الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العنف الناعم

العنف الناعم
10 أغسطس 2016 20:45
د. سعيد توفيق تمثل ظواهر العنف كابوساً مؤرقاً في واقعنا العربي الراهن، بل في الواقع العالمي الذي يعاني أيضاً العنف، سواء تبدى في صورة الإرهاب، أو أية صورة أخرى. وقد رأيت أن أتناول هنا هذه المسألة تناولاً فلسفياً عاماً يُعنى بجذور ظواهر العنف، ذلك أننا إذا اكتفينا بوصف ظواهر العنف وتحليلها، دون التطرق إلى البحث عن جذورها، فلن نفهم حقيقتها، ولن نتمكن من مواجهتها. ما إن نطرح قضية العنف على مستوى التأمل الفلسفي حتى تلاحقنا التساؤلات، وهي تساؤلات فلسفية ضرورية أولية في كل محاولة فكرية، فالتفلسف- في جوهره وروحه العامة- هو تساؤلات أكثر من كونه إجابات، ولذلك فأن فهم الظواهر يبدأ فقط عندما تبدأ التساؤلات، فعندئذ فقط تبدأ حقيقة الظاهرة في التفتح والتكشُّف. فقبل أن نسأل: ما العنف؟ وما جذوره؟، ينبغي أن نتساءل: هل العنف ظاهرة واحدة، بحيث يحق لنا أن نتحدث عن معنى واحد لها، ومن ثم عن جذر واحد لها؟ فليس العنف المتمثل في الإرهاب باسم الدين (الذي يبلغ حد القتل والذبح) المهيمن على المشهد الراهن، هو الشكل الوحيد للعنف. فهناك العنف السياسي الذي طالما تمثل عبر التاريخ في الحروب المريرة التي تجلب القتل والدمار، وإن كان عصرنا الراهن يميل فيه الأقوياء (أعني الدول العظمى) إلى ممارسة الهيمنة والسيطرة من خلال العنف الناعم، وأنا أعني بهذا المصطلح التعبير عن القوة التي تسعى بنزوع فطري أو طبيعي إلى الهيمنة والعدوان على كل ما يقع في نطاق نفوذها. إنني أستخدم الكلمات الآن بحساب دقيق، لأن كلامي هذا يبدو مستمدًا من عالم الطبيعة، ومن ثم ينبغي أن نستخدمه بحساب حينما نريد أن نمد نطاقه إلى عالم الإنسان الذي يسعى فيه البشر نحو القوة بغرض التملك والسيطرة والهيمنة، وغير ذلك مما هو مفطور في النفس، حتى إن أدى ذلك إلى استخدام العنف والعدوان على الآخر. ولكننا نلاحظ أن قوى العالم الراهن تميل إلى إشباع هذه الغريزة المتأصلة في الوجود الإنساني باستخدام العنف من خلال أشكال وأدوات مختلفة من القوة الناعمة (وهذا هو المعنى الدقيق للعنف الناعم)، ولذلك باتت الحروب الآن تسعى إلى التدمير بتقويض الدول من الداخل من خلال إثارة الفتن والقلائل فيها أو السيطرة عليها من خلال أذرع العولمة الطويلة على المستويين الاقتصادي والثقافي، على نحو يسهم بقوة في طمس هويات وخصوصيات الشعوب الأضعف لمصلحة الغازي الذي يسعى إلى الهيمنة. ولا شك أن هناك أشكالاً أخرى من العنف، فهناك العنف الاجتماعي (ومنه العنف الأسري الموجَّه ضد المرأة)، والعنف المجتمعي- بوجه عام- الموجه ضد الأطفال، خاصةً في الدول المتخلفة المسمَّاة بدول العالم الثالث. فبأي حق إذن نتحدث عن «العنف»، كما لو كان ظاهرة واحدة؟ إن هذا لا يكون ممكناً إلا بمعنى واحد هو أن هذه الظواهر- على تعددها واختلافها- بينها قاسم مشترك هو معنى العنف نفسه الذي يتجلى فيها جميعاً. وهذا يستدعي السؤال من جديد: ما العنف؟! هل يمكن أن نتحدث عن العنف كما لو كان له معنى واحد؟ إننا لو تأملنا الأمر بعمق، لوجدنا أن المعنى الكامن في كل عنف هو استخدام القوة بغرض الهيمنة على كل ما يقع في نطاق نفوذها أو تأثيرها. وربما يبدو هذا التعريف بالغ العمومية، وكأنه يسعى إلى أن يكون شاملاً لعالم الطبيعة ولعالم الإنسان. فأين تقع جذور هذا العنف؟ المسألة كلها عندي تكمن في الوعي الذي ترتبط تجلياته ارتباطًا وثيقًا، ومنها: الوعي الديني والسياسي والتاريخي والجمالي والعلمي، وغير ذلك. وحينما نتأمل الأمر عن كثب، سنجد أن الفكر الفلسفي العام يسهم بشكل قوي في تشكيل هذا الوعي. إن الافتقار إلى هذا الوعي هو الجذر الأساسي المسؤول عن العنف في سائر تجلياته. وهنا ينبغي أن نلاحظ أمرين مهمين: الأمر الأول هو أن الفلسفة ليست مسؤولة وحدها عن تشكيل هذا الوعي، حتى إذا فهمنا الفلسفة في صورتها العامة باعتبارها الفكر السائد في ثقافة مجتمع ما. إذ يسهم في تشكيل هذا الوعي بشكل أساسي التعليم والإعلام وشروط تحقق نهضة الثقافة السائدة في المجتمع، وهي شروط تخضع لوجود نظام ليبرالي يشجع على حرية الفكر والإبداع ويدعمه. ومع ذلك، يظل التعليم هو الجذر الأساس، فعليه تتوقف سائر تجليات الوعي، فلا علم من دون تعليم، ولا فلسفة من دون تعليم فلسفي حقيقي. بل يمكن القول بأن الفلسفة لا تمارس دورها الفاعل في تشكيل الوعي إلا في فترات ازدهار الحضارات، ذلك أن الفلسفة تتأسس على إنجازات الحضارة في العلوم والمعارف والفنون، ففلسفة العلم تشتغل على العلم، وفلسفة الفن تشتغل على الفن. الوعي إذن يرتبط بالحضارة. والأمر الثاني الذي ينبغي أن نلاحظه هو أن ظواهر أو تجليات الوعي ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، ولذلك يصعب أن نجد تطورًا في الوعي العلمي في حضارة ما دون أن يكون مصاحبًا لتطور آخر في الوعي الديني أو الجمالي على سبيل المثال. غياب الوعي الديني إن ما نريد أن نخلص إليه هو أن جذور العنف تكمن في غياب الوعي في سائر تجلياته. ولنأخذ مثالًا على حالة غياب الوعي، وهي حالة غياب الوعي الديني وضلالاته باعتبارها جذرًا من جذور العنف والإرهاب، وهي مسألة ترتبط بالتعليم ارتباطًا وثيقًا. ولذلك فليس من قبيل الصدفة أن العنف الذي جرى في الجامعات المصرية من شباب جماعة الإخوان خلال السنوات الماضية، كان أقل بكثير في الكليات النظرية منه في الكليات العلمية التي تفتقر تمامًا- وهو خطأ تعليمي فادح- إلى الفكر والعلوم الإنسانية أو إلى ما يسميه الألمان «علوم الروح»، بل إن هذا العنف قد جرى في بعض الكليات النظرية التي تعتمد مناهجَ ومقررات أصولية جامدة، بخلاف غيرها من الكليات النظرية. وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن عنف جماعة الإخوان سرعان ما تضاءل في بلد مثل تونس التي يتفوق مستوى التعليم فيها على مستوى التعليم في مصر، ويُعد أكثر انفتاحًا على الثقافة الأوروبية. ولكن مسألة العنف باسم الدين أكثر اتساعًا من مسألة التعليم الدراسي في حد ذاته، لأنها تتعلق بالوعي الثقافي العام. إن العنف الذي يبلغ حد القتل والذبح لدى بعض الجماعات الدينية العدوانية المتطرفة، هو مسألة تتعلق بالسياق الثقافي العام الذي ينشئ الوعي في مجمله. ولطالما تأملت مسألة «القتل على الهوية» لدى الجماعات الدينية الأصولية التي تمارس القتل والترويع لكل من يختلف مع عقيدتها! ومن المؤكد أن هناك تمويلاً ودعماً لوجستياً من قوى عظمى لهذه الجماعات، ضمن مخطط هذه القوى في تقسيم وتفتيت الشرق الأوسط الجديد أو بعث «سايكس بيكو» جديدة. ولكن من المؤكد أيضًا أن هناك شيئًا عقائديًا في المسألة يجعل الوعي الديني غائبًا أو مغيَّبًا. تأمل سلوك الشخص الانتحاري الذي يتوهم أنه سيدخل الجنة ويلقى حور العين من خلال قتل الآخر المختلف عنه في تصوره للعقيدة. لقد شاهدت ذلك بنفسي في حوار أجرته أشهر مذيعة تلفزيونية أميركية، وهي باربرا والتر، مع أحد هؤلاء الانتحاريين. ما أقصده هنا أن ما يشكل الوعي الديني- وسائر تجليات الوعي- هو الوعي الثقافي العام الذي يدخل في تشكيله التعليم والإعلام والفكر والفلسفة والفن والأدب، من خلال السياق التاريخي والسياسي لأمة ما، حسب ما يعتريه من صعود أو تدهور. لم يعرف هذا الانتحاري بغرض القتل- مثلما لا يعرف كل من مارس القتل على الهوية- شيئاً عن مبادئ الدين الإسلامي، ومنها: لا إكراه في الدين من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لست عليهم بمسيطر من قتل نفسًا بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعًا ولم يقرأ هذا القاتل شيئًا من ابن رشد أو ابن عربي، ولا حتى من الإمام محمد عبده، ولم يسمع بهم، فهو لا يعرف شيئًا عن التأويل في صورته العقلانية أو في صورته الصوفية، لا يعرف شيئًا عن لغة العقل، ولا شيئًا عن لغة القلب، ولا شيئًا عن الصلة العميقة بين الفن والدين أو بين الجميل والمقدس. ولذلك فقد صار الدين عنده عبوسًا كئيبًا يقوم على سلطة الزجر والعقاب... دين مفارق للحياة ولا ينتمي إلى العالم الإنساني. هذا التغييب للوعي الديني في المجتمعات التي تدهور فيها الوعي هو التربة الخصبة لاعتداء أمم أخرى عليها من خلال استخدام أدوات ما أسميته «بالعنف الناعم». غياب الوعي التاريخي ولنأخذ مثالًا آخر هو مسألة غياب الوعي التاريخي باعتبارها جذرًا آخر من جذور العنف، وهي المسألة التي سنجد أنها ترتبط بمسألة غياب الوعي الديني ارتباطًا وثيقًا. فالحقيقة أن الوعي التاريخي يتضمن بالضرورة الوعي بالهوية، ذلك أن الوعي بالتاريخ يجعلنا نؤمن بأن تاريخنا كأمم وشعوب وحضارات – بل تاريخنا الشخصي- ليس لحظة بعينها، وإنما هو سلسلة لحظات تتوالى عبر الزمان. وعلى هذا، فإن هويتنا لا تكمن في لحظة معينة، وإنما تكمن في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا (بمعنى ما نتطلع إلى نكون عليه ونسعى إليه). هذا هو شكل من أشكال الوعي الذي تفتقر إليه كل أصولية دينية حينما تظن أن التاريخ يكمن في لحظة معينة بكل مظاهرها، دون تأويل لها، سواء من حيث النص الديني أو من حيث مظاهر اللحظة الماضوية في تجلياتها الاجتماعية. لنتذكر أن الأديب العظيم نجيب محفوظ حينما بعث بخطابه ليُلقَى في احتفالية مؤسسة نوبل التي منحته جائزتها في الأدب سنة 1988، صرَّح في هذا الخطاب بأنه مواطن مصري فرعوني مسيحي إسلامي، بمعنى أنه نتاج هذه الحضارات جميعًا. كان بالفعل نجيب محفوظ قد تشكل كإنسان ومبدع من خلال ميراث حضارات توالت عبر التاريخ، ومن ثم فإن وعيه قد تشكل على أساس من إدراكه بأنه ليس نتاجًا للحظة الراهنة، وليس نتاجًا للحظة معينة من الماضي، وإنما هو نتاج للوعي بتاريخ أمته في مجمله وتاريخ عالمه، ومن ثم وعيه بالهوية. هذا التلاقح الفكري بين ثقافات الشعوب والقوميات والجنسيات بأديانها المتنوعة- أعني الوعي الذي يشكله الفكر والفن- هو الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الثقافة والفنون، وأن تعي دورها في مواجهة «العنف الناعم وغير الناعم» في عالمنا الراهن. مسؤولية لا شك في أن الافتقار إلى الوعي هو الجذر الأساسي المسؤول عن العنف في سائر تجلياته. وهنا ينبغي ملاحظة أن الفلسفة ليست مسؤولة وحدها عن تشكيل هذا الوعي، حتى إذا فهمنا الفلسفة في صورتها العامة باعتبارها الفكر السائد في ثقافة مجتمع ما. إذ يسهم في تشكيل هذا الوعي بشكل أساسي التعليم والإعلام وشروط تحقق نهضة الثقافة السائدة في المجتمع، وهي شروط تخضع لوجود نظام ليبرالي يشجع على حرية الفكر والإبداع ويدعمه. ومع ذلك، يظل التعليم هو الجذر الأساس، فعليه تتوقف سائر تجليات الوعي، فلا علم من دون تعليم، ولا فلسفة من دون تعليم فلسفي حقيقي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©