الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكاتب - العنكبوت

الكاتب - العنكبوت
10 أغسطس 2016 20:49
د. أم الزين بنشيخة المسكيني لماذا لا تنفكّ شاشاتنا عن تأثيث نشرات الأخبار بإحصاء القتلى، أو بإحصاء نسبة سقوط الدولار أو ارتفاعه، كما لو أنّ انتعاش سوق البورصة مرتبط رأساً بحزن أوطاننا الصغيرة على الضحايا الذين يسقطون كل يوم في مدائننا الحزينة؟ لماذا وبدلاً عن المراوحة المرعبة بين صور الضحايا وانتصارات الدولار لا نخبر كل يوم عن عدد القصائد أو الروايات أو الأفلام، أو القصص التي كُتبت هنا وهناك على ورق الحلفاء أو على شبكة العنكبوت؟ نعم من حقّ القتلى فضح القتلة، لكن من حقّ الأحياء أيضاً مقاومة صناعة القتل بالسرد والقصائد والأغنيات. وبقدر ما تقتل الأجندات الإرهابية المتوحّشة، وتحت كل عناوين الإرهاب الإمبريالي العالمي، وبقدر عدد الضحايا والموتى تولد كل يوم قصائد وروايات وأغنيات جديدة : هي حارسة الحياة، وهي الضامنة لتدفّق المعاني دوماً من جهة أخرى. ربّما سيضحك القارئ صاحب الأسهم وسيهمس في نفسه، في حال يملك نفساً: وأيّ شأو للكتابة وللكتّاب، باعة الأوهام، وسكّان مناطق الظلّ وضفاف الوجود الورقي الذي لا يُحتمل؟ وفي عصر شيّد نموذج الإنسانية على قيمة الاستهلاك لا شيء ربّما ننتظره من هذا النمط من الإنسان المسعور بالاستهلاك غير المعنى الحرفي للعبارة كما ترسمه لغة الضاد في ضرب من اللعب اللغوي ذي الرمزية العميقة: لا شيء غير طلب الهلاك. ورغم أنّنا قد صرنا جميعاً نسكن عالماً معولماً واحداً يستهلك نفس البضائع والماركات ويقود نفس السيّارات ويتبادل نفس المعلومات ويتعطّر بنفس العطورات، فيبدو أنّ الفرق العميق بيننا وبين الغرب إنّما يكمن في مدى اهتمامهم بالثقافة والكتاّب والمبدعين، في حين لم تبدأ ثقافتنا بعدُ في التأريخ لنفسها من وجهة نظر كتّابها ومبدعيها. لا يزال الشاعر في أوطاننا يطلب ثوباً ولا يزال الفيلسوف يقبع في طيّات كتاب. لقد وُلد الكاتب في الثقافة الغربية منذ عصر التنوير ومع مقولة العبقرية الرومانسية بخاصّة، ثمّ مع ولادة الجنس الأدبي بشكل مخصوص. ولقد أعلن الغرب عن «موت الكاتب» مع رولان بارط ومع أقطاب فلاسفة الاختلاف والتفكيك مع فوكو وليوتار ودولوز ودريدا منذ سبعينيات القرن العشرين. والسؤال الذي يؤرقنا ههنا هو: هل وُلد الكاتب في ثقافتنا حيث ينبغي أن يولد، أي في الكتابة وليس في بلاط الملوك كما في الثقافة العربية الوسيطة، أم لا يزال الكاتب يكتب أحياناً خلسة كي لا يُجلد أو يُعدم كلّما أشار إلى حيف في السلطة؟ لماذا لا تزال ثقافتنا تعدم الشاعر من أجل قصيدة؟ بيكات قال ذات مرّة : «لا يهمّ من يتكلّم ؟» فالكلمة حرّة حيثما نطقت بها الألسن. لأنّها ليست حكراً لا على مؤسسة الدولة ولا على مؤسسة اللاهوت. ليست الكلمة ملكاً لأحد حتى للكاتب الذي ينطق بها ويوقّعها. وذاك هو معنى أطروحة «موت الكاتب» التي أعلن عنها رولان بارط في نصّ له بهذا العنوان سنة 1968. لكن هل أنّ «موت الكاتب» حدث جنائزي حزين؟ أم هو استعارة أدبية للتأريخ لضرب جديد من علاقتنا بالكتاب وبالكتابة فرضته تحوّلات عميقة في تصورنا للعالم وللإنسان معا؟ من هو الكاتب؟ يبدو مفهوم الكاتب مفهوماً حديث العهد، فهو مفهوم لم يكن موجوداً لدى الإغريق القدامى ولا في العصور الوسطى، حيث الكلمة تأتي إلهاماً من الآلهة أو من الربّ. وقد كان ينبغي انتظار اكتشاف الطباعة من أجل أن تكون الكتابة ممكنة بالمعنى الصناعي الدقيق لها. وفي الأصل اللاتيني لها تعني عبارة المؤلف أو الكاتب حرفياً «من ينمو، ومن يدفع بالأشياء نحو النموّ، ذاك الذي يزيد أو ينمّي أو يضخّم الوقائع بريشته. وبالإضافة إلى هذه الدلالة الحرفية علينا الإشارة إلى ارتباط عبارة الكاتب بمعنى السلطة أو النفوذ، وهي ترجع إلى أصل لاهوتي لأنّ من له السلطة، سلطة الكلمة والتشريع والخلق هو الربّ ، وذلك على شاكلة النصّ القرآني الكريم ..قال له «كُن فيكون» . وفي الحقيقة كل الثقافة التوحيدية تقوم على أصل قدسيّ للكتاب وللكلمة وللقراءة، ما يجعلها جميعاً تنفتح على آيات قدسية من قبيل « اقرأ»، أو «في البدء كانت الكلمة» أو «الكتاب المبين» أو «أهل الكتاب». أمّا عن الثقافات الوثنية من جنس الثقافة اليونانية القديمة فهي ثقافة يغيب فيها مفهوم الكاتب وتعوّضه كلمة الشاعر الملحمي الذي يستلهم كلامه من الآلهة، وحيث يصلح الشعر عندهم من أجل تمجيد الآلهة الخالدين والأبطال من البشر. وقد رفض أفلاطون في محاورة الفيدروس الكتابة ورفض علم هرمس الإله الشرقي لأنّ الكتابة في نظره تضعف الذاكرة ولأنّه في غياب الكاتب –الأب، تصير الكتابة يتيمة، وعليه فإنّ «أكثر الطرق قدرة على حفظ العلم هو عدم الكتابة» والاقتصار على الخطاب بما هو مشافهة ومحاورة بين النفوس الفاضلة. فالفيلسوف هنا محرج وعلى خلاف الشاعر بغياب الكاتب الذي لن يكون هناك لضمان المعنى، فأفلاطون إنّما يخاف أن يُقرأ المكتوب في غياب كاتبه على نحو سيّئ. أمّا في اللغة العربيّة فنحن نعثر على مفهوم الكاتب، لكن في تعابير مختلفة من قبيل مفهوم المدوّن أو الناسخ أو المصنّف . وفي حين نعثر على لفظة الكتاب في القرآن ضمن 261 موضعاً، تظهر عبارة الكاتب في معان مغايرة للمعنى المتداول بيننا اليوم . ويمكن الإشارة فقط إلى ثلاثة معانٍ للكاتب: المعنى الأوّل يرد في صيغة الجمع وفي معنى دقيق هو «كتبة الوحي» (أي بعض الصحابة الذين اختصّهم الرسول بكتابة القرآن عنه) . والمعنى الثاني جاء في صيغة المثنّى هو «الكاتبان» أي «الملكان الموكّلان بتسجيل أعمال الإنسان» . أمّا المعنى الثالث فهو الأكثر طرافة، وقد جاء في صيغة الفعل «كاتب السيّد عبده أي اتّفق معه على أن يكون حرّاً إذا أدّى قدراً معيّنا من المال». أمّا عن عبارة المؤلّف فنحن نعثر عليها في صيغة نعت أو صفة «المؤلّفة قلوبهم أي المستمالة قلوبهم بالإحسان والمودّة». ورغم ذلك فإنّ المؤرّخين يعتبرون أنّ مفهوم المؤلّف قد برز عربيّاً في القرن السابع الميلاديّ ، وقد أُطلِق على أوّل من صنّف كتاباً في المثالب وهو زياد بن أبيه (675م). ولقد كانت فكرة المؤلّف مهمّة في الأدب العربي القديم، بحيث لا يمكن لأيّ نصّ أن يكون ذا سلطة وحجّة إلاّ متى نُسب إلى مؤلّف ذائع الصيت أي إلى سلطة معرفية معترف بها عند أهلها. ومن ثمّة كان الحديث يجري عن صورة المؤلّف- الأصل، أي القائم على ضرب من الهويّة الأدبية ومن فكرة الأبوّة. وعليه ليس ثمّة مجال لليتم في ثقافة تقوم على فكرة الهويّة كسقف تأويلي وأنطولوجي لها. وعلى النقيض تماماً من هذه الصورة العربية الكلاسيكية للمؤلّف قامت أطروحة «موت الكاتب» في الثقافة الغربية المعاصرة من أجل توقيع تحوّل عميق فتح المجال أمام ولادة حقل تأويلي جديد لجملة من المفاهيم المغايرة من قبيل النصّ والتناصّ والكتابة والقارئ والمتلقي وأفق الانتظار. موت الكاتب مات الكاتب ولم تبق لدينا غير النصوص . هكذا وقّع العقل الغربي منذ سبعينيات القرن العشرين حدث موت المؤلّف. وهو موت لا يشبه الموت بأيّ شكل. ههنا يصير الموت ضرباً من الاستعارة التأويلية والأدبية النقدية الكبيرة التي اجتمع حولها ثلّة من كبار المفكّرين من قبيل دريدا (1967) رولان بارط (1968) وفوكو (1969) ودولوز(1969) وليوتار(1979)، وذلك بالتعبير عنها بأشكال مختلفة من «نهاية عصر الكتاب»(دريدا) إلى نهاية السرديات (ليوتار) إلى الكتابة اللاشخصية المشتركة (دولوز وغاتاري ). ولقد وقع استهداف مفهوم المؤلّف بالنقد آنذاك ضمن نقد أدبي وفلسفي عامّ للنزعة الإنسانوية والفردية التي اشتغلت تحت رايتها الأنظمة الفاشية، حيث لم ينتج عنها غير الحروب والضحايا والدمار. ولقد مثّل مفهوم المؤلّف مقولة رمزية لهذه النزعة الإنسانوية التي قرّر المفكّرون تجاوزها نحو شكل مغاير من العلاقة بالكتابة، شكل يفسح المجال للقارئ من أجل المشاركة في تبادل المعاني وسياسات الحقيقة بشكل ديمقراطي. فلم يعد معنى النصّ رهين مقاصد الكاتب ولا انفعالاته الشخصية ولا أمراضه النفسية. بل صارت اللغة هي التي تتكلّم وليس المؤلّف، وعليه فإنّ معنى النصّ هو نتاج فعل الكتابة نفسها . ليس المؤلّف غير ما يكتب وهو مطالب بأن يتخلى عن ركح المعنى لفائدة القارئ. ذلك أنّ الذات الكاتبة ليست سوى كائن ورقيّ لا يرى منه القارئ غير سلسلة من الجمل التي لا تصلح إلاّ من أجل إنصاف جمل أخرى تمّ إسكاتها حيفاً. لا شيء في النصوص ينتظر تفسيراً، لأنّ ليس ثمّة من معنى وحيد وأصليّ ومبدئي في عمق النصوص، بل ثمّة دوماً فضاءات تأويلية حرّة بحسب تلقّي القرّاء لها . ففي كلّ مرّة نمنح فيها نصّاً ما إلى كاتبه إلاّ وفرضنا عليه ضرباً من توقّف المعنى، وذلك في حدود دلالة نهائية تغلق باحة الكتابة بضرب من السلطة الأبوية. ههنا يكتشف المعاصرون أنّ يُتم الكتابة قد يكون أفضل لها من وجه المؤلّف- الأب، وذلك في ضرب من قلب للأفلاطونية التي كانت تخشى يُتم الخطاب، في شكل من تجاوز صورة الكاتب المتسلّط على دائرة المعنى. ورغم ما في «موت المؤلّف» من مكاسب تجدّد ماهية الكتابة نفسها، وتحرّر المعاني من كل سلطة مستبدة حتى ولو كانت سلطة الكاتب، فإنّ هذه الأطروحة تشكو من بعض مواطن الخلل. وهو ما بيّنه مفكّرون من قبيل فوكو نفسه صاحب أطروحة «موت الإنسان» التي أعلن عنها في آخر كتابه الكلمات والأشياء(1966). ربّما يكون الإعلان عن أطروحة «موت الإنسان» ، والتي تمثّل الحقل النظري العام لظهور أطروحة «موت الكاتب»، تحتاج إلى المراجعة. والسؤال المؤرق حينئذ سوف يكون: كيف تؤرّخ ثقافة ما لمقولة الكاتب؟ وفي أيّة لحظة من تاريخها؟ في لحظات الوهن أم في لحظات الانتصار والمجد؟ وربّما ينبغي علينا السؤال عربيّاً أيضاً : أيّة دلالة رمزيّة لأن تُقدم ثقافة ما على اغتيال كتّابها ومبدعيها؟ أيّ شكل من الوهن أصابها، وأيّ مدى للفشل الذي مُنيت به ؟ ومتى نؤرّخ لأنفسنا من وجهة نظر الكتّاب والأحداث الفكرية الكبرى لا من وجهة نظر الملوك والسياسات المرتعشة؟ شهرزاد تهزم الموت بالسرد إذا كان الكاتب قد مات في النظريات النقدية ما بعد البنيوية، فإنّ مبحث القرابة بين الموت والكتابة يجد حدوده في الثقافات القديمة والوسيطة، حيث إنّ الملحمة كانت تصلح لدى الإغريق لتخليد الأبطال. وهو ما نعثر عليه أيضاً لدى الثقافة العربية الوسيطة في ألف ليلة وليلة نموذجاً. وهو ما يثير إعجاب مفكّر غربي في قامة ميشال فوكو الذي يقرّ أنّ شهرزاد كانت تقصّ كامل الليل من أجل ألاّ تموت. فقد كانت تهزم الموت بالسرد وتبعده كل ليلة خارج دائرة الوجود. إضافة إلى ذلك، يبدو أنّ أطروحة «موت الكاتب» تستعيد على نحو ما البراديغم اللاهوتي الذي تدّعي استبعاده من دائرة الكتابة منذ البداية. بحيث إنّ الكلام عن الكتابة في لغة الغياب، غياب المؤلّف، هو ضرب ما من إعادتها إلى المبدأ الديني، القائم على الغيب والغائب والمعنى الخفيّ وبقاء الأثر فيما وراء مؤلّفه.. الحامي من التخييل يتدفّق التخييل مثلما تتدفّق في هذا العالم كل أشكال الخراب : من يحمينا من تدفّق المعاني؟ سؤال غريب نعثر عليه تحت قلم فوكو في نفس النصّ الذي يحمل عنوان «من هو المؤلّف؟» (1969) وهو يصوغه كما يلي :« كيف يمكننا اجتناب الخسارة الكبرى والخطر الأكبر الذي يهدّدنا به التخييل؟». ويجيب بأنّ المؤلّف هو الوحيد القادر على إقامة حدود للتدفّق الخطير للدلالات، في عالم أصبحنا فيه نقتصد لا فقط في المصادر وأشكال الثراء بل وأيضاً في خطاباتنا الخاصة وفي دلالاتها. فالمؤلّف بهذا المعنى هو إذن «مبدأ الاقتصاد في تدفّق المعنى ». وهو المعنى الجديد الذي به يقلب ميشال فوكو مفهوم المؤلّف. بحيث لم يعد المؤلّف عبقريّة وقدرة خلاّقة تنبثق من الأثر الذي تنتجه، محمّلاً بثراء لامحدود من المعاني. وليس المؤلّف ذاك الذي كلّما تكلّم تدفّق عنه المعنى على نحو لامتناه، إنّما المؤلّف هو «المنظّم لعمليّة تداول المعاني في ثقافة ما». ويمكن أن تنظّم ثقافة ما حقل المعاني دونما المرور حتماً بصورة المؤلّف. ثمّة ثقافات ليس فيه مؤلّف لكنّها تنتج معانيها على شكل مغاير. وربّما ستندثر وظيفة المؤلّف في المعنى الحالي لها مستقبلاً، بحيث لن يسمع أبناء المستقبل أسئلة من نوع : من تكلّم ؟ ومن قال ذلك ؟ وأيّة أصالة في هكذا قول؟ وأيّ معنى عميق قد عبّر عنه؟ إنّما ستأتي من جهة ما أسئلة جديدة من نوع : ماهي أنماط وجود هذا الخطاب؟ من أيّة جهة يأتينا؟ كيف يمكنه أن يشتغل؟ أزمة مفاهيم أسئلة جديدة : ذاك هو ما نحتاجه دوماً في لحظة الأزمات. ليس العالم وحده في أزمة، أزمة عالم قد سقط ..لكنّ مفاهيمنا هي الأخرى في أزمة وربّما تكون قد أصابها التعب أو الصدأ. ذاك هو ما نفكّر به حينما يشتكي معظم الناس اليوم من نفور أبنائنا من الكتاب ومن الكتابة ومن بقاء الكاتب وحيداً. فالكاتب لا يخشى من الموت في المعنى المجازي والتأويلي مثلما جاء تحت قلم رولان بارط، بل أكثر من ذلك هو يخشى فعلاً من اندثار صناعته. ربّما لن يكون للكاتب خلف. وربّما لن يكتب أبناؤنا كما كتبنا كتباً ولن يقرأوا روايات ولن يكون لهم علاقة بالعالم الورقي مستقبلاً، لكن لا شيء يدعو إلى البكاء. نعم مات القارئ أيضاً في ديارنا لكنّ شكلاً من القرّاء هو بصدد الولادة والتدفّق في كلّ لحظة. نحن نشهد على ولادة الكاتب الديجيتالي والقارئ الإلكتروني والكتابة الافتراضية . فأكثر من نصف سكّان الأرض قرّاء وكتّاب افتراضيون . لا شيء يدعو إلى القلق على مستقبل الكتابة والقراءة في العالم. وحدهم أصحاب القلوب الواهنة يتمسّكون بالعادات القديمة في ممارسة الفكر. وربّما لن تكون طريقتنا في الكتابة والقراءة إلى حدّ الآن غير مزحة مضحكة بالنسبة إلى أطفالنا القادمين من المستقبل، فلنتجرّأ على الولوج إلى المستقبل بعقول أكثر حريّة وببهجة أكبر. بانتشار الشبكة الافتراضية، انتصر العنكبوت وعلق في شباكه القرّاء والكتّاب معاً. لكن هل يكون عنكبوتاً مشؤوماً أم سيكون عنكبوتاً حارساً للأنبياء؟ ولا يهمّ حينئذ إن كانت النبوّات صادقة في عصر ما بعد علماني، ما بعد ديني وما بعد إنسانيّ معاً. هكذا هي الإنسانيّة تغيّر حقول المعنى وتجدّد آفاقها كلّما أرادت خطّة التاريخ العميقة منها ذلك. كتابة يتيمة أفلاطون رفض الكتابة لأنّها في نظره تضعف الذاكرة، ولأنّه في غياب الكاتب /‏‏ الأب تصير الكتابة يتيمة، وعليه فإنّ «أكثر الطرق قدرة على حفظ العلم هو عدم الكتابة» والاقتصار على الخطاب بما هو مشافهة ومحاورة بين النفوس الفاضلة. فالفيلسوف هنا محرج وعلى خلاف الشاعر في غياب الكاتب الذي لن يكون هناك لضمان المعنى. فأفلاطون إنّما يخاف أن يُقرأ المكتوب في غياب كاتبه على نحو سيئ. معاني الكاتب نعثر على لفظة الكتاب في القرآن ضمن 261 موضعاً، وتظهر عبارة الكاتب في معانٍ مغايرة للمعنى المتداول بيننا اليوم. ويمكن الإشارة فقط إلى ثلاثة معان للكاتب: المعنى الأوّل يرد في صيغة الجمع وفي معنى دقيق هو «كتبة الوحي»؛ وهم بعض الصحابة الذين اختصّهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بكتابة القرآن عنه. والمعنى الثاني جاء في صيغة المثنّى وهو: «الكاتبان»، أي «الملَكان الموكّلان بتسجيل أعمال الإنسان». أمّا المعنى الثالث فجاء في صيغة الفعل «كاتَبَ السيّد عبده أي اتّفق معه على أن يكون حرّاً إذا أدّى قدراً معيّناً من المال».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©