السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إغواء العلم..!

إغواء العلم..!
10 أغسطس 2016 20:46
الفاهم محمد (NBCI) قد تبدو الكلمة غريبة على مسامعنا، غير أنها باتت معروفة بالنسبة لكل المتتبعين لواقع البحث العلمي، فهي اختصار يضم الحروف الأولى لأربعة علوم أساسية هي: (علوم النانو - Nanotequnologe) و(العلوم البيولوجية Biologie) و(علوم الإدراك cognisciences)، وأخيراً (المعلوميات - Informatique). هذه العلوم الأربعة يتوقع أن تلعب دوراً غير مسبوق في واقع الحياة، والوضع البشري عموماً خلال الألفية الثالثة.. والمهم في كل هذا أن التحول المرتقب لم يعد مجرد خيال جامح لبعض العلماء، بل إن الأمر يتعلق بعمل جدي تقف وراءه استثمارات هائلة قامت بها الشركات المدعوة اختصاراً GAFA، أي جوجل، أبل، فيسبوك، وأمازون، وهي الشركات التي تمول اليوم الأبحاث ضمن هذا الاتجاه... كيف ولماذا؟ الإجابة في التقرير التالي. تتحدث العلوم المذكورة عن تحول جذري وعميق يمس هوية الإنسان، أو إذا أردنا استعمال المصطلحات الأثيرة في فكر هيدغر، سنقول إنها تغيرات تمس الكينونة البشرية. لقد وصلنا اليوم إلى مرحلة تجاوزنا فيها نسيان الكينونة، لأننا لم نعد نأسف عليها، ولا يهمنا أن نتساءل عنها أو نستعيدها، وما يهمنا حالياً هو خلق كينونة جديدة لم يسبق التفكير فيها من قبل. وإذا كان هيدغر قد طمح على طول مشروعه الفلسفي إلى أن يكون عراب الفلسفة الإغريقية، خصوصاً الـ ما قبل سقراطية، كفلسفة قادرة على رأب التصدعات التي خلقتها الحداثة والعقلانية التقنية، فإنه قد بات من الضروري اليوم النظر إلى الإمكانات التي تقدمها هذه العلوم، والتي لا يمكن مقاومتها، فمن منا لم يحلم بالخلود والشباب الدائم والقوة والذكاء اللامتناهي... هذه فقط بعض من الإغراءات التي تقدمها هذه العلوم الأربعة، فما هي حقيقة هذه الوعود؟ النانو تكنولوجي النانو هو أصغر وحدة قياس في العالم، على أكثر تقدير، ذرات قليلة مجتمعة مع بعضها بعضاً، حيث يحلم العلماء بتطبيقات كثيرة لهذا العلم في مجال الصناعات المعدنية والفلاحية والطبية، مواد جديدة من أجل حياة جديدة، والأجمل أنها ستكون صديقة للبيئة هذا ما يقال وذات جودة عالية، بالمقارنة مع المواد الكلاسيكية. الحديث هنا عن أثواب لا تتمزق، عن آلات دقيقة تطرح في البيئة من أجل القضاء على التلوث أو يتم ابتلاعها من طرف الإنسان كي تقضي على الخلايا السرطانية، بل وتعويض الأعضاء التالفة لدينا... لقد أصبحت هذه المواد الجديدة تدخل اليوم في العديد من الصناعات الغذائية والتجميلية. ويتم وضعها مثلاً من أجل المحافظة على طراوة الأطعمة، رغم أننا لا نعرف بعد مدى تأثيرها على الصحة. وعود هذه التكنولوجيا لا تقدر ولا تحصى، لأنها تطال العديد من الميادين، لن نتمكن في المستقبل من تحديد الفرق بين الحي والجامد، لأن المواد الاصطناعية تتصرف كما لو أنها حية وذكية. فمفهوم الحياة ذاته ينبغي إذن إعادة نحته من جديد، والبعض يتحدث عن استثمار تكنولوجيا النانو في تغيير الإنسان نفسه كي يصبح كائناً مرقى، أي كائناً من طبيعة مغايرة. هذا لا يعني طبعاً أنه ليست لهذه التكنولوجيا مخاطر، وكما قال إتيان كلاين: «نحن نصنع التاريخ حالياً، ولكننا لا نعرف ما هو هذا التاريخ الذي نصنعه». الهندسة البيولوجية يتم بواسطة الهندسة البيولوجية بحث ما إذا كان في الإمكان تطويل أمد عيش الإنسان أو ما يسمى بـ (the langivity)، وفي هذا السياق كتب الطبيب والباحث البلجيكي المعاصر لوران ألكسندر كتاباً يحمل عنواناً صادماً: «موت الموت»، مؤكداً أن التقنيات البيولوجية المعاصرة ستحدث ثورة غير مسبوقة في البشرية، حيث من المرتقب أن يتحسن الأمل في الحياة بـ 20 سنة في حدود العام 2035، ومن الممكن خلال هذا القرن أن يتضاعف هذا المعدل. كما أطلقت «جوجل» مشروع كاليكو calico العام 2013 بهدف التغلب على أمراض الشيخوخة وإطالة عمر الإنسان، إلى غاية الوصول إلى قتل الموت، ووضع نهاية لها. لم تعد مهمة الطب إذن تقويم عمل الطبيعة، فتلك مهمة باتت قديمة، وسيغير الإنسان من طبيعته، لأن الطب اليوم يعمل على خلق طبيعة جديدة عن طريق التلاعب بالجينات، وعن طريق التحكم في الخلايا الجذعية وتهجين الإنسان والآلة، وتهدف هذه الهندسة كذلك إلى قراءة المعلومات الجينية المكونة للحمض النووي البشري DNA، أو ما يسمى كذلك (Les équençage)، بل ودمج الجينات البشرية مع الجينات الحيوانية، وهي التقنية التي تسمى البيولوجيا التركيبية. كل ذلك من أجل تحسين قدرات الإنسان والرفع من جاهزيته، فيما يرى اتجاه ما بعد الإنسانية أننا في المستقبل القريب لن نكون أمام الإنسان كما عهدناه، بل أمام كائن جديد يتجاوز النسخة التقليدية من البشر. علوم الإدراك يتعلق الأمر هنا بمجمل الأبحاث المرتبطة بعلوم أعصاب الدماغ والإدراك (les neurosciences cognitives)، وهي العلوم التي تدرس الشبكة العصبية للدماغ، حيث تنقل النورونات المليارات من المعلومات داخل الدماغ البشري، ويعتقد هذا العلم أن المخ ما هو إلا كمبيوتر هائل سنصل في المستقبل إلى محاكاته. فقدرات الكمبيوترات تتطور كل 18 شهراً حسب «قانون مور»، وبالتالي سنصل في المستقبل إلى كمبيوترات خارقة، يمكنها القيام بالعمليات نفسها التي تقوم بها الأدمغة البشرية وربما أكثر، ومن البديهي أن يتساءل المرء: ألا يمكن لهذه الكمبيوترات أن تتغلب على الأدمغة البشرية، وأن تستبدلها مستقبلاً؟ لقد بدأت هذه التخوفات منذ أن هزم الكمبيوتر المسمى «ديب بلو» بطل العالم في الشطرنج كاسباروف، وتطمح هذه العلوم إلى أكثر من مجرد منافسة يقوم بها الكمبيوتر للدماغ البشري، بل تحميل المعلومات التي يتضمنها على الكمبيوتر، وذلك في حدود عام 2045، هذا هو الحلم الذي أطلق عليه «الخلود الرقمي» والرفع من ذكاء الإنسان، فلن تعود العبقرية مجرد هبة طبيعية، بل سيتم صنعها حسب الطلب. المعلوماتية لا ينحصر تأثير الثورة المعلوماتية على الكمبيوترات والهواتف النقالة التي اجتاحت استعمالاتنا اليومية، بل إن نتائج الثورة المعلوماتية أكبر من هذا بكثير، فنحن نعيش في ظل «القنبلة المعلوماتية»، وهذا ما يحمله عنوان كتاب للفيلسوف الفرنسي المعاصر بول فيرليو paul virilio، كل شيء تتم كمبَتَتُهُ (نسبة إلى كمبيوتر) اليوم، والكمْبَتَةْ تعني في هذا السياق دمج الذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة البشرية، حيث توجد اليوم ربوتات ذكية قادرة على محاكاة عمل الإنسان حتى أدق مشاعره، وهناك أيضاً سيارة جوجل ذاتية التحكم، تسير في الطرقات من دون سائق، باعتمادها فقط على الذكاء الاصطناعي، دون أن ننسى الرقائق المعلوماتية التي تزرع في الدماغ من أجل تحسين قدراته، وغيرها الكثير من التطبيقات. محاذير أخلاقية بطبيعة الحال، نحن أمام منعطف وجودي هائل في تاريخ البشرية، وهناك أسئلة اجتماعية وأخلاقية وفلسفية تطرح بصدد ما ستحدثه هذه العلوم، فهل نحن مهيؤون لاستقبال العالم الجديد الذي تعدنا به؟ علينا، أيضاً، أن نعرف أن هذا التحول المرتقب لم يعد خيالاً بل تقف وراءه استثمارات كبرى، إضافة إلى جامعة المفردة the university of singularity المستقلة التي تجمع كبار العلماء والباحثين في هذه الميادين للعمل على تطوير مجمل الأبحاث المرتبطة بـ NBCI، بتمويل من «جوجل»، وتحت إشراف وكالة الفضاء الأميركية. واسم هذه الجامعة في حد ذاته يعبر عن فلسفة هذا الاتجاه، فمصطلح المفردة أو الفرادة ارتبط بنظرية الانفجار العظيم، ويعتقد أننا أمام الظاهرة نفسها، ولكن على المستوى البشري، فتراكم الأبحاث في هذه العلوم سيؤدي إلى ولادة وضع بشري آخر، غير مسبوق في وجود الإنسان. وهو وضع يسمى أحياناً ما بعد الإنسانية transhumanity، وكان العالم والباحث الأميركي راي كوتزفايل ray kurzweil الأب الروحي لهذا الاتجاه، والمؤسس الأول لجامعة المفردة، أول من أكد أن هذا التحول قادم في القريب العاجل، وذلك في كتابه الشهير the singularity is near. تطرح هذه العلوم الجديدة نفسها اليوم كعصا سحرية لمعالجة المشاكل التي تتخبط فيها البشرية، سواء على المستوى البيئي أو الصحي أو المعرفي. إنها بمثابة رؤية طوباوية تطمح إلى خلق مجتمع بشري جديد يشبه المدينة الفاضلة. وتسير التطورات التكنولوجية بخطى متسارعة. ولكن.. ألا يمكن أن تولد هذه العلوم مشاكل أخرى ربما أفظع من المشاكل التي تطمح إلى أن تضع لها حداً؟ وهل نحن مستعدون للتكيف مع ما ستحدثه من تغيرات في حياتنا؟ وهل علينا أن نغير المبادئ العامة لنظامنا الأخلاقي حتى نتعايش مع نتائج هذه الثورة؟ أم أنه علينا أن نفكر في وضع حدود يتوقف عندها النشاط العلمي بدل أن ننساق وراء إغراءات تطبيقاته التكنولوجية؟. لكن قبل ذلك، هل ما زلنا نمتلك القدرة على التحكم في مسيرة العلم وتوجيه نشاطه؟ أليس هذا هو ما يعنيه بالتحديد مصطلح الفرادة الذي يدل على عدم قدرة ذهننا البشري على مسايرة ما سيحدثه الانفجار العلمي من تطورات مذهلة؟ هذه أسئلة مصيرية ينبغي أن تتضافر جهود كل من العلم والدين والفلسفة والسياسة من أجل إيجاد أجوبة لها. نسينا كيْنونَتَنا وصلنا اليوم إلى مرحلة تجاوزنا فيها نسيان الكينونة لأننا لم نعد نأسف عليها ولا يهمنا أن نتساءل عنها أو نستعيدها وما يهمنا حالياً هو خلق كينونة جديدة لم يسبق التفكير فيها من قبل الخلود الرقمي أبحاث علوم الإدراك تطمح إلى تحميل المعلومات التي يتضمنها العقل البشري على الكمبيوتر، وذلك في حدود عام 2045، هذا هو الحلم الذي أطلق عليه «الخلود الرقمي» والرفع من ذكاء الإنسان، فلن تعود العبقرية مجرد هبة طبيعية، بل سيتم صنعها حسب الطلب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©