الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قناص المعنى

قناص المعنى
15 ابريل 2015 22:07
انطلاقاً من خبرته التطبيقية حيث كان يدرس في المدرسة الصناعية القديمة بالشارقة في أواخر الستينيات؛ وابتداءً من أواسط الثمانينيات كان الفنان الإماراتي النحّات محمد عبدالله بو لحيه يُنتج أعماله من فن النحت مصحوباً برغبةٍ كبيرة في تجسيدِ أفكاره المتنوّعة في تكويناتٍ ثلاثية الأبعاد، تلك الأفكار التي نجدها جاهزة التصوّر لديه منذ البداية، فكل ما ينقصها هو تجسيدها في عملٍ فنّي نحتي. يؤكّدُ هذا ما خبرتهُ أنا شخصياً من عدم وجود احتمالات لدى الفنان محمد بو لحيه لتغيير ملامح التكوين في أثناء العمل، فذهنه غالباً ما يكون قد اكتفى بحدود الفكرة وحدود تجسيدها منذ البداية، وخبرتي به أتت من طول مرافقتي له في أواخر الثمانينيات وحضوري معه أثناء إنتاج بعض أعماله في فناء بيته. رمزية ذكية في سياقٍ قريب نجدُ سِمَة المباشرة لأفكار الفنان حاضرة في أشكال منحوتاته، لكنه يُغلّفها برمزيةٍ ذكية تُحافظ على روح الإنتاج الفني، كما أنّ لأعماله مظهراً بدائياً فطرياً لا يمكن إنكاره. مع ذلك لا يسعني انتقادُ وردُّ المباشرة في أعماله لمجرّد كونها «مباشرة» غير مستحبة لدى الكثير من النقّاد ومتذوّقي الفنون الذين يرغبون الرغبة الشديدة في الأعمال الفنية غير المباشرة التي تنطق بالاحتمالات والرمزية؛ أي «تُلمّح ولا تُصرّح»، فأنا مع المباشرة إذا كان الفنان أو موضوعُ الفنان / تكوينُ الفنان يحتاج إليها، فالمباشرة والوضوح فضيلتان حال الاحتياج إليهما، كما أنهما أقربُ وصولاً إلى المراد والمبتغى، وما الفن في بعض صُوَره وأسراره سوى الوصول إلى المبتغى. أما موضوعات أعماله فتتوزّع بين الأمثولات (الأيقونات) المَحليّة، والقضايا الإنسانية العامة، وقد تتداخل هذه في تلك، فكثيراً ما نجد الألفة الإنسانية في التكوينات ثنائية التشخيص لديه، والثنائية هي رمز التزاوج، والتعايش، والأمومة، والأبوّة، والاندماج، والاختلاف الإيجابي وغير ذلك، كما أنها من جهةٍ أخرى رمزٌ للتناقض أو التضاد، كالنور والظلام، الخير والشر، القوة والضعف، وهكذا. كما نجد في أعماله التقارب بين الإنسان والآلة، والتجسيد الرمزي لأشياء الماضي في الإمارات والمنطقة عموماً كالقوارب والمجاديف، كما نجد بعض التصوير النحتي الطريف لبعض مخلوقات البيئة المحلية، ويدعم حضورَ هذه الأعمال إنتاجُها بمواد بيئية محلية، أو مواد صناعية كانت وما زالت تستخدم محلياً، وهذا اقترابٌ في المضمون والشكل من المُشاهِد المَحلّي بصفةٍ خاصة. تمرحلات في منحوتاته التي أنتجها في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي لم يكن الفنان محمد بو لحيه يهتم كثيراً - في اعتقادي الشخصي- بمدى تأثير أعماله في الفراغ المُحيط بها، هذا التأثير الذي هو ميزة فن النحت في الأساس، فقد كان الأهم من ذلك بالنسبة إليه فيما كان يظهر لي هو أن تُعبّر المنحوتة؛ بل أن تُجسّد فكرةً معينةً في ذهنه. وربما جاء ذلك على حساب جَماليّة الحجم التي تُستخلص من تأثيرِ حجمٍ ما في الفضاء أو الفراغ المُحيط، وهو مبدأ الجَمال في النحت، فنجد الفنان بو لحيه يهتم ببعض التفاصيل التي من شأنها أن يقرأها المشاهدُ بسهولة، والتي توصّل فكرة الفنان المقصودة من وراء العمل بكل وضوح. لكن هذا الأمر قد جعل من بعض أعماله الأولى منحوتاتٍ قاصرة الدلالة على مضمونها الحاضر. بعبارةٍ أخرى؛ لم يكن لتلك المنحوتات احتمالاتٌ تعبيريةٌ تسمح بتلقّي ودراسة مقترحاتٍ جَمالية جديدة، فقد كان الاكتفاء بتجسيد الأفكار كما هي في الذهن طاغياً على أعمال الفنان في تلك الفترة. ومنذ أواسط التسعينيات، ومع كثرة اطلاع الفنان محمد بو لحيه على أعمال النحت في المعارض، والمشاركة في ملتقيات النحت داخل وخارج الدولة؛ اكتسبت أعمال الفنان ميزاتٍ جعلتها أكثر تطوراً وتأثيراً، فنرى أن تأثيرات المدرسة التجريدية التعبيرية في النحت قد وجدت طريقها إلى أعماله، وهي المدرسة التي سلكت سبيل التخفيف من (النحتيّـة) في منحوتاتها حيث تقلّص الفارقُ الجوهري بين اللوحة والمنحوتة، فقد تم التحرر من الكتلة أو ثِقل الحجم، بل ومن الكثير من قيود النحت المعهودة، وذلك باستعمال الفولاذ أو الصلب الملحوم والصفائح المعدنية الرقيقة في إنتاج النحت، وذلك كأعمال الفنان الأميركي دافيد سميث على سبيل المثال. وانطلاقاً من هذا التأثير توسّع الفنان الإماراتي النحّات محمد بو لحيه في تقنية المعدن الملحوم في إنتاج الكثير من أعماله المتأخرة، وقد ساعده في هذه التقنية دراسته الصناعية السابقة، وشهدت هذه الأعمال بالذات تطوراً هاماً شهد به النقّاد والمهتمّون بالفن التشكيلي، ومنهم د. محمود شاهين الذي قال إن الفنان في تلك الأعمال: «حقق الوضعية النحتية المتكاملة الخصائص والمقوّمات الفنية بأقل ما يمكن من العناصر والمفردات، وفق رؤية فنية حداثية تنم عن خبرة متراكمة نهضت في الأساس على موهبة». ولم يكتف محمد بو لحيه في معالجته الجديدة للعلاقة بين الحجم والفراغ في هذه الأعمال بجعل الأطراف المعدنية لأعماله الملحومة مؤثرة في الفراغ بتكويناتها ثنائية التشخيص؛ بل قام أيضاً بتقييد الفراغ ضمن قضبانه الحديدية الملحومة، وهذا الفراغ هو بذاته وفي الوقت نفسه حجمٌ مُتَخَيَّل، فكأنّ أطراف أعماله هي خطوطٌ نحتية أوهى وأضعف من الفراغ المُحيط؛ إلا أنها تحتويه وتسيطر عليه لتجعل منه حجماً بذاته. ومن العجيب أن نجد الفنان يقوم بعكس هذه التقنية في تعامله مع مادة الرخام وما شابه من مواد صخرية ليصل إلى النتيجة ذاتها، ففي بعض أعماله الرخامية نجده يكتفي بصنع بعض الحزوز في قطعة الرخام ليصل بها إلى مبتغاه التكويني. هذه الحزوز الخفيفة اللطيفة تشبهُ تلك الأطرافَ المعدنية التي تحوز الفراغ في أعماله المعدنية الملحومة، لكنّ هذه الحزوز هنا هي الفراغ، أي؛ هي تفريغات تحوز الحجم، وتُقيّده لتعطيه المعنى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©