الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«شيفرة المصدر» حين يتزوج العقل من المخيلة لينجبا الدهشة

«شيفرة المصدر» حين يتزوج العقل من المخيلة لينجبا الدهشة
18 ابريل 2011 20:12
يمكن للسينما أن تكون عالماً غرائبياً بامتياز، ويحق لها، أحياناً يتوجب عليها، أن تفاجئ مشاهديها بما لا يتوقعونه، طبعاً من الضروري أن يكون الإدهاش مستنداً إلى وسائل إقناع هي بعض الأساليب الإبداعية التي يتوسلها القيمون على العمل السينمائي، لكن ذلك لا يتعارض بالضرورة مع محفزات التواطؤ التي يوظفها فيلم ما لجذب المشاهد نحوه، ويدفعه عن طوع ملتبس نحو التخلي عن بعض المسلمات المنهجية التي صاغت وعيه المعرفي، ليدفعه صوب الانجراف في متاهة عقلية مستفزة. يرابط فيلم “شيفرة المصدر” للمخرج دونكان جونز، بطولة جاك جيلنهال، فيرا فارمينجا، وميشال مونوجان، على هذه التخوم الفاصلة بين الخيال والعقل، يتأرجح بين هذين القطبين مائلاً إلى أحدها ثم منكفئا نحو الآخر، وذلك عبر تقديم حكاية غريبة للنقيب الطيار كولتر ستيفنز (جاك جيلنهال) الذي يخضع لتداعيات برنامج علمي أقرته الحكومة الأميركية بهدف تعقب منفذي الجرائم الإرهابية. البرنامج يعتمد على إحداث مواءمة بين شخصين، بحيث يتمكن الأول من الإندماج كلياً في الآخر، يدخل في أعماق شخصيته، يرى بعينيه، يكتسب ملامحه نفسها في عيون الآخرين، يستفيد من ملكاته العقلية، على أن تبقى له مشاعره نفسها، واستناداً إلى نظرية مفادها أن الإنسان عندما يموت يبقى لفترة ثماني دقائق محافظاً على تواصله مع العالم الخارجي، فقد سعى البرنامج لإحداث حالة تطابق بين كولتر وبين أحد الركاب الذين كانوا يستقلون قطاراً تعرض لعملية تفجير أودت بكل من فيه، والهدف. كما بات واضحاً، هو الاستفادة من الدقائق الثماني الأخيرة للتعرف إلى الإرهابي منفذ عملية التفجير، وذلك إثر ورود معلومات تفيد بأنه يحمل قنبلة نووية، وهو ينوي تفجيرها في مدينة شيكاغو. عالم آخر! في البداية نقع على ستيفنز يتحاور عبر شاشة مرئية مع سيدة، سنعلم تواً أنها نقيب في الجيش الأميركي تدعى كولين جودين (فيرا فارميجا)، الأمر لا يبدو غريباً في عالم التواصل الافتراضي السائد راهناً، فقد أصبح مألوفاً أن يتواصل الناس عبر السطوح البلورية، ولكن ذلك يؤشر عادة إلى مسافات شاسعة تفصل بينهم. المفارقة في حالتنا هذه أن الشخصين المتحاورين هما شديدا القرب لناحية المكان، لكنهما بالغا النأي في الواقع، النقيب الطيار ستفينز تعرض لحادث جوي أسقط طائرته لدى تنفيذه مهمة في أفغانستان، وهو يرقد غائباً عن الوعي في أحد المراكز العلمية التابعة للجيش الأميركي. أما التخاطب عبر الشاشة فيتم اعتماداً على البرنامج المشار إليه، ومن خلال أجهزة فائقة الدقة جرى توصيلها إلى جزء من دماغه ظل سليماً بعد حادث تحطم الطائرة. بقايا دماغ هذا الدماغ المتشظي كان بوسـعه حمل ستفينز إلى القطار المقبل على التفجير لمدة ثماني دقائق، وكان يمكنه بالتعاون مع البرنامج المتطور أن يجعله يجول في أروقة القطار باحثاً عن المتفجــرة، وأن يدفعه للتدقيق في ملامح الناس بحثاً عن الجاني، كل ذلك كان من عمل برنامج إلكتروني وبقـايا عقل آدمي. أما التعلق العاطــفي الذي انتاب ســتفينز فجأة حيال كريسـتينا (ميشال مونوجان)، وهي إحدى المســافرات في القطار، فهو على الأرجح شــأن قلب عنيد ظل ينبض هامسـاً في صـدر رجـل أضحى أقـرب إلى الحطام البشري. تباين في التشابه نحن أمام شخصية رئيسية ملتبسة، هي نفسها لا تعلم ما إذا كانت ميتة أم أنها على قيد الحياة، ونحن أيضاً أمام مشهد يتكرر كل ثماني دقائق، هي الفترة التي يكون بوسع ستفينز خلالها الاستفادة من البقايا المشهدية العالقة في ذهن راكب القطار الذي تقمص شخصيته، لكننا أيضاً أمام إبداع إخراجي مارسه مخرج الفيلم، دونكان جونز، حيث أمكنه تضمين كل مشهد من المشاهد المتكررة جرعة من المفاجأة التي تبرر الإصغاء التام لتفاصيل تبدو متشابهة ظاهرياً إلا أنها حقيقة في غاية الاختلاف. واقع مفترض كشأن أفلام الخيال العلمي عادة يطرح الفيلم أسئلة إشكالية معقدة، خاصة أن قضيته تقع على الحدود الفاصلة بين العقل والعاطفة والدين أيضاً، وهنا يجد المشاهد نفسه حائراً بين الانسجام مع الهذيان السردي الذي تقترحه عليه الأحداث المتواترة، أو الدخول في محاكمة عقلانية لا يمكن للفيلم أن يصمد أمامها، لعله من المفيد له هنا أن يتذكر أنه أمام مقترح إبداعي له أن يصوغ واقعه الخاص، دون أن يكون بالضرورة واقعاً موازياً قابلاً للتعميم. موت متكرر متكئاً على شذرات عقل، وعلى براعة برنامج حاسوبي، يخوض ســتفينز مغامراته واحـدة تلو الأخرى، وكما هو متوقع فلا بد له في ختام كل فقرة مكونة من ثماني دقائق أن ينتهي به الأمر متفجراً في قطار الموت، هو يموت افتراضياً عدداً هائلاً من المرات، بينما هو في الحقيقة (أية حقيقة) شبه ميت في سريره المركون في أحد المراكز العلمية، التجربة الحقيقية تكمن في العقل إذن، هذا بعض ما يبوح به الفيلم الغرائبي، أما الجسد فمجرد آلة مطواعة تنفذ أوامر القائد، وعندما تعوزها القدرة الفيزيائية على التنفيذ يسعها الاكتفاء بما تتيحه المخيلة من محاكاة للفعل، وإن بلا فعل حقيقي.. يدخل القطار تحت هوية مستعارة لرجل قضى فيه قبل دقائق، وهناك تطالعه كريستينا الفتاة الطامحة لممارسة الرياضة الروحية في الهند، يتفرس ملياً في ملامح الركاب: أيهما الفاعل؟! من هو الشخص المتواجد هنا بين الآخرين، والذي سيكون بعد لحظات قليلة قاتلاً لهؤلاء الآخرين؟ فكاهة الحزن تقوده ظنونه نحو أوهام شتى: يكفي الارتباك الذي تشي به قسمات أحدهم ليضعه في دائرة الشك، ولأن الوقت لا يسمح فليس ثمة ما يمنع أن يتحول به سريعاً نحو الاتهام الصريح، مواقف شتى تنطوي على الكثير من الفكاهة، حتى مع وجود المأساة بوسع الموقف أن ينطوي على قدر من الفكاهة، أي أن العبث متاح حتى في حضرة الموت الذي عرف عنه أنه العابث الأكبر. ضحايا كثر يتعرضون لشكوك كولتر، ويكون على كل منهم أن يدفع ضريبة تلك الشكوك عببر لكمات موجعة يتلقاها منه، وفي النهاية لا يجد الرجل نفسه مطالباً بالاعتذار، فالأمر لا يتعدى حدود الهذيان يمارسه بعض الموتى مع بعضهم، لكنه هذيان يتوقف عليه أن لا يتحول آخرون خلال فترة قريبة إلى مجموعة من الأموات أيضاً. للمستقبل فقط تجارب متعددة تثمر في المرحلة الأولى عن اكتشاف موقع المتفجرة، يشعر ستفينز بفرح خفي: فهو بإمكانه إنقاذ القطار، وإنقاذ كريستينا أيضا التي بات يشعر حيالها بإحساس ممتع، لكن النقيب جودين التي يعود للتحدث معها بعد كل غزوة للقطار، تخبره أن ما حصل قد حصل، وأنه ليس بإمكانه تغيير الواقع بعد أن صار في ذمة الماضي، إلا أنه بوسعه التعامل مع اللحظات القادمة إذا هو تمكن من تحصيل معلومات ملائمة بشأنها، وبأوضح لن يكون له أن ينقذ القطار وركابه الذين أصبحوا ركاماً، كل ما يستطيعه هو تحديد هوية الجاني حتى لا يتمكن من تفجير القنبلة النووية التي يحملها. البطل الغائب محاولات يائسة يبذلها كولتر تقوده في المحصلة إلى ملاحظة أحد الركاب الذي يتعمد التخلي عن أوراقه الثبوتية في القطار لدى مغادرته له في إحدى المحطات، الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التفكير، فالجاني يسعى لارتكاب الجريمة الكاملة عبر الإيحاء أنه قضى مع الركاب، وذلك ليتسنى له تفجير القنبلة النووية. لا يجد كولتز صعوبة في إبلاغ النقيب جودين بهوية الجاني ليصار إلى القبض عليه وسط احتفاء إعلامي صارخ، وفي ظل غياب مؤثر لصاحب الإنجاز الفعلي، حيث يكون فاقداً للوعي في المركز الحكومي.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©