الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الولادة

الولادة
4 سبتمبر 2008 02:22
الأم وحدها تعرف المعنى الحقيقي للحظة الولادة، وحدها تعرف معنى هذه اللحظة ومدى الألم الذي يفطر القلب ويدمع العين التي تحدق في هذا المشهد المبجل والعظيم، حيث يتجلى فيه شيء من قدرة الخالق· فهذه اللحظة برغم ألمها، إلا أنها تنتهي في معظم الحالات بفرح لا يزاهيه أي شيء في الكون بالنسبة للأم وهي ترى جنينها يخرج إلى الحياة معافى بعد كل شهور الاعتناء والترقب والقلق·· ويكحل عيونها بالفرح · شيء من هذا يحدث للمبدع أيضا في لحظة إنجاز العمل، واللحظة التي يتقرر فيها النجاح التام لولادة العمل· فما بين ولادة الأم وولادة المبدع خيط رفيع تتشابه فيه مسيرة الحمل ولحظة الولادة، مع شيء من الاختلاف، حيث ترصد الأم حملها في البطن على مدى تسعة اشهر، فيما يرصد المبدع حمله في الرأس يوماً أو شهراً أو سنة، لكن الإبداع الحقيقي لا يُرصد خلال فترة قصيرة، فالمساحة الزمنية التي يجب أن يمر فيها المنتج داخل عقل المبدع منذ إرهاصاته الأولى، تحتاج دائما إلى الكثير من التحضير للولادة، مثل البحث والتأمل والقراءات الكثيرة، و تهيئ الظروف الملائمة للإنجاز وهذه الأمور تعمل عملها في إزكاء المزيد من القلق والشك والتردد لدى المبدع· يكتب الشاعر الكثير من القصائد، الكثير من المقاطع في الكثير من الورق ولكنه يأتي في مسيرة الإنجاز، إلى شطب وتقطيع الكثير من الأوراق وإزاحة الكثير من الجمل والمقاطع وذلك حرصا على أن يكون الجنين قادرا على التنفس، يستطيع أن يشاغب وان يستفز ويحرض خيال المتلقي على التمادي في التعامل معه بجمال· في الرواية أيضا يكتب الروائي الكثير من السرد من المواقف والحكايات من الجمل ولكنه أيضا في لحظة ما قبل الولادة يأتي ليعيد الكتابة ويشطب ما نما من شوائب على أطراف السرد يمكن أن تشوه العمل أو ترهل الفكرة، في الكتابة الروائية يحتاج دائما الروائي إلى ضبط العاطفة وإدارة إيقاع الولادة بحزم وقسوة أحيانا على نفسه· التشكيلي أيضا لا يلد منجزه الإبداعي بضربة فرشاة واحدة، بل يمر في قلق وخوف وتردد وسهر وألم أحيانا، يُعيد ترتيب الألوان يلمسها يحسها يشمها ويتمادى مع البياض على سطح اللوحة حتى أن يضع منجزه وتصير اللوحة مدعاة لبهجة العين· كذلك الموسيقي والقاص والمسرحي والسينمائي وغيرهم من المبدعين يمرون في حالات الحمل هذه بكل توتراتها وقلقها وشغفها إلى أن يولد العمل ويتحقق للمتلقي· وهناك ولادة إبداعية لا تستغرق سوى يوم أو ساعة، ولكنها ولادة نادرة جدا لا تتحقق للمبدع إلا في حالات صفاء غير اعتيادية· وعلى المبدع أن يعتني كثيرا بهذه الفترة الزمنية ما بين حمل الفكرة وولادتها بين التكون الإبداعي وإنجازه، أن يكون الحرص حاضرا على الدوام بأن يكون المولود ناصعا كالكريستال وقويا كأسد وشغوفا كفراشة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©