الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حرب البلقان... والأبطال المنسيون

14 ابريل 2012
في مثل الأسبوع الماضي قبل عشرين عاماً أطلق القناصة الصرب النار على مجموعة من المتظاهرين العزل في عاصمة البوسنة سراييفو، ما تسبب في إطلاق موجة من العنف وصلت ذروتها خلال الحصار القاسي الذي تعرضت له المدينة وتفشي العنف الإثني في منطقة البلقان الذي بلغ مستويات غير مسبوقة، وبعد مرور عقدين من الزمن على تلك الأحداث المؤلمة التي خلفت الآلاف من القتلى تركز اهتمام الدارسين في مجمله على الأعمال الوحشية التي ارتكبت والعناصر التي تسببت في المعاناة وأججت حروب البلقان، وكان التبرير حسب هؤلاء أنه لابد من مواجهة أعمال الماضي، على رغم قسوتها، والوقوف على الحقيقة كخطوة أساسية لمواجهة العناصر المتورطة في العنف لمسؤولياتها ودفع الفصائل المتناحرة للاعتراف بأخطائها وحجم التجاوزات التي ارتكبت تحت قيادتها. لكن على هذا الاعتراف بجرائم الماضي ألا ينحصر فيما هو سلبي من أعمال يندى لها الجبين، بل لابد من أن تنسحب عملية التذكر أيضاً على مجموعة من الناس قاموا بأعمال بطولية خلال الحرب وتجرأوا على عبور خطوط التماس الإثنية والدينية وتجاوز الانقسامات والشروخ لمد يد المساعدة للآخر المختلف، وذلك على رغم الأخطار والتهديدات، وهؤلاء الأبطال المغمورون لم يكونوا قلة كما قد يعتقد البعض، بل هناك كثير منهم، حسب ما قالته لي "ناتاشا كانديك"، الناشطة الصربية في مجال حقوق الإنسان، عندما زرت منطقة البلقان قبل عدة سنوات، وإن كانت قد حذرتني من أن العثور عليهم اليوم، أو إقناع بعضهم بالحديث عن تجربتهم خلال الحرب ليسا بالأمر السهل. والسبب كما تبين لاحقاً أن عدداً من هؤلاء الأبطال الذين قاموا بدور مشرف خلال الحرب فقدوا حياتهم نتيجة لذلك، ومن بينهم "سيرجان أليكسيك"، الرجل الصربي المنحدر من بلدة "تريبنجي" الذي رأى في سنة 1993 رجلاً مسلماً يقتاده جندي صربي إلى مكان مجهول ربما لإعدامه، فما كان من "أليكسيك" سوى التدخل ومساعدة الرجل المسلم على الفرار. بيد أن هذا العمل الشجاع غير العادي كلفه غاليّاً، إذ سرعان ما تحلق حوله الجنود الصرب وراحوا يشبعونه ضرباً ويعتدون عليه إلى أن سقط على الأرض، وبعد نقله إلى المستشفى دخل في حالة غيبوبة فقد على إثرها حياته بعد وقت قصير. والمشكلة أن الرجل وهو يتعرض للضرب المبرح وقف الناس من حوله ينظرون دون أن يحركوا ساكناً وهم يتفرجون على ابن بلدتهم يتعرض لاعتداء مشين لا لشيء إلا أنه أنقذ مسلماً كان سيواجه الموت. وهذا العمل البطولي الذي كانت تكلفته باهظة لم يذهب هباء، فكما قال لي والد "أليكسيك" عندما زرت "تريبنجي" فما زال الرجل، الذي أنقذ ابنه حياته وهاجر إلى السويد بعد ذلك، يعود إلى البلدة كل سنة ليزوره ويقدم احترامه، وليس معروفاً ما إذا كان باقي الصرب الذين ما زالوا يفسرون الأحداث بمنطق قومي ضيق ينظرون إلى "أليكسيك" بالاحترام ذاته، ولاسيما أنه كان شاهداً على وحشية الصرب خلال الحرب وتحول هو نفسه إلى ضحية لهذه الحرب بعدما وقف مواطنوه يتفرجون عليه وهو يتعرض للضرب حتى الموت. وبعد قصة "أليكسيك" التقيت أيضاً خلال زيارتي للبلقان أناساً آخرين حالفهم الحظ بالبقاء على قيد الحياة والحديث عن تجاربهم التي كلفتهم التهميش الاجتماعي، وهو ما أصبح عليه حال ألكسندر جيفتيك، الصربي، الذي كُلف في عام 1991 من قبل ضابط صربي بتفريق السجناء الكروات عن نظرائهم الصرب في معسكر للاعتقال تفاديّاً لأية معاملة سيئة قد يتعرض لها الصرب، ولكن ألكسندر ضم المئات من الكروات على أنهم صرب بعدما أعطاهم أسماء صربية لأن العديد منهم ينتمون إلى بلدته "فوكوفار". وبالنظر إلى عمله البطولي ربما اعتقد البعض أنه سيتلقى معاملة الأبطال في بلدته، على الأقل من الكروات الذين أنقذهم، ولكن كما اكتشفت لدى زيارتي للبلدة في 2008 لم يكن هذا حاله، ففي الرواية الرسمية للحرب المعتمدة من قبل الكروات كان الصرب قتلة مسؤولين عن قصف البلدة وتدميرها، وكان العديد من الكروات في "فوكوفار" يتعاملون مع ألكسندر معاملة سيئة لأنه صربي لا يندرج في خانة الشرير، بل حتى بين أبناء إثنيته من الصرب لم يعد ألكسندر يشعر بالارتياح لأنه في نظرهم ساعد العدو حتى بعد انقضاء سنوات على الحرب. ولكن في منطقة مثل البلقان ما زالت تنخرها الانقسامات وتتضارب فيها الروايات القومية والتاريخية للحرب ليس غريباً ألا يُعترف بالأشخاص الذين تجرأوا على تجاوز الخطوط الإثنية لمساعدة الآخرين في الحرب، والأمر لا يقتصر هنا على منطقة البلقان وحدها، بل يمتد أيضاً إلى مناطق أخرى مثلما أوضح ذلك المؤرخ "جان جروس" الذي لاحظ أن البولنديين الذين آووا اليهود خلال الحرب العالمية الثانية غالباً ما عانوا لاحقاً من إقصاء جيرانهم لأن وجودهم كان بمثابة وخزة الضمير المستمرة التي تذكرهم بما ارتكبوه في الماضي. وكان من السهل على البولنديين النظر إلى اليهود باعتبارهم الأشخاص الذين ساعدوا الاتحاد السوفييتي على غزو بلادهم، وبالتالي لا يستحقون الحماية. أما بالنسبة لألكسندر فلم يكن مهمّاً حصوله على الاعتراف والتقدير حتى بعدما اقترح اسمه لنيل ميدالية على شجاعته وإنقاذه للكروات، ومع ذلك فليس الاعتراف هنا مرتبطاً بشخص معين بقدر ما هو مرتبط بالصراع الدموي الذي خيم على المنطقة في الماضي، وبالرغبة النفسية الدفينة لدى الرجال والنساء الذين أنقذ ألكسندر حياتهم في طي صفحة الماضي. إيال بريس صحفي أميركي مهتم بشؤون البلقان ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©