السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلطان العميمي يبحث عن الإيهام في حكايته

سلطان العميمي يبحث عن الإيهام في حكايته
12 يناير 2012
من القضايا الاجناسية المهمة في النقد هي السؤال عن كيفية تصنيف الأعمال الأدبية التي عادة ما تتجاور مع بعضها إلى حد التداخل، وربما تصل الحالة إلى خلق جنس أدبي جديد هو نتاج تداخل هذه النصوص مع بعضها، وأنا هنا لا أريد أن أدخل في التعالقات النصية التي تتحاور فيها النصوص الإبداعية وإنما أريد أن أتحدث عن كيفية اشتغال المبدع الذي يريد أن يقدم لنا عملاً أدبياً فيه من الجدة والابتكار الشيء الكثير. تمتلك القصة القصيرة اشتراطات وأنظمة متعددة، ومفتوحة الخيارات، وأهمها أنها تخلق قوانينها الخاصة بها ولكنها على أية حال تختلف عن القصة القصيرة جداً وعن الرواية، ولكن ما يجمعها في إطار الفن الإبداعي السردي هو امتلاكها قوانينها الشعرية، وأقصد بالشعرية هنا مفهومها الاصطلاحي الذي يعني القوانين أو الخصائص التي تجعل الأدب أدباً أو الخطاب يمتلك جماليته أي بهدف الأدبية باكتشاف الأنساق الكامنة التي تحدد أدبية النصوص. وعليه فإن أي نص إبداعي يحمل شعريته حين يمتلك قوانين الخطاب الأدبي التي اجترحها المبدع في نصه “وهنا تتعدد أوجه هذا النص”. ومن الضروري أن نفهم وأن نفرق بين الشعرية والشعر بما فيهما من اختلاف كبير حيث لا تعني الشعرية شعراً وقد لا يمتلك كثير من الشعر شعرية. يمكن للقصة القصيرة أن تقترب من ملامح الشعر لا في ألفاظها أو أسلوبها التركيبي ولكن في شفافية فكرتها وإيحاءاتها التي تحتفي بالخيال، ومن هنا نقترب من تأكيد ملامح الشعرية في النص الأدبي. وقادني إلى ذلك ما قرأته من قصص قصيرة في مجموعة للكاتب والقاص سلطان العميمي والتي حملت عنواناً صادماً غريباً وهو “الصفحة 79 من مذكراتي” وفي الحقيقة لقد أحالني هذا العنوان الذي لم يصل إلى الصفحة 80 إلى قول زهير بن أبي سلمى في معلقته التي قال فيها: “سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم”.. وكأن سلطان العميمي يريد أن يتحايل على صفحاته الثمانين فينقص منها ورقة وكأن الورقة سنة في عمر الإنسان كما أقرأه تأويلاً في نص العميمي وعنوانه الغريب الذي أخذه من قصة تحمل ذات العنوان. حسناً.. من الضروري - وهو جزء من مهمة الناقد - أن يقدم جماليات ما يقرأ وما يقترب من الجمالي أو يبتعد عنه وفقاً لقوانين الشعرية التي يمتلكها نص أدبي. الإيهام القصصي في البدء لابد من الإشارة إلى أن قصة “غرفة الانتظار” دون غيرها من القصص قد امتلكت مستوى من الإيهام حاول العميمي أن يوظفه في مجمل قصصه ولكنه لم يصل إلى المستوى الذي كان فيه مبتكراً في هذه القصة. “عندما جلست في قاعة الانتظار.. انتبهت إليه جالساً أمامي”.. ويظل الشخص الآخر غائب الملامح في سرد شخصية القصة: “كنا وحيدين، وكان ينتظر دوره مثلي” ويحاول العميمي أن يوهمنا بحقيقته كونه جالساً أمامه، فالبطل يحار في زمن رؤيته السابقة له: “يخيّل إليّ أني رأيته من قبل وأعرفه جيداً، وأنني قد تحدثت إليه طويلاً”. تعميق هذا الإحساس لدى القارئ هي لعبة سلطان العميمي ولكن في هذه القصة أخذ هذا المنحى بعداً أعمق لأنه كرّس فينا الإحساس بواقعية ما يحصل: “ابتسمت له فبادلني بمثلها دون أن يتفوه بكلمة: أهلاً، أو: كيف الحال؟” وهنا يضع العميمي ألفاظاً تشي بما يمكن أن يحيلنا إلى توقع نهاية النص: “هل عرفني أم أن ذاكرته مشوشة مثل ذاكرتي”. حيث تبدو ذاكرة الآخر مشوشة شبيهة بذاكرة السارد المشوشة والتي تعني التباس الواقع وعدم صدقية ما يحدث من سرد سيتضح لاحقاً كون هذه الطريقة والتي يطلق عليها بالأرصاد سوف تحيلنا إلى ما يمكن أن يحصل من قلب لمفهوم الحكاية جميعها: “راودني شعور بأنه سيقوم للسلام عليّ واحتضاني..”، “لكنه لم يفعل”.. وفي خاتمة القصة نجد ما يجعلنا نكسر كل تلك الواقعية التي بناها العميمي في ممهدات الأحداث ووقائعها بأن “تدخل الممرضة منادية اسمي، لأغادر غرفة انتظار المرضى في مستشفى الطب النفسي، غطّت جدارها الأمامي مرآة”.. حينها نكتشف أن الشخصية كانت ترى نفسها في الآخر، وهي في حالة انفصام حين تحاول أن تقدم لنا الآخر على أنه شخصية واقعية، ولا يكشف كل ذلك إلا المرآة التي استطاعت أن تكون “دالاً” على أن ما يحصل كان وهماً. لعبة سردية هنا استغل العميمي في قصته الإيهام المعمق ليقدم لنا لعبة سردية بسيطة، تلك هي طريقته في أغلب قصصه ولكن هذه الطريقة لا تنجح في كثير من الأحيان إلا أنها في قصته هذه استطاعت أن ترتقي بالحكاية كلها. ويبدو لي أن قصة “ركض بعيداً” تقترب إلى حد بعيد من ذوات قصة “غرفة الانتظار” إذ أن الشخصية الساردة تتحدث عن الشخصية المقابلة الأخرى التي كانت تلازمه لأربعة وثلاثين عاماً وهما اللذان وصلا إلى حالة من الافتراق بين “الشخصية وظلها” بدلالة: “ترددت على أكثر من طبيب نفسي، اختلفت تشخيصاتهم لحالتي”. “لجأت إلى رجال الدين ومشعوذين”. ويُنهي العميمي حكاية الشخصية والظل بحادثة دهس سيارة له حيث بدأ دم الشخصية اللزج يسيل من فمه وأنفه ولم يستطع أن يحرك يده وهنا يقول: “رفعت رأسي قليلاً ولم ألمح إلا ظلي، كان جالساً إلى جانبي.. ثم قام فجأة وركض، ركض بعيداً.. حتى اختفى!”. القصتان رُويتا بضمير المتكلم، وتقابل فيهما شخص وظله، وتخلى الظل في كليهما عن الشخصية، بهروبه عبر أداتين خارجيتين وهما “السيارة، المرآة” وكلاهما يعاني من أزمة نفسية حيث اتجها إلى “المصحة والأطباء النفسيين” أما أوجه الاختلاف بينهما فإن قصة “غرفة الانتظار” امتلكت الإيهام كله في السرد ولهذا جاءت المفاجأة في نهاية القصة بينما تبدو إشارات الإيهام أكثر وضوحاً في قصة “ركض بعيداً”. درجة الغموض إن درجة الغموض هي التي تحدد جماليات النص أو لنقل جماليات الحكاية في النص، وما دام أي نص يمتلك بنيتين سطحية وعميقة فلابد من أن يجد المبدع الموقع الذي يضع فيه حدث قصته ما بين هذين المستويين، وأجد أن العميمي قد حقق معادلة مهمة في “غرفة الانتظار” و”ركض بعيداً”. من جانب آخر نلاحظ أن قصص العميمي القصيرة جداً أو لنقل الإشارات الحكائية غير موفقة وخاصة في “تحولات، عود ثقاب، رسالة... وغيرها” لأنها تقترب من الشعر بينما في قصة “حقيقة” نجد نجاحاً واضحاً للنص كونه يتكئ على عنصر مكاني بالرغم من تقليديته إلا أنه يمتلك عنصر الصدمة والمفاجأة في نهاية القصة التي تقول: “انتشرت إشاعة قوية بأن عرّافاً يفضح الكذابين، سيزور قريتنا يوم الاثنين. وفي صباح الاثنين خلت الأسواق ودور العبادة والمرافق الحكومية من الناس تماماً.. وكان الأطفال يلهون وحدهم في القرية”. لم أشعر حقاً بأن قصة “رسائل” مغرية، لكون القاص سلطان العميمي اشتغل على الحكائية قبل أن يهتم بالجانب الشكلي الذي يقدم الحكاية بجمالياتها وهي: أولاً رسالة من أبو فريد المغترب إلى زوجته وفيه من اللوم الكثير. ثانياً رسالة من أم فريد إلى زوجها رداً على رسالته. كلا الشخصيتين قد خان الآخر وقد أقرّت بذلك أم فريد: “يبدو أننا زوجان خائنان ومتشابهان في أشياء كثيرة”.. وبقدر ما تحمل الحكاية من وضوح في البدء، تبدو في خاتمة النص مفاجئة بغموضها حيث لا ينتمي فريد الابن إلى الأب بل إلى أب آخر مجهول، بحسب ما افتضحته الأم، وهذا ما يريد العميمي أن يصدمنا به. بعكس قصة “رسائل” التي اعتنت بالحكائية وأهملت الشكل نرى أنه في قصة “رسائل نصية” قد اعتنى العميمي بالشكل وصارت الحكاية لديه أكثر غموضاً. إن العميمي يريد أن يقدم لنا في “رسائل نصية” قصة شكلية فيها من الحداثة الشيء الكثير “يبدو أن هناك 4 قصص تحمل ذات الموضوعة وهي “رسائل، و “رسائل نصية”، و”قلم” و”رسالة”. في قصة “رسائل نصية” حكاية غامضة في رسائل نصية قصيرة، لابد من الربط بينها كونها شفرات سريعة لاكتشاف مجمل ما يحصل في النص. مباشرة تقليدية في قصة “قبور” حكاية مباشرة وتقليدية، أراد العميمي أن يقدم موقفاً أخلاقياً في قصة يمكن أن تحمل غير هذا الغرض المهم الذي بنيت عليه. “حارس مقبرة يأتيه رجل يبحث عن كنز فيها، يرفض حارس المقبرة أخلاقياً، بالرغم من كل العروض التي يقدمها الرجل، بعد أيام تأتي الحكومة التي باعت نفسها للرجل نفسه كي تقيل الحارس. الحارس يخرج من المقبرة مستقلاً سيارة تاكسي باحثاً عن شخص اسمه أبو فتحي يسكن الوادي الكبير. ويخلو النص من المفاجأة، من الصدمة، لأن الحكاية لا تمتلك غموضاً، سوى غموض الكنز الذي يبحث عنه الرجل الزائر ليلاً والذي أصبح جزءاً ثانوياً في النص وهو الذي كان من الضروري الاهتمام به والتركيز عليه. أعتقد أن قصة “قطف” قد اعتمدت اللغة التضادية حيث يقول فيها: “زرعت بين أنهارها شتلات كثيرة وحينما نضجت فواكهها في الفجر قطفتني” وهذه أقرب إلى الشعر منه إلى القصة.. حيث يعتمد النص على مفارقة اللغة بين “قطفتها” التي ستدخل النص في اللاشعرية وبين “قطفتني” التي حولت النص إلى شعرية عالية، وربما هذا ما أراده العميمي نفسه. ولا أزال أتساءل ماذا أراد سلطان العميمي في قصة “البوابة رقم 4”؟ وبعد تساؤلنا هذا نفاجأ بقصة تحت عنوان “خطوات” لعب فيها العميمي على الشكل والواقعة، حيث جزّأ الأفعال “يخطو، خطوتين، يتوقف، يمشي، يتعثر، ينهض.. فيسكن، يتجمد، يسقط، وتلتقطه من جديد ليكمل معها درس الرقص”. هذا التوافق بين الشكل الأسلوبي وحركة السرد أكد على جمالية فعل القصة أي أنها قدمت شكلاً جديداً. ولكي أدلل على أن النصوص القصيرة جداً أقرب إلى الشعر نقرأ هذا المقطع في قصة “سندباد”. “علّمتها السباحة.. فطارت” وعلّمتني الطيران.. فغرقت” هنا لابد أن نفرق بين مفهومي الشعرية في النص والشعر الممتزج في الحكاية الشعرية وقوانينها التي تجعل النص نصاً أدبياً والشعر الذي يغرب النص نحو جنس آخر ليس جنسه الأدبي الذي أُريدَ له أن يتحقق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©