الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبو حنيفة لا يملي رأيه الفقهي وإنما يسجل حصيلة النقاش مع تلاميذه

5 سبتمبر 2008 01:16
تفرد فقه ''أبو حنيفة النُعمان''، رأس المذهب الحنفي، بمنهج جديد يقوم على النقاش بينه وبين تلاميذه حول المسائل الفقهية، فلم يمل رأيه الفقهي، وإنما أمر بتسجيل حصيلة النقاش وما اتفقوا عليه، فأضحت مؤلفات هؤلاء التلاميذ، كما ورد في كتاب ''الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية''، لمحيي الدين عبدالقادر، وحققه عبدالفتاح الحلو، الأصول المعتمدة لهذا المذهب الفقهي الذي بات المذهب المعتمد في العديد من البلدان العربية· ويعتبر فقهه أحد أربعة مذاهب رئيسية لدى أئمة السنة، وأكثرها أخذاً بالاجتهاد وإعمال العقل في الأحوال الدينية المتغيرة والدنيوية أيضاً· ويشبه أبو حنيفة سقراط، في نقاشه مع تلاميذه، فيما تتشابه سيرته إلى حد كبير مع أحد أعظم الأئمة في الأمصار، خارج الجزيرة العربية، الإمام المصري الجليل الليث بن سعد، الذي وصف بأعلم أهل الأرض في زمانه، فكلاهما كانا من شريحة الموالي، جذورهما غير عربية، ولكنهما نبغا في العلم واللغة· وسلك أبو حنيفة في القرآن مسلك كل الأئمة، وانحصر الاختلاف بينهم، على قلته، في فهم مدلوله وطرق الاستنباط منه· أما في الحديث فكان يتشدد في قبوله، ويتحرى عنه وعن رجاله حتى تثبت له صحته· فكان كما ورد في كتاب وهبي سليمان ''أبو حنيفة النعمان وأمام الأئمة والفقهاء'' أنه لا يقبل الخبر عن رسول الله، إلا إذا روته جماعة عن جماعة، أو كان خبراً اتفق فقهاء الأمصار على العمل به· قال يحيى بن نصير: ''سمعت أبا حنيفة يقول: عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع الناس به''· أما ما لم يكن فيه أثر كتاب ولا أثر لحديث صحيح، فليس أمام المجتهد إلا القياس والاستحسان وإعمال العقل· وقد كان رضي الله عنه يُعمل العقل، إذا رُوي في المسألة الواحدة قولان أو أكثر للصحابة، فيختار أعدلهما وأقربهما إلى الأصول العامة، ولا يعتد بأقوال التابعين إلا إذا اتفقت مع العقل· وقال في ذلك قولته المأثورة: ''إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا''· ولذا لم يختلف الناس على رجل كما اختلفت آراؤهم في أبي حنيفة، فقد غالى البعض في تقديره، حتى زعم أنه أوتي الحكمة كلها، وأنه يتلقى علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يشبه الرؤيا، كما يقول محمد أبو زهرة في كتابه ''أبو حنيفة حياته وعصره''، واشتط الآخرون في كراهيته حتى اتهموه بالمروق عن الدين· وكان هذا التطرف في الأحكام المتناقضة هو طابع العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة، وهو في الوقت نفسه نتيجة سلوك الإمام نفسه سيرته واقتحاماته الفكرية الجسورة· ذلك أنه كان يدعو إلى الأخذ بالرأي ولا يبالي في رأيه بأحد· وكان عارفاً بأحوال الحياة، مستوعباً كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه، خبيراً بالرجال، وشديداً على أهل الباطل، ومرير السخرية بالمزيفين، ولاذعاً مع المنافقين من متعاطي الفقه والعلم والثقافة في عصره· وكان خصومه صنفين: أولهما، بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم إلى حلقة أبي حنيفة مدعاة للحنق منه· وثانيهما، ولاة الأمر والحكام الذين نصبوا أنفسهم، ليس حكاماً على المسلمين فحسب، بل وأيضاً أوصياء عليهم في الدين· ولهذا شنع المحدثون عليه، وقالوا ''إنه ينكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدم عليه رأيه، وما رأينا أجرأ على رسول الله منه''· وقد أحصوا عليه أنه أفتي بنحو 200 مسألة خالف فيها الحديث، ومنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ''للفرس سهمان وللرجل سهم''، فقال أبو حنيفة: ''أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم مؤمن''· وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، فقال أبو حنيفة: ''القرعة قمار''· إلى آخره· ودافع أنصاره عنه إذ اتهمه المحدّثون باتّباع الهوى، فقالوا: ''ثمة فرق كبير بين اتّباع الهوى واستعمال العقل، بعد بذل الجهد· فاتّباع الهوى هو الميل إلى الرأي لتحصيل مصلحة خاصة من مال أو جاه· أما الرأي بمعنى بذل الجهد ثم الوصول بعد ذلك إلى ما يعتقده الحق، فليس من الهوى في شيء·'' ولم يكن خلافه الأخير مع أحد الخلفاء العباسيين، حول ولاية القضاء، إلا آخر معاركه مع أهل الدنيا، إذ أدخل بعدها السجن وظل يضرب بالسياط، وهو الشيخ ذو السبعين عاماً، فلم يتحمل ومات في سجنه· ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©