الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بودلير ودي لا كروا.. أو لقاء الأرواح

بودلير ودي لا كروا.. أو لقاء الأرواح
10 أغسطس 2016 21:13
كتابة - برتيليمي جوبار ترجمة - أحمد حميدة إنّ هذه الرّباعيّة المكرّسة من بودلير إلى دي لا كروا في «المنارات»، ملازمة لأسطورة هذا المعلّم، ولا تخلو من إلماح رمزيّ للعلاقة التي جمعت هذين الطبعين الجماليين، الأكثر علوّاً وبلاغة خلال القرن التّاسع عشر. على أنّ النظرة التي رأى بها الشّاعر.. الرسّام، تبدو أكثر إرهافاً في التّفسير الذي قدّمه بودلير، ضمن الإضافة غير المنشورة لمقال كتبه سنة 1855 بمناسبة المعرض الدّولي في باريس، وقد نظم بتلك المناسبة، وفي قسم الفنون الجميلة، معرضاً استذكاريّاً لأوجين دى لا كروا، وفي قصيد «المنارات» كانت تلك الكلمات المنوّهة بدي لا كروا، والمثقلة بالدّلالات: «بركة دم: الأحمر، تسكنها ملائكة أشرار: النّزعة الخارقة للطّبيعة، غابة دائمة الاخضرار: الأخضر، المكمّل للأحمر، سماء مفجوعة: خلفيّات لوحاته العاصفة والمرعدة، الفرق الموسيقيّة وفيبير: خواطر عن الموسيقى الرّومانسيّة التي تثير تناغم الألوان..». دي لا كروا، بركة دم تسكنها ملائكة أشرار تظلّلها غابة تنّوب دائمة الاخضرار حيث، تحت سماء مفجوعة، تمضي فرق موسيقيّة غريبة كتنهيدة مختنقة لفيبير من «منارات» بودلير بهذه الكلمات يكون بودلير قد شخّص الملامح الأصيلة لدي لاكروا في المشهد الرّومانسي الفرنسي: الاشتغال العميق على اللّون المعبِّرِ بذاته عن ذاته، والذي يحتلّ في رسمه المكانة الأولى، مع منزلة خاصّة للّون الأحمر، البعد الخيالي.. العجائبي في لوحاته، وعلى وجه الخصوص في أعماله المحفورة على الخشب «وأفكّر تحديداً في طباعته على الحجر لفاوست سنة 1827»، ثمّ الحيّز الذي يشغله المشهد الطّبيعي في خلفيّة اللّوحة في العديد من أعماله، لأنّ دي لاكروا وإن لم يكن البتّة من رسّامي الطّبيعة، فإنّ تشكيلاته التّاريخيّة تنطوي في العديد من لوحاته على خلفيّة وقورة ومهيبة جديرة بكُورُو وكُوربِي، وبحساسيّة بالغة، وبكلمات مختصرة، يبرز بودلير المكانة الجوهريّة للموسيقَى في التّصاميم الجماليّة لديلاكروا، متخيّراً إضافة إلى ذلك مثَالَ موسيقيّ كان يعشقه، وإن كان يراه دون منزلة موزار وشوبان. علاقة غير حميمة وكان كلّ من الرّجلين يعرف الآخر، ولكنّ علاقتهما على ما يبدو لم تكن قط حميمة. كان بودلير ينتمي إلى جيل آخر، ولم يبلغ أبداً، ودي لا كروا لا يزال حيّاً، شهرة تجعل هذا الأخير ينتبه له. ولم يكونا ليتردّدا على نفس الأوساط (وبالإضافة إلى ذلك لم يعد دي لاكروا ليخرج كثيراً منذ نهاية 1840). ورغم ذلك التقى الشّاعرُ والنّاقدُ.. الرسّامَ أكثر من مرّة. كان دي لاكروا يثير لدى الشّاعر حالة انبهار تعجّبيّ، فيما لم يكن الرسّام لينتبه كثيراً للشّاعر، ولا يكاد يلمح إلى زيارة هذا الأخير للصّحيفة سنة 1849، ليكتب إليه ولا شكّ رسالة شكر على مقالاته، وعلى ترجمته لإدغار آلن بو، الذي قرأه وأعجب به سنة 1856. كنّا نتمنّى لو أنّه أدلى برأيه حول «أزهار الشرّ»، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. أمّا التّراسل بينهما فكان إهليليجيّاً: ففي سنة 1845 اعتذر دي لا كروا لبودلير، لتعذّر استقباله مع مالاسّيس «ناشر أزهار الشرّ»، ومرجئاً لقاءهما إلى موعد لاحق، كما شكره بعد عشر سنوات على مقالاته النّقديّة وما جاء فيها من امتداح وإطراء. وعندما فعل نفس الشّيء بصدد «أزهار الشرّ»، أبدى سنة 1858 معارضته لمقالاته النّقديّة والجماليّة، التي كان بودلير يريد تجميعها، فيما غدا دي لاكروا يميل إلى تقييم تلك المقالات بصرامة، كما جدّد له الشّكر على المساندة التي أبداها نحوه، حين انعقد صالون 1859، واستنزفته بعض الأطراف الصّحفيّة، وكذلك الأمر سنة 1861 حين تفهّم بودلير واستوعب أعمال المعلّم في سان سولبيس. في النّهاية، ولئن كانت اللّقاءات بين الرّجلين منتظمة، فإنّها ظلّت قليلة، وتمّت بمبادرة من بودلير، لا من دي لاكروا، الذي كان يعرف كيف يكون صارماً ومازحاً في آن، فكتب له في ديسمبر 1856 «لقد عثرت على كتيّب لك عن تيوفيل غوتيي.. جميل، وبه النّقائص ذاتها المبثوثة في كتاباتك الأخرى، إنّها تبلغ حدّاً من الرقّة والذّكاء، تجعل قراءتي لهذا الكتيّب أمراً مستعصياً». و مع ذلك، فلا شكّ أن بودلير كان مع طوري بيرجي، أفضل من أحسّ وفهم دي لا كروا، وهو لا يزال على قيد الحياة، وحين أورد ذكره في «المنارات» بعد روبنس، دافنشي، رامبرندت، مايكل أنجلو، بوجي، واطّو وغويا، لم يكن ليحدّد سلالة هؤلاء المبدعين الكبار فحسب، إذ لم يخف انبهاره بدي لا كروا الذي كان يرى فيه آخر الكلاسّيين، والكلاسّيكيّ المجاري لإيقاع العصر. لقاء فكري تعليقات كثيرة عابت على بودلير استهواءه لكونستنتان غيس، ولكنّها انتقادات تتغافل عن إعجاب بودلير البالغ والاستثنائي بدي لا كروا، وخاصّة بأعماله الأخيرة «حين بدأ بودلير يهتمّ بالرّسم، كان دي لا كروا قد خلّف وراءه جانباً كبيراً من أعماله، اللّوحات الرّومانسيّة العظيمة، والأعمال الزّخرفيّة في لكسمبورغ و بقصر بوربون»، وإنّه للتّغافل أيضاً عمّا جمع بين الرّجلين: الحوار «ألف شكر عمّا أبديته من آراء، وإنّي لممنون لك عمّا أوردته في أزهار الشرّ»، هكذا كتب دي لا كروا لبودلير في فبراير 1858. كما كتب له يقول «لقد تحدّثت فيما مضى عن ديوانك بكلام عابر، ولكنّني أدرك الآن أنّه جدير بأكثر من ذلك». في إمكاننا الحديث عن لقاء فكريّ بين الرّجلين، ولكن أيضاً عن لقاء مرهف وحميميّ. ودي لا كروا الذي كان محادثاً ذكيّاً ومفكّراً لامعاً، لم يكن بوسعه غير التّأثير في الشّاعر الذي كان يصغره سنّاً، على أرضيّة كانت تجربته الخاصّة تجعله حتماً في مرتبة أكثر علواً. وثمّة مقاطع من يوميّات لدي كروا كان يتناقلها أصدقاؤه الشّخصيون، وإذ اطّلع عليها بودلير بعد مضي عشرين سنة على وفاة الرسّام (الذي اختفى سنة 1863) أي حين تمّ نشرها، فإنّه كان يأمل في سلسلة المقالات الرّائعة التي كتبها بعد وفاته، والمنشورة بصحيفة «الرّأي الوطني»، الاقتراب أكثر من حقيقة الرسّام، لتتبدّى في الثناء عليه، صورته هو شخصيّاً: «ما عسى أن يكون ذلك الشّيء الغريب الذي توفّق دي لا كروا، ولمجد قرننا هذا، ترجمته بجلاء أكثر من غيرها؟ إنّه اللامحسوس، إنّه الحلم، إنّه الإمكان، إنّها الرّوح». .................................................... * برتلمي جوبير: أستاذ في تاريخ الفنّ بجامعة غرونوبل، وله دراسة عن دي لا كروا بعنوان «دي لا كروا، الخطّ الرّومنطيقيّ». صيد الأسود كان بودلير من أشدّ المعجبين بلوحات ديلاكروا. وقد وصف لوحته صيد الأسود بقوله إن فيها تفجّراً للألوان يثير الإعجاب. كما أن الحيوانات في اللوحة تزأر وتزمجر. وإذا كانت هناك لوحة تمزج بين الوحشية والتعبيرية في أجلى صورهما، فإنها ولا شكّ هذه اللوحة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©