الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الكتابة البيضاء

21 يونيو 2010 21:08
لماذا لم يقم كاتب عربي بإنجاز كتابة مشابهة لما أنجزه الأديب الداغساتني رسول حمزاتوف في كتابه “داغستان بلدي”؟ سؤال يحمل إيحاءات وفرضيات ألقاها في مرماي الصديق الروائي زياد أحمد محافظة، الذي أصدر مؤخراً روايته المهمة “بالأمس .. كنت هناك”، وحدد فيما بعد الكتاب الفلسطينيين على وجه الدقة، وأقدم للأخ زياد رأيي المتواضع؛ أن الكتابة عن فلسطين اتسمت بمراحل ثلاث، الأولى: الندب على ما ضاع، الثانية: الصراخ لاستعادة ما ضاع، الثالثة: هجاء من لم يستطيعوا الحفاظ على مستوى الندب، ومستوى الصراخ، واستعادة ما ضاع، وهذا الهجاء أخذ مستويات عديدة، ليس من بينها التأمل، وكنت أعتقد أن سميح القاسم سينجز شيئاً مشابهاً، بصفته ظل يعيش في فلسطين ولم يغادرها، لكنه ظل يصرخ، واعتقدت أن درويش العظيم قد ينجز شيئاً مماثلاً، لكنه ظل يتأمل عن بعد، ورحل متأملاً.. وحده الأديب الكبير الراحل جبرا إبراهيم جبرا، رصد بعضاً من عشقه في كتابه “البئر الأولى”، وقد نهج طريقة الشعراء الرومانسيين في استدعائهم للطفولة وجمالياتها، فمسألة استدعاء الماضي ولاسيّما الطفولة قضّت مضاجع الرومانسيين الإنجليز أمثال “ووردزث ويرث وكولوريدج” وغيرهما، ولم يتمكنا من إنجاز ما سعيا لأجله وتمحور حول استعادة جوهر الطفولة بكل براءتها وأخطائها، وليس استدعاء الطفولة بعقلية الرجل الحكيم، وهناك فرق بالطبع بين البراءة والحكمة. الكتابة الداغستانية أو الحمزاتوفية هي كتابة تصب في المنحى الرومانسي؛ التعامل مع المكان بطفولية عالية، أي ببياض ناصع لا تشوبه شائبة، وبذاكرة لا يتخللها الدم، ولا يلوثها البارود، هي كتابة كصفاء قلب زهرة الغاردينيا، وهي تتفتح في موسمها الشهي، وفي معانقتها للصباح وحوارها مع المساء، هي كتابة لا ينجح فيها الغريب والمهاجر والسجين، هي كتابة بقلم مصنوع من خشب جذوع أشجار الليمون في الحديقة، قام الكاتب بزرعها وريّها ورعايتها واحتضانها بعينيه وقلبه طيلة الوقت، وهي كتابة تعشق التاريخ والتراث وشخوصه، ولم تتأثر بكراهية الطغاة لبلادهم وتقديسهم لبشاعتهم، وتدنيسهم لأحلام التراب. ما ينطبق على الكاتب الفلسطيني ينطبق على الكاتب العربي، لماذا لم يقم أي كاتب أو شاعر عربي بإنجاز مثل هذا المشروع، ولماذا يلجؤون بدلا من ذلك إلى محاكاة الفجيعة الواقعة والمفترضة، الحالية والقادمة، فإن لم يجدوا فجائع اخترعوها، وإن لم تهجرهم الحبيبة هجروها، كي يدخلوا في جلد قاس للذات، قد يكون سمة من سمات الأدب العربي الحديث، ولا تمييز هنا بين شاعر من دولة غنية وأخرى فقيرة.. صحيح أن الكتابة البيضاء في حاجة إلى سماء بيضاء، إلا أن على المبدع اجتراح هذه السماء إن لم يجدها.. akhattib@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©