الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مالك الرواية الحزين» .. سلاماً

«مالك الرواية الحزين» .. سلاماً
12 يناير 2012
“أياً كانت نتائج ما يحدث حالياً، فأنا ممتلئ بالفرح لأنني لم أرحل قبل أن أشهد أبناء مصر وهم يقدمون للعالم بطاقة تعريف جديدة لهذا الوطن”.. “إبراهيم أصلان خلال الأيام الأولى من ثورة يناير” بهذه الوداعة والطاقة الروحية العظيمة التي كان يبثها في نفوس قرائه وأبنائه ومحبيه في مصر والعالم العربي، لخص المبدع النقي إبراهيم أصلان وقائع الربيع العربي الذي فج على ربوع العالم في مطالع 2011، وبالأخص في مصر، ووجه عصارة روحه وإبداعه طوال عمر من الإنسانية الرحبة الرهيفة والإبداع الصافي المقطر إلى دنيا البشر، من خلال كلماته التي رثى بها نفسه راضيا وادعا حالما بمستقبل أفضل لوطنه وأبناء وطنه، بعد أن عايش الثورة وشاهدها واطمأن على أن الأمل ما زال باقيا. قبل أن يرحل عن عالمنا في صبيحة يوم السبت، السابع من يناير 2012، ليلحق بصديقه الراحل خيري شلبي، الذي توفي قبله بأربعة أشهر، وكأنما أبى أصلان أن تطول مدة فراقه لرفيقه وصاحبه أكثر من هذا، ليغادرا معا ترافقهما ابتسامة عذبة رغم عذاب الرحلة وآلامها، “علق ابن الراحل الكبير خيري شلبي على هذه العلاقة الروحية الخاصة بقوله: “كنت أعلم أن خيري شلبي وإبراهيم أصلان مرتبطان روحيا، ولكني لم أعلم أنهما وصلا إلى تلك المرحلة”. رحل إبراهيم أصلان بعد عام كامل من إطلاقه كلماته النورانية، وبعد 77 عاما من حياة عامرة هي في ذاتها مرثية لآمال وأحلام عاش عمره، ومعه أبناء جيله من كتاب الستينيات، يكابدون حسرات ومرارات إخفاقاتها إلى أن لاح النور، نور الفجر ينبلج مع ثورات الربيع العربي. رحل إبراهيم أصلان “1935-2012”، “مالك الرواية العربية الحزين”، وأحد أهم الأصوات الروائية والقصصية في مصر والعالم العربي، صاحب الموهبة الاستثنائية الفذة الذي غادر الدنيا واستقر بخلوته الأبدية، تاركا إرثا منيرا وضاء من أعمال تعد على أصابع اليدين: “3 روايات و4 مجموعات قصصية وكتابان في السيرة القصصية”، لكنها شأنها شأن خوالد الأدب العظيمة، تعجز من حاول تقليدها أو احتذاءها فهي عصارة روح ومكابدة إبداع ونحت في صخر، ومخلفا حزنا عظيما وألما غائرا في نفوس وقلوب محبيه وعارفي قدره في العالم العربي كله. العازف عن الضجيج كان إبراهيم أصلان هادئا هدوءا صموتا عزوفا عن الضجيج والضوضاء، رغم أنه كان ملء السمع والبصر لأكثر من نصف قرن، ومنذ أن بدأ ينشر قصصه الأولى في منتصف الستينيات في مجلة «الآداب» البيروتية، ومجلة “الكاتب”، ومجلة “المجلة” التي كان يرأس تحريرها الكاتب المبدع الكبير يحيى حقي، الذي أدرك ومنذ قراءته لقصته الأولى أنه موهبة متأججة، مرورا بمجلة “جاليري 68” التي خصصت عددا كاملا لإبداعه ونقده، في سابقة احتفائية من شباب الكتاب آنذاك، إلى أن طلع ذات صباح ناعم عام 1983 برائعته الروائية الخالدة “مالك الحزين”، رسخ اسم أصلان كواحد من الأبطال الأسطوريين في كتابة الرواية العربية والقصة القصيرة، وارتقت “مالك الحزين” مراقي السمو ومدارج الفن لتحتل موقعها بين أهم مائة رواية عربية في القرن العشرين، ولو لم يكتب أصلان غيرها لكفاه! ولم يكن صمت أصلان أو عزوفه صمت المتآمرين الوصوليين الانتهازيين الذين “يشترون ولا يبيعون”. كان حزينا جدا لكنه الحزن المتواري خلف ابتسامته الرائقة الحنون، وشفافيته الآسرة التي تدفعك إلى عالم من الشجن الشعري، تفيض به روحه الملائكية وإنسانيته الصافية الجمة. كان يقول: “لا يجب أن تتحدث عن الحب بل عليك أن تتحدث بحب، فكل النصابين يجيدون أحاديث الهوى.. ولا يجب أن تتحدث عن العدل بل يجب عليك أن تتحدث بعدل؛ لأنه لا يجيد الحديث عن العدل مثل الظالمين”.. وكأنما ينطبق عليه ما قاله أمل دنقل في قرينه المبدع المتوهج، المعجون بسحر القص وجنون الفن، يحيى الطاهر عبد الله: “يحيا كأن الحياة أبد”، وكانت حياة أصلان نهرا صافيا مراحا لكل من أراد أن يغتسل من أدران البشر وشوائب الدنيا، فيلوذ به من غبار الزمن وشوائب الروح. تشرفت بمعرفتي به وصداقته عن قرب، وأفتخر بذلك وأتباهى به، ولا أنسى عندما كنت أجري معه أحاديث صحفية أو حوارات نقدية أو لاستشارته في قضية ثقافية أو استكناه رأيه في تحقيق أكتبه، لا أنسى قط نظرات عينيه الوادعتين الطيبتين، وصوته العميق الهادئ الهادر في حزم حنون، ولم أر تواضعا ولا تقديرا ولا احتفاء إنسانيا بالناس في أحد مثله، عدا عكوفه واحترامه لعمله في الصحافة أو الكتابة أو الإبداع، كما المتصوفة الأنقياء الأصفياء الحالمين العاشقين للبشر، كل البشر في كل بقاع الأرض. العميق إنسانياً كان أديباً وكاتباً متميزاً بعمقه وإنسانيته النابعة من أصالة شخصيته، ورحيله خسارة فادحة ليس من السهل أبدا تعويضها، فقد كان واحدا من أعلام وأعمدة السرد في الأدب العربي الحديث والمعاصر، وبفقد أصلان، “تفقد الرواية والقصة والثقافة العربية صوتا متفرداً لا يمكن تعويضه، ونفقد نحن الأصدقاء والأحبة، إنساناً عظيماً مخلصا وشريفا وكريما، يترك أثره على لحم القلب”، كما رثاه بحرارة وحزن أليم الروائي الكويتي طالب رفاعي. كان رحمه الله نموذجا للمثقف الأصيل، ومن ينسى مواقفه الإنسانية والفكرية والسياسية الشريفة النابعة من ضمير وطني حر ونزيه، “رفض مقابلة الرئيس السابق حسني مبارك في نهاية عام 2010 وقبل أيام من اندلاع الثورة، ضمن مجموعة المثقفين الذين ذهبوا لتجديد البيعة له!”. كان أصلان أحد الآباء الشرعيين العظام لأجيال كاملة من الروائيين والقصاصين، في مصر والعالم العربي، فتأثيراته سارية بارزة جلية في كتاب السبعينيات ومن تلاهم حتى كتاب الألفية الجديدة، حتى عده كثيرون منهم، عن صدق وحق، بالأب، ورثاه بعضهم بقوله “أبويا أصلان مات!”، وبعض آخر قال: “ياااه يا عم إبراهيم.. مكنتش أعرف أني بحبك كده”.. وليس أدل على عمق الأثر الذي تركه أصلان في نفوس هؤلاء من هذه الكلمات العفوية البسيطة الموجزة الدالة الكثيفة.. ولعل ما يفسر هذه الأبوة الشرعية والروحية والإبداعية، ليس لأجيال من الكتاب الشباب فقط، إنما لكل من التقاه أو رآه أو عرفه عن قرب أو حتى مر به مرورا عابرا دون أن يدرك عظمة هذه الشخصية وتعدد أبعادها الإنسانية، لعل ما يفسر ذلك كله، ما وجه به أصلان أحباءه وقراءه وشباب المبدعين في كتابه الساحر “شيء من هذا القبيل”. يقول: “لذلك أرجوك، إذا ما صادفك رجلاً في قصة أو رواية وقد جلس صامتاً، أو طفق يضحك من دون ما سبب، أو رأيت أحداً يمشي في الشارع وهو يتبادل الكلام مع نفسه، أو لمحت امرأة تزينت ووقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها، إذا صادفت مثل هذه التفاصيل العابرة، فلا تظنها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة. لأن في تطلع طفل إلى الطعام في يد الغير تعبير عن محنة عظيمة”. وحدهم الآباء لا يذبلون، ويبقى رحيلهم الوجع الأخضر الذي لا ينزوي ولا يموت، كما تقول شاعرة مبدعة شابة من بناته الكاتبات “دعاء زيادة”. الثريّ المقلّ لن يسمح الحيز المتاح بالاستفاضة في الحديث عن جوانب أصلان الإبداعية، لكن لا يمكن أن يغفل أحد أو يتغافل عن قيمة وقامة إبراهيم أصلان الروائية والقصصية، التي مثلت إحدى حلقات مجد الرواية العربية وعزها وفخرها وتاريخها المكين، فإبراهيم أصلان من الكتاب المقلين، جدا، ومن الكتاب القلائل أيضا الذين أثاروا إشكالية النوع الأدبي أو “التجنيس” في الأدب العربي، فنصوص مثل “وردية ليل” أو “شيء من هذا القبيل” أو “خلوة الغلبان” تستعصي على التصنيف الدقيق أو التجنيس الأدبي، فـ “وردية ليل”، على سبيل المثال، وكما رصد ذلك نقاد كثيرون، عبارة عن نصوص سردية قصيرة، كل نص فيها مكتف بنفسه، يؤسس دلالته، لكن وفي ذات الوقت، يمثل هذا النص حلقة وثيقة الصلة بما سبقها وما تلاها، حيث الشخصية واحدة تتحرك في فضاء واحد.. وهكذا. استطاع أصلان عبر رحلته الإبداعية، ومن خلال نصوصه السردية السحرية، أن يخلق لنفسه طرائقه الكتابية الخاصة وأن ينحو منحى يتسم بالنزوع الشديد للاهتمام بالبناء والصقل والتركيب والبعد التام عن الحشو والتفاصيل غير المهمة، فيما مثل فلسفة خاصة في “الاقتصاد الكتابي” إن جاز التعبير، كان يقول: “على الرغم من انشغالي بقضية الكتابة والقراءة طوال حياتي، لم أنظر إلى نفسي بوصفي كاتبا أبدًا، كنت أفضّل أن يُنظر إليّ كعضو منتسب إلى هذه الطائفة من الكتّاب العظام، فلست أكثر من عاشق للكتابة، وهذا العشق هو أكبر من عشقي لاحترافها”. وعندما كتب أصلان رائعته البديعة “مالك الحزين”، كان مدركا وواعيا بأنه يجب عليه أن يحشد خبراته ومهاراته التي تكونت من ممارسته لفن القصة القصيرة ليوظفها في كتابة الرواية، التي استغرقت منه قرابة السنوات العشر “بدأ كتابتها في السنوات الأولى من السبعينيات وصدرت عام 1983”. أحدثت الرواية دويا كبيرا، وحققت نجاحا غير مسبوق، واحتفى بها النقاد والقراء على السواء احتفاء شديدا، وترجمت إلى الألمانية والفرنسية، ثم بعد ذلك إلى العديد من لغات العالم، وكان من أصداء هذا النجاح الكبير أن قام المخرج القدير داوود عبد السيد عام 1992 بتحويلها إلى فيلم سينمائي شهير، “الكيت كات” الذي حاز هو الآخر شهرة ونجاحا جماهيريا غير مسبوق. في عام 1999 خرج أصلان بروايته “عصافير النيل” التي كانت بشكل أو بآخر الامتداد الروائي لحكايات من فضل الله عثمان التي نشرها قبلها بعدة أعوام، وفيها واصل أصلان تأصيل فضائه الأثير “حي إمبابة الشعبي” الشهير بالقاهرة، من خلال رصد تحولات أسرة صغيرة من الموظفين البسطاء، منذ نزوحها من الريف بمحافظة الغربية إلى قلب القاهرة في نهاية الأربعينيات، ولعل هذا ما حدا بالمبدع الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي أن يرثيه بقوله: “مات جبرتي إمبابة.. إبراهيم أصلان”. وحققت الرواية شأنها شأن أعماله السابقة نجاحا كبيرا وترجمت إلى عدد من اللغات، وقام المخرج مجدي أحمد علي بتحويلها إلى فيلم سينمائي بذات العنوان حاز نسبة مشاهدة لا بأس بها، لكنها لم تصل إلى نجاح وشهرة فيلم “الكيت كات”. لدى الحزن من يكاتبه ويرسل مراسيله، وهناك أيضا من يكابده.. وسلام على الراحلين. بطاقة حياة الكاتب والروائي الكبير إبراهيم أصلان، الذي توفي ظهر يوم السبت 7 يناير الماضي، عن عمر ناهز 77 عاما، بعد حياة حافلة بالإبداع والعطاء القصصي والروائي والإنساني، ولد بمدينة طنطا بمحافظة الغربية في عام 1935، ثم انتقلت أسرته إلى حي إمبابة الشهير بمحافظة الجيزة. وبعد أن أتم دراسته، عمل بهيئة البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية. بدأ أصلان الكتابة والنشر في عام 1965. وفي العام 1969 أصدرت عنه المجلة الطليعية “جاليري 68” عدداً خاصاً تضمن نماذج من قصصه ودراسات حول هذه القصص. وفي عام 1987 تم انتدابه للعمل نائبا لرئيس تحرير سلسلة “مختارات فصول”، واستمر بها إلى أن أحيل للمعاش في عام 1995. في عام 1997 عمل رئيسا لتحرير سلسلة «آفاق الكتابة»، واستمر بها إلى أن استقال منها في عام 1999 عندما اشتعلت أزمة رواية “وليمة لأعشاب البحر”، وكان آخر مهامه الثقافية، إشرافه على اللجنة العليا لمشروع مكتبة الأسرة، في تشكيلها الجديد بعد ثورة 25 يناير. من أعماله التي تمثل علامات مضيئة في مجرى الإبداع الروائي والقصصي في الأدب العربي الحديث: “مالك الحزين”، التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان “الكيت كات”، ورواية “عصافير النيل”، و”وردية ليل”، ومن مجموعاته القصصية “يوسف والرداء”، و”بحيرة المساء”، وآخر أعماله المنشورة كانت متوالية قصصية بعنوان “حجرتان وصالة” عن دار الشروق. وكان الراحل الكبير قد عانى منذ أيام من أزمة صحية دخل على أثرها مستشفى قصر العيني الجديد، ولم يمكث بها طويلا بعد تحسن الحالة واستقرار صحته. رحم الله الراحل الكبير وأسكنه فسيح جناته، وإن لله وإنا إليه راجعون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©