الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحمد بن حنبل نهى عن كتابة فقهه

7 سبتمبر 2008 00:59
يعتبر الإمام أحمد بن حنبل مؤسس آخر المذاهب السنية الأربعة، وهو المذهب الحنبلي، وأقوى شخصية في معسكر أهل السُّنّة بعد وفاة أستاذه الإمام الشافعي· ولم يكن تأسيس المذهب عن قصد منه أو إعداد من جانبه، بل نهى في حياته عن كتابة فقهه، ولكن كتبته وتلاميذه وحواريه هم الذين حفظوه في حياته ومماته، وهو ما يتجلى في كتابيْ ابن أبي يعلي: الطبقات، والعدة· وكما اختلف الناس على أبي حنيفة قبله، فقد اختلفوا بالمثل على ابن حنبل، فقال عنه بعض الفقهاء: ''إنه جمع العلم كله''، بينما قال آخرون: ''إنه ليس من الفقه في شيء''، غير أن الشافعي أنصفه حق إنصاف حينما قال عنه: ''تركت بغداد إلى مصر، وما فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل''، كما ذهب لذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء· ولذا فإن الإمام قد ظلم حياً وميتاً، فقد كانت حياته كفاحاً ونضالاً متصلاً ضد الفقر وضد عادات عصره، ودافع عن صحيح السُنّة والعقيدة· وجمعت فيه خصال الورع والزهد من ناحية، والنضال والكفاح في الدفاع عما يراه حقاً مهما تكن العواقب والمحن التي سيتعرض لها من ناحية أخرى، وهذه الحقيقة وحدها هي التي حملت تلاميذه والمعجبين به على أن يُفرغوا تعاليم أستاذهم بعد موته في قوالب وأنساق محدّدة، وفي منظومة من القواعد والمبادئ الحاكمة لفكره· كما أنهم ضّموا صفوفهم وتساندوا فيما بينهم لكي يؤلفوا مدرسة فقهية متماسكة الأركان بعد موته سُميت باسمه، فكان نشوء المذهب الفقهي الحنبلي الذي نسب للإمام دون توصية منه أو تدبير سابق· وهو ما كان أبرز الدلائل علي صدق حجته وقوة عقيدته وتأثيره في الآخرين، ليس في عصره فحسب، بل والأهم في العصور التالية، مما أهلّه لأن يكون في صفوة المجددين في الإسلام· وكان عالماً، أوقف علمه على ناحية واحدة، هي القرآن والحديث، وما انعقد من إجماع المسلمين في العرف الذي جروا عليه، ولذا فإنه قد خالف سابقيه الشافعي وأبا حنيفة في مسألة الاجتهاد والقياس، ولم يأخذ بهما· غير أن ذلك لا يقل من منزلته في الدفاع عن السُنّة والقرآن ضد مدعي الفقه والعلم، فقد كان رضي الله عنه واسع الخبرة بهذه الموضوعات، وراسخ القدم فيها، كما ذهب لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في جامع الرسائل· أما العلوم الدنيوية فيبدو أنه لم يكن على حظ كبير منها، ولذا فقد كان هذا الضرب من العلوم الشرعية، مضافاً إليه شجاعته الأدبية المنقطعة النظير ورباطة جأشه، سلاحه الماضي في الحرب الجدلية التي أوقد المأمون والمعتزلة نارها بخصوص مسألة خلق القرآن· ويشهد كتابه ''المُسند'' بسعة إلمامه بالعلوم الدينية الإسلامية، ويشتمل على 30 ألف حديث من الأحاديث المسندة لأكثر من 700 ألف صحابي، انتقاها ابن حنبل وانتحلها من قرابة 700 ألف حديث· وقد ساعد هذا الكتاب القيم والكتب الأخرى التي اشتقت منه على إحلال الحديث مكانة رفيعة وتالية للقرآن كمصدر من مصادر الفقه والتشريع الإسلامي، في وجه كل من طالب بتنحية السُنّة والاكتفاء بالقرآن، كمصدر وحيد للتشريع والفقه· وعلى الرغم من تشدده في حياته بالكثير من المسائل الفقهية، وتشدد تلاميذه من بعده، فهو في النهاية لم يكن متعصباً لرأي ارتآه، بل كان يحاور ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح، ولذا فقد نهى في حياته عن كتابة فقهه لأنه، رضي الله عنه، كان كثير العدول عن آرائه!· وأما عن دوره إبان حركة الاضطهاد الديني التي بدأها المأمون، والتي تعرف بمحنة خلق القرآن، فقد قام ابن حنبل بما لم يقم به غيره من تعزيز روح المقاومة في حزب السُنّة، ومناهضة جهود المأمون والمعتصم وعمّالهما في قمع أنصار السُنّة· وقد كان طوال مدة المحنة رأساً يقتدي الناس به، وينتظرون منه قولاً ليقووا به· وثمة إجماع أن وراء موقف ابن حنبل المتشدد خلال تلك المحنة، اعتبارين كان واعياً بهما أشد الوعي والإدراك: ؟ أولهما، الإحساس بأنه لا بقاء للإسلام إلا ببقاء السُنّة المكملة له· ؟ ثانيهما، الاعتقاد بأن إثارة محنة خلق القرآن كان الدافع إليها في حقيقة الأمر ميل المأمون ومن تبعه من الخلفاء العباسيين وعمالهم إلى مساندة الجبهة الأوتوقراطية، وقوامها من الوزراء والكتاب والولاة والإداريين المحترفين الذين أصبح جُلهم من الفرس، الراغبة في تعزيز سلطان الخلافة وسلطانها المدنية، وفي كسر شوكة العرب والفقهاء من أعدائها· وقد كان من أبرز وسائل مناصري تلك الجبهة لتحقيق غايتهم أن يحرروا الخليفة من إذعانه لأحكام الشريعة، نظراً إلى أن هذا الإذعان إنما يعني إذعانهم هم أيضاً في ممارسة سلطانهم لرقابة منافسيهم وخصومهم من الفقهاء وعلماء الدين الذي يبغون أن تكون الحياة المدنية هي انعكاساً وتطبيقاً للإسلام، وليس انفصاماً عنه وأحكامه، ولذا فقد وجدوا في إحدى نظريات المعتزلة ما قد يصلح لأن يستندوا إليه في سبيل تحقيق غرضهم، وهي النظرية القائلة بخلق القرآن· لأن القول بأن القرآن غير مخلوق، وأنه قديم قدم الله، يعني في النهاية أنه مساو له عز وجل في القدر والمكانة، وتعبير كامل عن حقيقته، وفي حين أن القول بأن القرآن مجرد كلام الله سبحانه وتعالى، يجعله في مرتبة أقل، إذ سوف يكون هنا بمثابة غيره من المخلوقات الأخرى، كالناس والأنعام والجبال· ولذا فليس له إذن من المقام ما يعزوه إليه الفقهاء السُنّة· وهو ما يقود إلى النتيجة المبتغاة أن الخليفة يمكن أن يأخذ به وبأحكامه· أو ينحيه جانباً وفق ما يشاء· ولذا كان القول بخلق القرآن له مدلولان رئيسيان: ؟ الأول: يضعف وإلى حد كبير من الأسس العقائدية التي تقول بها آراء أهل السُنّة، التي تذهب إلى ضرورة أن يكون القرآن دستور المجتمع، والنظام السياسي الحاكم للدولة· ؟ الثاني: التأكيد على كون الحاكم فوق الشريعة وليست الشريعة فوق الحاكم، مما يعني فصل الدين في نهاية المطاف عن الدولة· وفي النهاية انتصر موقف الإمام ابن حنبل، وتجاوز أهل السُنّة أزمة كانت هي الأخطر على العقيدة والإسلام· وفي الواقع أن الإمام ابن حنبل كان متشدداً في كل ما يتعلق بالعبادات والحدود التي هي قوام الدين، لأنه رأى البدع تسود والناس يترخصون ويخرجون عن الدين، أما في المعاملات فقد اتخذ فيها مذهباً متحرراً ميسراً لحد كبير، بشكل يرقى إلى مكانة المصلح والمجدد· ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©