينية أعادت له الاعتبار بإدراجه ضمن قائمة الآثار التاريخية الأكثر أهمية والمكفولة بالحماية الرسمية في يناير 1988 هذا الاعتراف والتقدير يعيد للأذهان مرسوماً أصدره أحد أباطرة الصين عام 1694 يقضي بعدم التعرض للمسلمين في البلاد ويحذر بتوقيع عقوبات قاسية ضد من يمسهم بسوء، وقد دون المرسوم في لوحة من بين المحفوظات في متحف المسجد. أربع دفعات من الحجاج الصينيين على نفقة صناديق خيرية إماراتية يكن الصينيون تقديراً واحتراماً خاصين لدولة الإمارات العربية المتحدة لمساهماتها الخيرية الضخمة وسخائها اللامحدود في القضايا الإنسانية عامة والاهتمام البالغ برفاهية الشعوب. كما لا يخفي عدد كبير منهم إعجابه بتجربة الإمارات التي أصبحت أنموذجاً مثالياً للانفتاح والتعايش والوئام الاجتماعي بين كافة الأعراق والجنسيات في العالم. يروي الحاج إبراهيم إمام مسجد نيوجيه أكبر وأقدم وأشهر مساجد بكين أنه حمل أمنية أداء فريضة الحج لسنوات طويلة لكنه عجز عن تحقيقها بسبب ضيق ذات اليد في ضوء الكلفة الباهظة والدخل المحدود. لم ييأس الحاج إبراهيم الى أن قيض الله الفرج على يد الصناديق الخيرية بالدولة. وكشف أنه أدى فريضة الحج مع 28 حاجاً صينياً عام 2008 بتمويل كامل من جمعية زايد للأعمال الخيرية، وعلمنا من الجمعية الإسلامية الصينية التي يندرج تحت مظلتها كافة التنظيمات الإسلامية في الصين، أن أربع دفعات تُعد كل واحدة منها حوالى 40 حاجاً، أدت فريضة الحج على حساب جمعية الشيخ زايد “طيب الله ثراه” ومؤسسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله الخيرية، وهيئة الهلال الأحمر الإماراتية، وجمعية دار البر بدبي، وجمعية الشارقة الخيرية. وأفادت الجمعية الإسلامية الصينية أنها هي التي تقوم باختيار الحجاج الذين يسافرون على نفقة الإمارات، مبينة أنهم يتلقون أيضاً إعانات مالية نقدية لمساعدتهم في شراء الأضاحي والهدي. التنين .. رمز القوة والنفوذ وإعادة التوحيد أسطورة التنين تشكل بعداً محورياً في المنظومة المفاهيمية في الإرث الثقافي الصيني، هذا الكائن الخرافي ما هو إلا مزيج من الخرافات أو الآلهة الزائفة ويتخذه الصينيون القدامى رمزاً للأسرة والعشيرة كونه مرادفاً للقوة والعنف والنفوذ والتكامل وإعادة التوحيد. وقد ساهم في بلورة كينونته وحضوره في وجدان الصينيين، زعماء العشائر في الحقب القديمة، مستمدين خصائصه وصفاته من أوثانهم القبلية “الطواطم”، ودورها المفترض في انتصاراتهم ضد القبائل المعادية. وكان قدماء الصينيين يعتقدون أن كائنات التنين تستوطن البحار وهي التي تجلب المطر والصواعق، وبطبيعة البلاد الجغرافية المترامية ومناخاتها المتنوعة التي رفدت سكانها بثروات زراعية لا حصر لها وفي ضوء الاعتقاد في تحكم التنين في هطول الأمطار، فالصينيون القدامى يعتبرون أنفسهم أحفاد وورثة هذا الكائن الخرافي العجيب. وعلى الرغم من مرور آلاف السنين، ما زالت أسطورة التنين تتمتع بنفوذ قوي في مخيلة ووعي الصينيين، الشاهد هنا تلك الأمواج المتعرجة التي يرسمها الأطفال والكبار في رقصاتهم واستعراضاتهم الضخمة ورياضاتهم المتعددة، مستلهمين حيوية كائنهم الرمز الذي لا يستقر أبداً في وضع مستقيم. هذه الروح المتمردة المتطلعة للارتقاء تم تجسيدها في مشروع حديث يحمل اسم سور الصين العظيم بانعطافاته الكثيرة الحادة وعلوه الشاهق وطوله البالغ عشرة آلاف كيلومتر، وهو يرمز إلى وعي الصينيين منذ القدم بتقنيات الدفاع عن أرض الأجداد ناهيك عن المسيرة العظيمة الكبرى التي قادها الزعيم المؤسس ماو تسي تونج للتحرير وصياغة الصين الجديدة عام 1949. وأطلق على هذا المشروع اسم “التنين الثاني”، وثمة مشروع آخر باسم التنين الثالث” يجسد العزيمة والتطلع إلى التكامل وإعادة التوحيد مستمد أيضاً من روح الحضارة الصينية الضاربة في القدم والتي تجسدها خصائص التنين، ففي عام 2002، بدأت السلطات الصينية في إنشاء أنوب حديدي قطره 1.016 متر ويتألف من 350 ألف قطعة حديدة ضخمة ويبلغ طوله 4.200 كلم وهي مسافة يستغرق قطعها مدة يومين نهار-ليل بالقطار. صمم هذا المشروع لنقل الغاز الطبيعي من حقول بغرب الصين، إلى أقاليم شرق البلاد. ولدى اكتماله عام 2007، أصبح الأنبوب يضخ 12 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. هذا الأنبوب الشبيه بتنين عملاق كامن تحت الأرض، يستبطن معاني أعمق من نقل الغاز وحفز الاقتصاد وحماية البيئة، بل يجسد شرياناً يشكل اللحمة الرابطة بين الأقاليم الغربية والشرقية. وهناك مشروع النهر الأصفر الذي ينظر إليه الصينيون بمثابة الأم التي فرّخت الأمة، تم تشييد هذا المشروع لتحويل مياه نهر يانجتيسي “YANGTZE” العملاق من الجنوب إلى الشمال “التنين الأول”، وهو يقسم الموارد المائية إلى الشرق والوسط والغرب انتهاءً بشمال البلاد الذي يعاني من شح المياه. إنها أسطورة تشحذ الهمم وتشكل حافزاً للارتقاء والتطور وقهر الصعاب، تطلعاً لأمة قوية وموحدة وليس ببعيد عن الأذهان استعادة هونج كونج وماكاو من بريطانيا والبرتغال. المدينة المحرمة في بكين المدينة المحرمة التي تعرف بـ “القرمزية” في كثير من الأحيان، كانت قصر الأباطرة الصينيين ومركز السلطة والنفوذ ويرجح أن صفة محرمة أسبغت عليها كون دخولها لم يكن متاحاً لعامة الناس. تقع المدينة التي تعد من أبرز المعالم الأثرية التاريخية في الصين، وسط العاصمة بكين وإلى الشمال من ميدان تيان مين “السلام السماوي” الشهير، ويحيط بها سور ضخم بارتفاع 10 أمتار ويقوم على دعامات ضخمة وأعمدة، وتنتصب في أركانه مقصورات أشبه بالتحف المعمارية مخصصة للحراسة، ويجري خارج السور، نهر اصطناعي يسمى “هو تشينج” عرضه 52 متراً وتم شقه لأغراض متصلة بالأمن والحماية. استغرق تشييد القصر 14 عاماً خلال الفترة 1406 إلى 1420 وهو من أضخم القصور القديمة في الصين والعالم حينذاك. تشغل المدينة المحرمة مساحة قدرها 720 ألف متر مربع وتمتد بطول 960 متراً من الشمال إلى الجنوب و750 متراً من الشرق إلى الغرب. وتشغل المباني حوالي 150 ألف متر مربع من مساحة المدينة وتتألف من 800 مبنى و8700 غرفة. حكم أباطرة أسرتي “مينج” و”تشينج” الامبراطورية الصينية من هذا القصر على مدى 500 عام وتعاقب على عرشه الذي كان يعرف بـ “النقاء السماوي” 42 إمبراطوراً، وتنقسم المدينة المحرمة إلى جزءين: وحدة أمامية مصممة لأغراض المراسم والمناسبات الضخمة ويوجد بها 3 أجنحة، ووحدة داخلية خاصة بالنشاط الإمبراطوري اليومي ويقيم فيها الحاكم وعائلته. يعكس القصر عظمة الإمبراطورية الصينية بما تعنيه من سلطة قوية وحياة بذخ فضلاً عن كونه يقف شاهداً على ما بلغه فن العمارة الصيني من رقي وتطور. استمرت المدينة المحرمة كمركز للسلطة وصناعة الأحداث إلى عام 1911 حينما أطاحت الثورة الإمبراطور يو بي آخر أباطرة أسرة تشينج لكن الثوار سمحوا له بالإقامة في الجزء الداخلي من القصر إلى أن تم طرده نهائياً عام 1924. فتح الجزء الأمامي من القصر أمام الجماهير عام 1914 ثم أتيح الجزء الداخلي لعامة الناس في 1925، وأطلق عليه اسم “متحف القصر الإمبراطوري”، ثم دمج الجزءان عام 1947 وحملا الاسم نفسه إلى الوقت الحالي. لم يفقد القصر حضوره وبريقه بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، بل أولت الحكومة بقيادة الحزب الشيوعي اهتماماً بالغاً بالمتحف وترصد له موازنة خاصة بالترميم في كل عام، ويحتوي المتحف الذي يختزن فن العمارة الصيني القديم والآثار الإمبراطورية، على نحو مليون تحفة وقطعة أثرية، ويعد من أكثر المناطق جذباً للسياحة في الصين. بحلول 1961، قضى قرار اتخذه مجلس الدولة الصيني، بجعل المدينة المحرمة وحدة أثرية محمية مهمة على مستوى البلاد فيما بادرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “يونسكو” بإدراجها ضمن قائمة التراث العالمي عام 187.
المصدر: بكين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©